الفصل 3 : ظُروفُ ديانا وِيلينغتون ³
“مرحبًا. هل تتذكّرني، يا سيّدي؟ لقد التقينا من قبل.”
“بالطّبع، يا كونتيسة ويلينغتون. هل كنتِ بخير طوال هذه المدّة؟”
ابتسامةُ إيان كروفورد كانت دائمًا مشرقةً لدرجة أنَّ الجميع قد يسيء فهمها.
بهذا القدر كان متقنًا في سلوكه.
أدركت ديانا منذ أن اقترب منها أنَّ الأنظار باتت تتابعها بشكلٍ ملحوظ.
كلّ تلك النّظرات المُتسلّلة كانت مُركّزةً على شخصٍ واحد فقط.
‘رائع، إنَّ بشرتي تُوشك على الاحتراق من كلّ هذه النّظرات.’
كانت تتوقّع ذلك، لكن يبدو أنَّ الفتيات المهتمّات بنائب الدّوق كروفورد لسن بالقليلات.
ومع كلّ هذا، بقي هو يُضحك ويتصرّف كأنّه لا يشعر بشيء، وكان هذا بحدّ ذاته مُذهلًا.
‘أنا لستُ مهتمّةً إطلاقًا.’
تظاهرت ديانا بتجاهل تلك النّظرات المُسلّطة عليها.
“كما أخبرتكما في الرّسالة من قبل.”
سعلت السّيّدة الكبيرة ثمّ نظرت إلى كلّ من إيان وديانا بالتّناوب.
“أرى أنكما تبدوان مناسبَين جدًّا معًا. فرقُ السّن بينكما سنةٌ واحدة فقط، أليس كذلك؟ لا بدّ أنَّ بينكما نقاطًا مشتركة.”
“عمّتي…”
ناداها إيان بنبرةٍ حائرة، لكنّها أطلقت زفرة استياء.
“لن أتدخّل كثيرًا بين شابٍّ وفتاة. لستُ هنا لأثرثر. بدلًا من ذلك، اذهبا في نزهةٍ قصيرة.”
بدت وكأنّها معتادةٌ تمامًا على مثل هذه المواقف، فقادت الأمور بسلاسةٍ وخبرة.
“إذا كنتما ستقرّران الاستمرار، فعليكما على الأقل التّحدث معًا براحة.”
ومن النّظرة الأولى، بدا أنَّ والدتها تشارك السّيّدة نفس الرّغبة.
بل كانت تُحاول جاهدةً كبح رغبتها في دفعهما للخروج فورًا.
‘كنتُ أتوقّع ذلك، لكنّ الأمر محرجٌ للغاية!’
يبدو أنَّ إيان شعر بالشّيء نفسه، إذ ابتسم لها بشكلٍ مُحرج عندما التقت أعينهما.
‘حتّى هذه النّظرة، هل يُمكن أن تكون تمثيلًا؟’
…ربّما هذا الرّجل لم يُخلق ليكون الشّرير الخفي، بل ليكون نجمًا فوق خشبة المسرح.
“عمّتي بارعةٌ فعلًا في إحراج الآخرين.”
“كُفّ عن الكلام واذهب فقط.”
“في الحقيقة، كنتُ أنوي استغلال الفرصة بنفسي.”
ماذا قال؟
بينما كانت ديانا في حالة ذهول، اقترب منها إيان.
تجاهلَ ملاحظات عمّته ووقف إلى جانبها.
“آنسة ديانا، هل ترغبين في الخروج قليلًا لاستنشاق الهواء، إن لم يكن لديكِ مانع؟”
كان عرضًا لطيفًا ظاهريًّا، لكنّه عمليًّا لم يُترك لها مجالٌ للرّفض.
“…بكلّ سرور.”
ابتسمت ديانا على نحوٍ مُتحفّظ وغادرت معه المكان.
تزايدت النّظرات المُوجّهة إليهما بشكلٍ مضاعف، وكان من المستحيل تجنّبها.
“هل شعرتِ بالإرتباك؟”
ما إن دخلا طريق الحديقة حتّى تكلّم إيان أخيرًا.
“خالتي مُباشرةٌ أكثر من اللازم، وقد تُحرج مَن أمامها أحيانًا. أعتذر بدلًا عنها.”
“لا بأس.”
كانت هذه الإجابة القصيرة ثمرةَ سلسلةٍ من التّردّد داخل ذهن ديانا.
هل بدا صوتها متعالِيًا؟
هل كان من الأفضل إضافة عبارةٍ أخرى؟
الرّجل الذي أمامها كان مثاليًّا من كلّ النّواحي، لكنّ وجوده فقط كان كافيًا لإجهادها. شعرت أنّ رؤيتها بدأت تَغيم.
‘لا. أنا أقوم بعملٍ جيّد.’
الصّمت من ذهب!
التّفاعل بأدنى حدٍّ ممكن!
“لكن آنسة ديانا، هل فعلتُ شيئًا يستوجب كُرهَكِ لي؟”
“ماذا؟”
فوجئت ديانا، فاستدارت نحوه.
وعندها، التقت عيناها بعينيه…
‘…هل، هل تلاقَتْ فعلًا؟’
رؤيته من قرب جعلها تتيقّن أكثر.
هل عيناه مفتوحتان؟ أم مغمضتان؟
“أخيرًا نظرتِ إليّ. كنتُ أعتقد أنّكِ تكرهينني بسبب صمتكِ طوال الوقت.”
إذًا، لقد تلاقَتْ أعينُهما فعلًا.
“هل شعرتِ بعدم الارتياح؟”
“لا، لقد فوجئتُ فقط برؤيتك.”
شعرت أنّ هذه الإجابة مُبتذلةٌ جدًّا، لذا سارعت بتحويل مسار الحديث.
“كنتُ أظنّ أنّكَ أنتَ مَن قد يشعر بالإحراج من هذا اللقاء.”
“لقاءٌ كهذا يفرض ضغطًا على أيّ أحد، لكن بالنّسبة لي شخصيًّا…”
أجاب إيان بهدوءٍ دون أن تتغيّر ملامحه.
“لقاءُ سيّدةٍ جميلةٍ مثلكِ دائمًا يُنعش المزاج.”
“…شكرًا.”
الآن عرفت معنى قولهم “لو سقط في البحر، لن تطفو إلّا شفاهه”.
لو دخل إلى معمل تصفية المياه، لأقنعهم بشراء ألواح التّدفئة.
“هل أنتَ مشغولٌ كثيرًا في عملك في القصر؟”
“للأسف، نعم. الوزير ألقى عليّ الكثير من المهام، ولم أكن أتوقّع أنّه سيسلّمني كلّ شيء قبيل تقاعده…”
“لا بدّ أنّ الأمر مُتعب.”
“بالفعل، لكن لا خيار لي سوى التّحمُّل.”
ضحك إيان ثمّ حكّ عنقه برفق.
“يبدو أنّني أشتكي في حضرة سيّدة. سامحيني، لو تجاهلتِ كلامي، سأكون شاكرًا.”
أومأت ديانا بتعبيرٍ مُتحفّظ.
“خالتي دائمًا قلقةٌ بشأني فيما يخصّ الزّواج. يبدو أنّها فقدت ثقتها بي لدرجة أنّها رتّبت هذا اللقاء.”
“لا أظنّ ذلك. ربّما لأنّها تقلق عليكَ كثيرًا، لا أكثر.”
لكن هذا الانطباع اللطيف لم يدم طويلًا.
تساءلت ديانا بلُطف:
“إذًا، هل لا تفكّر في الزّواج حاليًّا؟”
“يومًا ما سأفعل بالتّأكيد. بصفتي نائب الدوق، لا أستطيع التّهرّب من هذا.”
أبطأ إيان في مشيته وأجاب.
“لكن الآن ليس الوقت المناسب. لا يزال هناك ما يجب عليّ فعله.”
“فهمتُ.”
لو كان هذا صحيحًا، فهي أفضل جملةٍ سمعتها طوال اليوم.
“وما رأيكِ أنتِ، آنسة ديانا؟”
“أنا؟”
سؤالٌ مُفاجئ جاء في غير توقّعه.
ما هي الإجابة الأكثر طبيعةً الآن؟
بعد تفكيرٍ، انحنت ديانا بخجلٍ مُصطنع.
“أشعرُ بالحرج، لكنّي لا أظنّ أنّي مستعدّةٌ نفسيًّا بعد.”
رغم أنّها كانت تتصنّع، إلا أنَّ مظهرها بدا مُقنعًا.
اختارت كلماتها بعناية.
“وأيضًا، فكرة الارتباط بعائلةٍ مثل عائلة كروفورد لم تخطر ببالي أبدًا… لا أظنّ أنّي أليق بمقامكم.”
“هل تُخفين أنّكِ لا تُعجبين بي؟”
“لـ، لا! ليس هذا ما أقصده!”
“هاها، مجرّد مزاح.”
بديهيّته الحادّة مُقلقة.
هل هذه إحدى صفات الشّرير؟
“إذاً، نحن متّفقان.”
قال إيان بصوتٍ بدا مرتاحًا أخيرًا.
“سأخبر خالتي بكلّ احترام أنّنا لسنا مستعدّين بعد.”
“هل أنتَ واثق؟”
“لقد سبّبتُ لها ما يكفي من القلق. فما الضّير في قليلٍ إضافي؟ لكن بالمقابل…”
توقّف قليلًا عن المشي ثمّ أكمل:
“هل تُشاركينني هذه النّزهة حتّى نهايتها فقط، لأجل تحسين مزاجي؟”
“…بالطّبع.”
شعرت ديانا بإحساسٍ غريبٍ في داخلها.
إيان كروفورد كان تمامًا كما تخيّلته.
أسلوبه الجذّاب ولهجته الملساء كانتا قناعًا يخفيان دواخله بمهارة.
نِعمةٌ من نِعم الأرستقراطيّة، كما يُقال.
‘هو بالفعل أرستقراطيّ بين الأرستقراطيّين.’
صديق وليّ العهد سيدريك في الطّفولة، وعبقريٌّ سيحصل على منصب الوزير وهو لا يزال صغيرًا.
وفوق هذا، الوريث التالي لعائلة دوقٍ عظيمة. مًن ذا الذي قد يرفضه؟
ولأنّه بهذه المواصفات وكان ودودًا، وقع الجميع في حبّه بسهولة، وانخدعوا.
“انتبهي إلى الأرض.”
“شكرًا لك، سموّك.”
“إيان يكفي.”
نظر كلٌّ منهما إلى الآخر دون أن يُبادر أحدهما أوّلًا.
نسيمُ صيفٍ عليل تفوح فيه رائحة الزّهور العطرة.
المصابيح أنارت الطّريق بهدوء.
كان المشهد أقرب إلى لوحةٍ رومانسيّة، لكنّ سلوك إيان بقي ثابتًا.
“سمعتُ أنّ الكونت ويلينغتون بارعٌ في البوكر.”
اختيارٌ ذكيٌّ لموضوع الحديث.
“ربّما انخدعتَ بمبالغاته. إنّه من النّوع الذي يحبّ القمار والمراهنة.”
“أفهم. من المؤسف أنّي لم أتعلم منه شيئًا.”
وتعليقٌ حياديٌّ مثاليّ.
لكنّه لم يسأل أبدًا: “وهل تُجيدين أنتِ؟” أو “هل نلعب سويًّا مرّة؟”
لم يترك مجالًا لأيّ وعودٍ لاحقة.
رسم حدودًا صارمة.
يُقال إنّ الشّخص إن تناول العشاء معك ثلاث مرّات دون أن تتقدّم العلاقة، فعليك أن تنسحب.
‘هذا الرّجل لا يهتمّ بي إطلاقًا.’
كلّما طالت المحادثة، شعرت بذلك أكثر.
لن تحظى بلقائه مرّتين، فضلًا عن تناول العشاء سويًّا.
‘يبدو أنّ ذهنه مشغول بأمرٍ آخر كذلك.’
هل يُفكّر بشيءٍ ما؟
حركاته كانت خفيفة، لكنّها ملحوظة.
‘كان يُحدّق في الجهة التي صدر منها صوت الأوراق، أليس كذلك؟’
كان حساسًا تجاه أيّ حركة.
رغم إخفائه ذلك ببراعة، لكنّ شيئًا واحدًا كان واضحًا.
هو لا يرى ديانا كشخصٍ ذي فائدةٍ حتّى لاستخدامه.
‘تغيير مجرى القصّة… يسير بسلاسةٍ غير متوقّعة؟’
نقيضُ الحبّ ليس الكُره، بل اللامبالاة.
وأخيرًا، شعرت بذلك في عمق قلبها.
وقبل نهاية الطّريق بقليل…
انقطع الشريط في حذاء ديانا.
“أوه، هل أنتِ بخير؟”
أسرع إيان وأمسك بها.
“أنا بخير. يبدو أنّ الشريط قد تمزّق قليلًا.”
“دعيني أساعدكِ.”
“لا، لا داعي.”
إن أرادت إنهاء هذا اللقاء الفارغ، فهذه فرصتها المثاليّة.
هزّت ديانا رأسها.
“لا أريد أن أبدو بمظهرٍ مُحرج. سأسير بحذر، فلنُنهِ الأمر هنا.”
“لكن…”
“وإن ساعدتني الآن، فسيُساء فهم الأمر. من الأفضل أن نفترق هنا.”
“هل أنتِ واثقةٌ أنّكِ بخير؟”
“بالتّأكيد. سأتوجّه إلى غرفة الاستراحة.”
“إن كنتِ مصرّةً على ذلك… حسنًا.”
أومأ إيان برأسه.
“سررتُ بلقائكِ اليوم، آنسة ديانا. أتمنّى أن تصلي بسلام.”
“وأنا كذلك. ليلةٌ طيّبة، سيدي.”
تركها بعدما تمنّى لها الحذر.
وحين اختفى عن نظرها تمامًا، شعرت ديانا بتحرُّرٍ هائل.
كادت تصرخ من شدّة الارتياح.
‘تمّ الأمر! لقد أنقذتُ نفسي من مسار الخطيبة!’
أعتذر، أمّي.
لكنّني تخلّصتُ من راية الموت، فهل تغضبين منّي فعلًا؟
سارت ديانا بسرعةٍ، تُخفي عرجها.
وقد تآكل باطن قدمها من الألم، وتحطّم حذاؤها تمامًا مع وصولها إلى غرفة الاستراحة.
لكنّ ذلك لم يكن مهمًّا.
إذ كانت روحها محلّقة من الفرح أكثر من أيّ وقتٍ مضى.
“هل رأيتِ كيف كانت تمشي ملتصقةً بإيان؟”
“رأيتُ! كانت تتظاهر بأنّها لا تهتمّ به، ثمّ ما إن سَنَحت لها الفرصة حتّى التصقتْ به كخنفساء.”
“ما أوقحها. تنتمي إلى نبلاء جُدد، وتتصرف وكأنّها أميرة. أليس كذلك، كارماين؟”
“وماذا نفعل؟ ألم يتمّ ترقية ويلينغتون إلى كونتٍ منذ ثلاث سنوات فقط؟”
قبل لحظاتٍ فقط، كانت فرحتها في السّماء.
“آن لها أن تُدرك أنّ المال وحده لا يصنع النّبلاء.”
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 3"