الفصل 6 : ظُروفُ ديانا وِيلينغتون ⁶
إلى الآنسة العزيزة ديانا ويلينغتون،
لا أستطيع نسيان لقائنا السّار، لذا أكتب إليكِ هذه الرّسالة. هل وصلتِ إلى المنزل بسلام مساء البارحة؟
بادئ ذي بدء، أعتذر لكِ عن تصرّفي الوقح في الليلة الماضية. لقد تملّكني القلق، فأخطأتُ في التّصرّف.
كعربون اعتذار، أُرفق بهذه الرّسالة باقةً من الزّهور التي أظنّ أنّها تليق بكِ.
لقد ترك لقاؤنا الأخير انطباعًا قويًّا لديّ.
كلماتكِ المتّزنة، وتصرفاتكِ الحكيمة جعلتني أُدرك من جديد أنّكِ قدوةٌ حسنة للآخرين.
بعد أن قضيتُ وقتًا ممتعًا برفقتكِ، بدأتُ أتوق شوقًا لمعرفة المزيد عنكِ.
رُبّما يكون التّقدُّم البطيء في علاقتنا أمرًا ممتعًا، لكن بما أنّ أحاديث الخطوبة قد بدأت بين عائلتَينا، فلا داعي للمراوغة.
فإن كان لا يُسبّب لكِ إزعاجًا، فهل ترسلين لي دعوة؟ أرغب بزيارة قصر عائلة ويلينغتون.
سأسعد كثيرًا إن أُتيحت لي فرصة قضاء المزيد من الوقت معكِ، ما دمتِ لا ترين في ذلك حرجًا.
حدّدي لي موعدًا يناسبكِ، وسأحرص على تنسيق جدول مواعيدي وفقًا لذلك.
في انتظار ردّكِ.
— إيان كروفورد
الخطّ المُنمّق على الرّسالة كان يفيض بالودّ والاهتمام.
لدرجة أنّ أيَّ شخصٍ قد يقرأها سيقع بسهولة في الفخّ.
لذا لم يكن من الغريب أن تبدو والدتها مفعمةً بالحماس.
“أصبحتُ أكثر فضولًا بعد أن قضينا وقتًا ممتعًا معًا…؟”
لم تستمرّ همهمتها بصوتٍ مشوب بالإحباط طويلًا.
فكما يتحوّل السائل إلى بخار عندما يبلغ نقطة الغليان، تحوّل استغراب ديانا سريعًا إلى غضبٍ عارم.
“كذّاب…! ما تقصده ليس الفضول بل شيءٌ آخر تمامًا!”
هل سمعت ما دار من حديثٍ حول إدارة الكازينو؟
هل تظاهرت بعدم السّمع، أم تَعمّدت تجاهله؟
لا بدّ من أن يعرف الحقيقة، ليُقرّر ما إذا كان سيقتلني أم لا!
‘أتظنّ أنني لا أُدرك ذلك؟ من تظنّني؟ مغفّلة؟’
كانت ديانا ترتجف من الخوف طوال الوقت منذ عودتها إلى المنزل.
لكن في هذه اللّحظة، مع انعدام قدرتها على التّفكير بعقلانيّة، خفَّت وطأة الرّعب أخيرًا.
‘ها، هكذا تُريدها إذًا؟’
لم تتوقّع أبدًا أن يتحوّل “الشرّير ذو العينين الضيّقتين” إلى دميةّ ملعونة.
لكنّ ما يهمّ، كالعادة، هو كيفيّة الخروج من هذا المأزق، وقد وجدت ديانا الحلّ بسرعة.
‘جيّد! سأُصرّ على أنّني لا أعرف شيئًا!’
مهما قال، سأضحك وأتجاهل كلّ شيء.
سأردّد بدوري كلماتٍ مُنمّقة عن الوقت الممتع الذي قضيناه معًا، ونرى ما سيفعل!
***
بعد أسبوعٍ واحد.
في وقت الظهيرة، اجتازت عربةٌ فاخرة تحمل شعار دوقيّة كروفورد بوّابة قصر ويلينغتون بسرعةٍ ملحوظة.
شاهدت ديانا العربة تقترب شيئًا فَشيئًا، وقبضت على مِروحتها بشدّة.
‘أنا سعيدة. أنا بخير. أنا مُتحمّسة.’
كانت تُلقِّن نفسها ذلك بإصرار.
‘لم أسمع شيئًا في ذلك اليوم. ومع ذلك، أنا سعيدةٌ جدًا بلقاء السيد الشّاب من جديد. إنّي متشوّقةٌ لرؤيتكً حدّ الجنون!’
يجب عليها أن تُظهر الحماس ولو بالقوّة.
ادّعاء الفرح، التّظاهر بالسّعادة، التّظاهر بالجهل.
مثل بطلات القصص اللّاتي يُعاملن كالحشرات المزعجة من قبل الأشرار، ستتصنّع البهجة بكلّ ما أوتيت.
‘هكذا فقط سأجذب انتباهه.’
لقد كان من المُؤلم أصلًا أن تجد نفسها في دور شخصيّةٍ ثانويّة، فهل عليها أيضًا أن تموت؟
ولا ضمان بألّا تتحوّل إلى شبحٍ مظلوم حتى بعد الموت.
‘سأقطع شارة الموت هذه من جذورها!’
كانت يد ديانا ترتجف بقلق.
في الجوار، ظنّت والدتها أنًّ توتّرها نابعٌ من سببٍ مختلفٍ تمامًا، ولم يكن ثمّة وقتٌ لتوضيح السّبب الحقيقيّ.
وأخيرًا، توقّفت العربة أمام القصر.
نزل منها إيان كروفورد، فابتسمت له ديانا ابتسامةً مُتقنة.
“أهلًا وسهلًا، سيد إيان! نُرحّب بك في قصر ويلينغتون!”
“سُررت بلقائكِ مجدّدًا، آنسة ديانا.”
أزال قبعته وانحنى بأدب.
“أشكرك على قدومك. لا تتصوّر كم أنا سعيدةٌ لرؤيتكَ مجدّدًا. بالمناسبة… هل أصبحتَ أكثر وسامةً خلال هذه الأيّام القليلة؟”
“هاهاها، بل أنتِ مَن ازدادت جمالًا، آنسة ديانا. شكرًا على دعوتكِ.”
“من سيرفض استقبال دوق المستقبل؟ اعتبر المكان بيتك، وتمتّع بإقامتك قدر ما تشاء!”
ازدادت ابتسامته إشراقًا.
“في هذه الحالة، هل تُنادينني بـ ‘إيان’ أيضًا؟”
“……”
“تصرّفي وكأنّني خطيبكِ، وكوني على راحتك.”
لقد كانت المجاملات الوقحة من شخصٍ شرّيرٍ مخيف تُسبّب دوارًا لديانا.
قبضت على مِروحتها بقوّة.
‘وكأنَّ هذا ممكن!’
لكنّها نجحت بالكاد في الحفاظ على ملامحها، وذلك بفضل والدتها التي ظهرت في اللحظة المناسبة.
“السيد الشّاب كروفورد، أهلًا بك.”
“الكونتيسة ويلينغتون.”
قبّل إيان ظهر يدها بأدب، وألقى التّحيّة.
“شكرًا على الدّعوة. أرجو ألّا أكون قد سبّبت إزعاجًا.”
“لا تقل هذا، منزلي ليس بفخامة قصر الدّوق، لكن آمل أن تتفهّم.”
“أبدًا، يُقال إنَّ المنزل يُشبه صاحبه، وما إن رأيتُ جمال القصر، علمتُ سبب ذلك بمُجرّد رؤيتكِ، سيدتي.”
‘ما بال هذا الرّجل؟ حتى في وجه المُسدّس لا يتغيّر تعبيره!’
رُبّما لأنّها كانت تستخدم الابتسامة نفسها لخداع الآخرين، بدا لها اصطناعُه واضحًا جدًّا.
“لقد أعددنا بعض الحلوى البسيطة. هل تتناولها معنا؟”
“بكلّ سرور.”
ما لم تتوقّعه ديانا، هو أنَّ والدتها جلست إلى طاولة الشّاي معهم، بدلًا من تركهما بمفردهما.
‘غريب. ظننتُ أنّها ستترك لنا الوقت الخاص.’
نظرتُ إليها بدهشة.
لكنّ الأمر سرعان ما اتّضح.
فبمجرّد أن جلسوا، تفوّهت والدتها بكلماتٍ لم تكن ديانا لتتخيّلها.
“ليس من اللّائق أن أمدح ابنتي بنفسي، لكن ديانا فتاةٌ طيّبةٌ بحق.”
كدتُ أن أبصق الشاي من فمي!
“لا تتخيّل كم كانت هادئةً ومهذّبة منذُ طفولتها. أليست جميلةً جدًّا؟”
“أمي!”
“يقول النّاس إنَّ الأطفال يُصبحون أكثر عنادًا مع مرور السّنين، لكنّ ابنتي لم تكن كذلك يومًا… لقد كبرت بشكلٍ جميل.”
ما الذي تتفوّه به الآن؟!
“ومنذ أن التقت بالسيد الشّاب، أصبحتْ مُضطربةً بعض الشّيء، لم أرها كذلك من قبل!”
“أرجوكِ… توقفي، أمي…”
“يا لكِ من فتاة! لا تَتَدخّلي هكذا.”
لا يا أمّي، لستُ خجولة، بل مذعورةً أيضًا!
‘أتُحاولين التّرويج لابنتكِ أمام الشرّير؟!’
وجه ديانا أصبح أحمر قانيًا من شدّة الحرج.
“كنتُ أخشى أن تقع في حبّ رجلٍ غير مناسب لأنّها فائقة الجمال. لكن أن تُصبح في مثل سنّها الآن، وتجلس معك، فهذا يُطمئنني، هاهاها.”
“أرجوكِ، توقّفي…”
“تتحدّثين بوقاحة! لا تقاطعي!”
“لا داعي للخجل، آنسة ديانا. من الطّبيعي أن يُحبّ الوالدان ابنتهما الوحيدة إلى هذا الحدّ.”
مُفارقةٌ غريبة، أنَّ ابتسامته بدت في تلك اللّحظة أصفى من أيِّ وقتٍ مضى.
صافيةٌ ومُخيفة لدرجة أنَّ مواجهتها باتت أمرًا صعبًا.
“تبدوان جميلَين وأنتما جالسَين سويًّا. خذا وقتكما بالحديث.”
“شكرًا على هذه اللّفتة.”
غادرت الكونتيسة بعد أن تركت خلفها إيحاءً واضحًا: “أرجوك، اعتنِ بابنتي”.
شعرت ديانا بأنّها تفتّتت من الدّاخل.
بينما بدا إيان مُستمتعًا إلى أقصى حد.
نظر إلى ظهر الكونتيسة المتوارية، ثمّ قال:
“يبدو أنَّ الكونت والكونتيسة يكنّان لكِ محبّةً عظيمة، آنسة ديانا.”
“أعتذر إن شعرتَ بالإحراج.”
“مُطلقًا. الكونت نفسه كثيرًا ما تحدّث عنكِ بفخر. ما زلتُ أذكر ذلك جيّدًا.”
“إنّه أمرٌ مُحرج…”
‘أبي… ماذا قلت بالضّبط في الخارج؟’
كادت ديانا أن تبكي من داخلها.
“إنَّ العلاقة الوثيقة بين الوالدين وأولادهما ليست مدعاةً للخجل، بل للحسد.”
عندما رفع فنجان الشّاي لتذوّق رائحته، خُيّل لديانا أنَّ نسيمًا رقيقًا لفح المكان.
“لقد أسأت التّصرّف بحقّك في المرّة الماضية، وأنا آسف على ذلك.”
أخيرًا عاد إلى صلب الموضوع.
شدّت ديانا أعصابها.
“أعلم أنّه قد فات الأوان، لكنّي أعتذر مرّة أخرى.”
“لا بأس، لقد مضى الأمر، لا داعي للقلق.”
“كنتُ مضطربًا ذلك اليوم. كان هناك غريبٌ يُزعجني بالحديث المتكرّر.”
كم يبدو تفسيره مُنمّقًا!
“ولأنَّ الموقف أزعج الآخرين، حاولتُ إبعاده، لكنّي انتهيتُ إلى غرفة الاستراحة حيث كنتِ.”
“أفهم… لا بأس، لم أكن أعلم حتّى أنّكَ كنت هناك.”
“الخطأ خطئي. لم أتوقّع أن يكون أحدهم على الشّرفة.”
هذه العبارة الأخيرة وحدها بدت صادقة.
‘لكنّ ما سواها… كلّه كذب.’
لقد بدا من الواضح أنّه كان قلقًا طوال نزهته معها، كما لو أنّه لاحظ من يراقبه.
قال لخادمه حينها: “هل نسيت كم مرّةً أعطيتُكَ فرصة؟”
ثمّ الآن، يُخبرها أنَّ هناك مَن أزعجه بالكلام؟
‘كذبٌ صريح. وإن لم يُفاجئني ذلك.’
بل المدهش أنّه أتى كلّ هذه المسافة ليقول هذا بنفسه.
“لم أسمع شيئًا، لا تقلق.”
“……”
“وإن كنتُ قد فُزعت قليلًا عندما أمسكتَ بي.”
“حقًّا؟”
أكّدت ديانا على عبارة ‘لم أسمع شيئًا’ عدّة مرّات.
لا أعلم شيئًا.
وإن علمتُ، فلا علم لي.
فلا تُشكّك بي! أنا لستُ جثّةً لتطعنها لترى إن كانت قد ماتت!
“قلتِ ذلك من قبل. فماذا لو سألتكِ بهذه الطّريقة؟”
فجأةً تغيّرت نبرة إيان.
“هل يُمكنكِ أن تُقسمي على أنّكِ لم تسمعي شيئًا… ولو كانت حياة والدتكِ العزيزة على المحك؟”
“… ماذا؟”
“إن كانت حياة الكونتيسة تعتمد على إجابتكِ، فهل تظلين على رأيكِ؟”
كانت نبرته هادئة على نحوٍ يتعارض مع مضمون كلامه.
لكنّ ديانا فقدت ابتسامتها تمامًا.
أن تُطالَب بقَسمٍ على حياة أمّها؟
تهديدٌ مباغت.
شعرت بقشعريرةٍ في جسدها فور استيعاب المعنى.
“ما رأيكِ، آنسة ديانا؟”
قالها بينما لا يزال يحمل فنجان الشّاي، وكأنّه دمية ملعونة تُلِحُّ في الطّلب.
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 6"