الفصل 39 : فَخُّ الادِّعاء ⁷
كان محتوى الإنذار بسيطًا، لكنه مُرعِب.
إذ جاء فيه أنّه، نتيجةً لسلسلة من الحوادث، سيتمّ إدراج شارع سيناكا، وبضمنه <ريغوليتو>، ضمن قائمة الأماكن الممنوعة على النبلاء المنفيّين.
“كذب! هذا… هذا الهراء… مستحيل!!”
ومن دون أن يخطر بباله قطّ أنّ ذلك كان من صُنع ديانا، أطلق كارماين صرخةً مرعبة.
***
وأخيرًا، حلّ يوم مأدبة القصر الملكي.
“انتهينا يا آنِستي!”
وقفت ديانا أمام المرآة بعد أن بدأت منذ الصباح الباكر استعداداتها وأنهت تزيينها أخيرًا.
“آنِستي، رغم أنّني أنا من زيّنتكِ، لكنكِ جميلةٌ على نحوٍ لا يُصدَّق!”
“شكرًا لكِ. كلّ هذا من مهارة سيرا.”
“هذا… هذا حقًّا عملٌ فنيّ! من المؤسف أن يُرى ليومٍ واحدٍ فقط!”
كانت نظرة الخادمة، وهي تقبض بيديها الصغيرتين وتكاد تدمع، متّقدةً على نحوٍ غريب.
“صاحب السموّ الدوق كروفورد سيُفاجأ حتمًا حين يراكِ! قد يسقط على ظهره فعلًا!”
“أتقصدين أنّ رأسه سينشقّ؟ هذا سيكون مُزعجًا بعض الشيء، فأنا شريكته.”
ومع ذلك، لم تكن ديانا منزعجة من ضجّة الخادمة.
فحتى بنظرها، كانت جميلةً اليوم حقًّا.
كان فستان المأدبة ذا تنّورةٍ واسعة.
وأكمامه مموجةٌ ذات ثنياتٍ كبيرة، ومطرّزة بخيوطٍ ذهبية على هيئة نقوشٍ ماسية، ما جعله باهظ الثمن.
أمّا القفّازات والشال اللذان أرسلهما إيان مع البروش، فلم يكونا اختيارًا عابرًا أيضًا.
‘ما إن رأته أمّي حتى أحبّته أكثر منّي.’
حين رأتها أوّل مرّة، كانت تخشى ألّا تستطيع مجاراة هذا المظهر، لكنها تنفّست الصعداء أخيرًا.
“لقد وصل صاحب السموّ الدوق قبل قليل! هيا، لننزل ونفاجئه!”
وبإلحاح سيرا المتحمّسة، غادرت ديانا غرفة الزينة.
رأته عند بسطة الدرج المؤدّي إلى الطابق الأوّل.
كان يتحدّث مع هيلينا.
إيان، بزيّه الرسمي، بدا أروع بكثير ممّا تخيّلته.
كان يضع ربطة عنقٍ منسّقة مع سترته الزرقاء الداكنة، مزيّنة بكاميو من العقيق، وفي جيب صدره منديلٌ بنفس لون فستانها.
لكن، مهما كانت الزينة، لم تستطع إخفاء وسامته العنيفة.
إنّه رجلٌ يدفعك لأن تقول، مرّةً أخرى، إنّه وسيمٌ حدّ القسوة.
‘لو لم يكن العقل المُدبِّر، لكان الأمر مثاليًّا.’
وضعه المستقيم وملامحه المتناسقة كأنّها منحوتة من الرخام ظلّت عالقة في نظرها.
“مرحبًا. تأخّرت قليلًا يا إيان.”
ما إن رأت هيلينا ابنتها حتى أشرق وجهها.
“يا إلهي، ديانا! انظري إليكِ! كم أنتِ جميلة! هل اجتهدتِ إلى هذا الحدّ لأنّه أوّل موعد؟”
“ليس الأمر كذلك.”
تجاهلت ديانا، بصعوبة، نظرة أمّها التي تقول ‘لا داعي للإنكار، أنا أفهم كلّ شيء’.
لكن الغريب أنّ إيان كان صامتًا على نحوٍ غير مألوف.
“صاحب السموّ.”
تقدّمت ديانا نحوه ببطء.
كانت ترتدي حذاءً غير معتاد، فاضطرّت للمشي بحذر.
طوال اقترابها، كان ينظر إليها بوضوح، ومع ذلك ظلّ صامتًا على غير عادته.
“إيان؟”
“… آه.”
عندما نظرت إليه باستغراب، فتح فمه أخيرًا.
“تأخّرتُ في التحيّة. أعتذر.”
تنحنح بخفّة، ثم مدّ يده.
أمسكت ديانا يده على نحوٍ غير متقن.
“أنتِ جميلةٌ جدًّا اليوم يا ديانا. الفستان… مناسبٌ لكِ أكثر مِمّا توقّعت.”
لامست شفتا إيان ظاهر يدها.
وبرغم علمها أنّها مجرّد لفتةٍ بروتوكوليّة، شعرت بقشعريرةٍ خفيفة تسري في ظهرها.
“شكرًا لك. وأنت أيضًا تبدو رائعًا.”
“لا يُقارن هذا بكِ. هل نذهب؟”
غادرت ديانا القصر وسط نظرات أمّها وسيرا.
‘لا حاجة لكلّ هذا التشديد.’
هل كان هناك من يراقب؟
طوال اليوم سيمسك بيدها بما فيه الكفاية، ومع ذلك لم يُفلِت يدها حتّى اللحظة الأخيرة من صعودها إلى العربة.
***
طوال الطريق إلى القصر الملكي، كان إيان أقلّ كلامًا من المعتاد.
هل كان متوتّرًا؟
لكن ملامحه لم تختلف عن المعتاد. فلماذا تغيّر سلوكه وحده؟
‘تلك العينان المُغمضتان تجعل قراءة أفكاره صعبةً دائمًا…’
كأنّه شعر بنظرتها، فتنحنح.
“مرّ وقتٌ طويل.”
“أحقًّا؟”
لا يبدو الأمر كذلك.
فباستثناء عائلتها، كان إيان أكثر شخصٍ تلتقي به ديانا مؤخرًا.
“أنتِ جميلةٌ جدًّا اليوم.”
“شكرًا لك. حتّى لو كان مجرّد مجاملة، فالمدح يُفرح دائمًا.”
“ليست مجاملةً فحسب… آه، لا شيء.”
توقّف إيان عن إكمال حديثه.
تنفّس بعمقٍ قصير، ثم عاد إلى هيئته المعتادة.
“لقد نزعتِ الضماد بأمان، أليس كذلك؟ هل شُفي الجرح تمامًا؟”
“نعم. بفضلك. المرهم كان فعّالًا جدًّا.”
لوّحت ديانا بيدها اليسرى متعمّدة.
سواء بفضل المرهم، أو بفضل الخربشة التي كان يتناوب عليها مع أمبر، فقد شُفي الجرح بسلاسة.
سنونو يحمل في منقاره نفلًا رباعيّ الأوراق.
كانت تلك الخربشة، التي ترمز إلى الشفاء والحظّ، تجعلها تبتسم كلّما وقعت عيناها عليها.
ولذلك، حتى بعد شفاء الجرح، لم ترغب في التخلّي عن الضماد.
وانتهى به الأمر محفوظًا بعنايةٍ في الدرج، كسرٍّ ليس بسرّ.
“وكيف حال أمبر؟”
“بخير. مع أنّه يُفزِعني أحيانًا حين يخرج فجأةً من بين الأشجار.”
هذه المرّة، قرّر أمبر أن يحاول التخفّي دون لفت الأنظار، فنقل أمتعته إلى علّيةٍ جانبيّة.
“هل ما زال يدخل ويخرج من النوافذ فقط؟”
“نعم.”
بل وكان يظهر فجأةً في غرفة ديانا أيضًا.
والمشكلة أنّ غرفتها في الطابق الثاني.
لم تكن تعطس إلا ويطرق النافذة ليسأل إن كان هناك ما حدث، ما سبّب لها توتّرًا شديدًا ليومين.
وفي النهاية، طالبت بأن يحترم خصوصيّتها، وألّا يطرق النافذة إلا في أوقاتٍ محدّدة.
لم يبدُ أنّ أمبر فهم تمامًا سبب توتّرها، لكنه امتثل للطلب.
كان غريبًا وعجيبًا حقًّا، حتى في تلك التفاصيل.
“يبدو أنّه لم يُصلِح تلك العادة هناك أيضًا. أعتذر.”
“إن كنت تعتذر حقًّا، فخذه معك الآن.”
“هذا غير ممكن.”
هزّ إيان رأسه بحزم.
“أنتِ بحاجةٍ إلى أمبر. واليوم، بعد أن رأيتكِ، ازددتُ يقينًا.”
“لا أفهم ما الذي تعنيه أصلًا.”
“أعني أنّكِ جميلة.”
أجاب إيان بصراحة.
لكن وجه ديانا ازداد قتامة.
وسرعان ما شاب صوت إيان شيءٌ من الضيق.
“لا أفهم لماذا، حين تتلقّين مديحًا، لا تفرحين به بل تتحفّظين.”
“ذلك لأنّ…”
“لأنّ؟”
“سرّ.”
رغم علمها أنّه مستغرب، تجاهلت ديانا الأمر وغيّرت الموضوع.
“على أيّ حال، سمعتُ أنّ <ريغوليتو> قد حاصره الفرسان الملكيّون. هل هذا بأمرٍ من جلالة الملك؟”
“… نعم.”
“تفاجأتُ. لم أكن أعلم أنّ هذا ممكن.”
“هو أمرٌ مؤسفٌ قليلًا للورد كارماين، لكن لا يمكن تركه يعمل وكأنّ شيئًا لم يحدث.”
رغم كلماته، لم يكن في نبرته أيّ شفقة.
“لقد استخدمتِ حيلةً ذكيّة يا ديانا.”
“أنا؟”
“السفير فالنتاين أرسل تعميمًا يمنع النبلاء المنفيّين من دخول <ريغوليتو>. أليس هذا من صنعكِ؟”
“أضفتُ لمسةً خفيفة فقط. بعد ما جرى لأخيه، ألن يكون غريبًا إن بقي ساكنًا؟”
أرفقت ديانا مع ردّها إلى جيديون، إلى جانب التحية والأخبار، المقالة التي تضمّنت المقابلة.
فإن استمرّ النبلاء المنفيّون في ارتياد دور القمار، فقد يظهر ضحايا آخرون مثل لوكاس.
وعندما نقلت إليه مخاوفها بشأن <ريغوليتو>، لبّى جيديّون الطلب عن طيب خاطر.
“لم أكن واثقة من أنّه سيفعل، لكن يبدو أنّ الحظّ حالفني.”
إنّه تحذير من أشهر مبعوثٍ دبلوماسيّ في إيميرالد.
ولا يوجد نبيلٌ منفيّ يجرؤ على تجاهله.
وبفضل ذلك، بات <ريغوليتو> في حالة إغلاقٍ مؤقّت، لا يدخله حتى نملٌ واحد.
“هل ساعدتِ السفير فالنتاين وأنتِ تستهدفين هذا تحديدًا؟”
“مستحيل. قلتُ قبل قليل إنّه حظّ.”
لكن الحظّ أيضًا نوعٌ من الكفاءة.
وفي المحصّلة، نجحت ديانا ويلينغتون في توجيه الرأي العام، وخلقت حالة نقصٍ لدى النبلاء المنفيّين.
وإذا سُوّيت هذه المسألة على خير، فإنّ الكازينو الملكي سيحقّق نجاحًا غير مسبوق.
لم يُشِر إيان إلى ذلك صراحةً.
“أحسنتِ. بفضلكِ، أصبح إقناع جلالة الملك أسهل بكثير.”
“حقًّا؟ إذًا، هل…؟”
“نعم. سيُطبَّق القانون كما خطّطنا. سنُعلِن عنه بعد فترة، فانتظري قليلًا.”
كان خبرًا سارًّا.
وحين أشرق وجه ديانا كزهرةٍ متفتّحة، ارتسمت ابتسامةٌ خفيفة على شفتي إيان.
وفي تلك الأثناء، وصلت العربة إلى القصر الملكي.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
《 قناة التيلجرام مثبتة في التعليقات 》
حسابي ✿ 《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 39"