الفصل 11 : المُهرّجون وفطر المهرّج ¹
في وقتٍ مبكرٍ من الصّباح،
وقفَ الخادم هيرمان أمام باب غرفة النّوم وهو يجرّ العربة دون إصدار صوت.
“صباحُ الخير، سيّد إيان. هل نِمتُ جيّدًا الليلةَ الماضية؟”
“ادخُل.”
جاءهُ جوابٌ باردٌ من الدّاخل.
دخلَ هيرمان بحذر.
كان الدّاخل نظيفًا بطريقةٍ متطرّفة تُشبهُ صاحب الغرفة، إلى حدٍّ يُشعِرُ بالكآبة.
إيان، الواقف أمام المرآة، كان قد أنهى تجهيز نفسه، وكان يختار ربطة عنقٍ بنفسه.
“ستغادرُ باكرًا اليوم أيضًا. لقد عدتَ متأخرًا بالأمس. ألا تُجهدُ نفسَك كثيرًا؟”
“حين يشيخُ المرء، لا يملكُ سوى القلق.”
قطعَ إيان قلقَ خادمه بكلمةٍ واحدة.
ومن بين كلّ من في منزل دوق كروفورد، لم يكن هناك مَن يُلاحظ أنَّ هذا الجواب البارد يعني أنّ مزاجه ليس سيئًا، سوى هيرمان.
كان الوقتُ الذي يمكن فيه لإيان، بوصفه ‘نائب دوق كروفورد’، أن يتخلّى عن ابتسامته الزّائفة ويعيش كـ”سيّد شاب” قصيرًا للغاية.
نقلَ الخادمُ الصينيةَ إلى الطاولة دون أن يقول شيئًا، ثم صبّ له الشّاي.
“وماذا عن والدي وعمّتي؟”
“سعادةُ الدّوق غفا أخيرًا قُبيل الفجر. وأمّا السيدة مونيكا فهي تختارُ فستانًا مع السيّدة فلور.”
“السيّدة فلور؟ لِمَ استدعوها فجأة؟”
“يبدو أنّها تُخطّطُ لاقتناءِ فستانٍ جديدٍ قبل أن تمرّ على صالون ما بعد الظّهيرة.”
توقّفت يدُ إيان الّتي كانت تختار ربطة العنق.
ضاقت عيناه، تلك الّتي بالكاد تُرى.
“هل تقصد أنّها ستحضُر صالون زوجة ماركيز لانكاستر؟”
“نعم.”
“هكذا إذًا.”
ابتسمَ إيان ابتسامةً خفيفة بلا اهتمام.
“نفس المكان، صدفةٌ غريبة. تُرى، هل كان هذا جزءًا من الحسابات أيضًا؟”
تفاجأ هيرمان بصمت.
فقد كان من النّادر جدًّا أن يرى سيّده يبتسم في هذا الوقت المُبكّر من النّهار.
“حضّر باقةً ضخمةً ومُزخرفةً من ورود الأبرفيل الحمراء، قبل خروجي.”
“حاضر.”
أجابَ الخادمُ دون اعتراض، وانحنى ثم انسحب.
اتّجهت نظراتُ إيان المُستعدّ للخروج نحو جانب الغرفة.
كان يُحدّق في صورةٍ معلّقة على الحائط.
حينَ يتذكّر وصيّة المرأة الموجودة داخل الخزنة السريّة خلف تلك اللوحة، يشعرُ بلذّة.
-‘لديّ طلبان اثنان.’
-‘طلبان؟’
-‘وليسا بطلبَين صعبَين على الإطلاق.’
نهارٌ مُملّ إلى حدّ القرف.
في وسط أيّامٍ لا يعيشُها سوى مُجبرًا، دخلت تلك المرأة إلى حياته فجأة، كمُهرّجةٍ من سيرك، بشكلٍ سخيف.
“على الأقل، لن أشعرَ بالملل بعد الآن.”
عدّل ابتسامته مرارًا ليصنع تعبيرًا يُشبهُ وجه عاشقٍ أبله.
تابع التّدريب حتّى اكتملت ابتسامةٌ ساحرة لدرجةٍ تُرعب حتّى صاحبةِ ذلك الطّلب السّخيف.
“حسنًا، لِنُصبح أفضلَ حبيبين كما وعدنا، أليس كذلك؟”
وبعد أن وصل إلى ابتسامةٍ مرضية، تركَ إيان المرآة ومضى، أنيقًا كما هو دائمًا.
***
انتشرت إشاعةُ لقاءِ ديانا بإيان في لمحِ البصر.
ولو بالغنا قليلًا، فربّما وصلت حتى لأكثرِ النّاس ابتعادًا عن مجالسِ الأرستقراطيّة.
‘لقد انتشرت أسرع ممّا توقّعت.’
سبق وأن شاهدهما البعض يتجوّلان سويًّا في حديقة الحفل، لكن أن تصل الشّائعات إلى حدّ زيارة أحدهما لمنزل الآخر بهذه السّرعة؟ لم يكن ذلك متوقّعًا.
“حتّى أبيغيل الفضوليّة تسأل عن خطبتكِ.”
“أمي…”
“آه، أن تكون لي ابنةٌ جميلةٌ هكذا، فأنا أعيش تجاربَ لم أعهدها من قبل، هوهوهو.”
ولم تلبث الحقيقة أن انكشفت.
فقد كانت الأمُّ تنشر كلماتٍ هنا وهناك، حتّى انتشر الأمرُ كانتشار النّار في الهشيم.
بالنّسبةِ لديانا، لم يكن من السّهل فهم لِمَ تُريد والدتُها أن تقول مثل هذا للآخرين، أو تسمعَه منهم، لكن في النّهاية، كانت النّتائج في صالحها.
فقد بدأت بطاقاتُ الدّعوة بالتّوافد.
“آنستي، بطاقاتُ الدّعوة تتكوّم كالجبال!”
صرخت سارا، على وشك البكاء.
“لا أستطيع التّعامل معها كلّها مهما رُتّبت. وجاءتنا اليوم مجموعةٌ جديدة، هل ستذهبين إليها كُلّها؟!”
“بالطّبع لا. وإن فعلتُ، فلن تكفيني عشرةُ أجساد.”
رغم أنّها كانت تتوقّع ذلك، فإنَّ كمّيّة الدّعوات أذهلتها.
‘هذا كثيرٌ فعلًا…’
“يبدو أنّ الجميع فضوليّون بشأن علاقتكِ بنائبِ الدّوق. تُرى، ماذا يُريدون أن يعرفوا؟”
“لستُ أدري… ربّما لا يُريدون شيئًا تحديدًا. فقط يتسلّون ويتأكّدون مِما إذا كانت العلاقةُ بيننا جادّة أم لا.”
ومنذ عودتها من اتّفاقها مع إيان كروفورد، لم تتوقّف دعواتُ التّجمّع.
من حفلاتِ الشّاي لعائلاتٍ ذات معرفةٍ سطحيّة، إلى مقاعد كبار الشخصيات في المسارح، إلى نوادي القراءة الّتي لم تزُرها سوى مرّةً مع والدتها.
وأكثر ما وصلها من دعوات، كان من صالونات النّساء الأرستقراطيّات.
“وجدتُها!”
التقطت ديانا دعوةً واحدةً فقط من بين كومة الدّعوات.
“هذه تكفيني. أرسلي الرفض للآخرين مع اعتذار نيابةً عنّي.”
“هاه؟ فقط واحدة؟!”
“نعم. هذه أهمّ دعوةٍ فيهم جميعًا.”
صالون ماركيز لانكاستر.
إنّه ساحة المعركة التي انتظرتها ديانا من بين مجالسِ الأرستقراطيّة.
***
قصرُ ماركيز لانكاستر كان في وسط المدينة، وقريبًا جدًّا من القصر الملكي، وهو ما كان نادرًا.
وإن كانت السيّدةُ غريبةً مثل بيتها، فهي معروفةٌ بحسن ضيافتها الدّائم.
لكنّها في الوقت نفسه، كانت تُحسن الإصغاء، وتجمع من الأخبار الحَسَنة والسّيّئة ما تقدر عليه، وأحيانًا كانت تصنع الرّأي العام بنفسها.
ولذلك، بدأ يُطلق على صالونها اسمٌ خاصّ.
‘بِركةُ الشّائعات.’
مكانٌ تتجمّع فيه الأخبار دون أن تجري أو تتبعثر.
“أهلًا وسهلًا، آنسة ديانا.”
“مرحبًا بكِ، سيّدةُ لانكاستر.”
وكما كان متوقّعًا، لم تُهمل السيّدةُ إشاعةَ لقاءها بإيان.
فقد أرسلت بنفسها دعوةً، بل وخرجت لتستقبلها شخصيًّا.
“وصلتِ تمامًا في الوقت المحدّد. لقد انتهينا للتّو من ترتيب الطّاولات.”
“أنا سعيدةٌ أنّني لم أتأخّر.”
كان صالونُ السيّدة يُعقد دوريًّا، ويُعدّ مكانًا مثاليًّا لنقل الأحاديث والقصص.
وحين تتلقّى دعوةً إلى مجلسٍ يعجّ بالعاشقاتِ للقيل والقال، فذلك يعني أنّك أصبحتَ موضوعَ حديثِهنّ.
ولهذا لم تكن ديانا مرتاحة، رغم الحفاوة.
لكنّها لم تكن أيضًا فتاةً ساذجةً تُظهر توتّرها.
فما إن دخلت، حتّى أخرجت الهدية الّتي كانت قد أعدّتها مسبقًا.
“حضّرتُ هديّةً بسيطةً كتعبيرٍ عن امتناني للدّعوة. أتمنّى أن تَقبلِيها.”
“أوه… ما هذا الجمال؟”
فتحت السيّدةُ الهدية، وظهر على وجهها السرور.
“إنّه طقمُ إبريقِ شاي من ريزيرف، أليس كذلك؟”
“كما هو متوقّع، عرفته فورًا.”
“يا له من شيءٍ نادر…”
كانت معروفةً بولعها بأدواتِ الشّاي والقهوة، فلا عجب أنّها أعجبت.
نُقش على الطّقم فراولة وقُبرة، وجعل وجه السيّدة يتلألأ.
رغم أنّه كان بإمكان ديانا إهداؤها إبريقًا فضّيًّا، إلّا أنّها رأت أنّه سيكون مُبالغًا فيه لأول لقاء.
فاختارت شيئًا نادرًا بدلًا من ذلك، ويبدو أنّها أحسنت الاختيار.
“شكرًا لاستضافتكِ لي. لطالما رغبتُ في حضورِ هذا المجلس، ويسعدني أنّني دُعيتُ أخيرًا.”
كان ذلك إطراءً معتادًا.
لكن مَن كانت تُدير المجلس، لن تكره من يُجاملها بهذه الطريقة.
ومتى عرفتَ اهتمام الشّخص المقابل، فإنَّ مجاملته تكونُ ضروريّةً أكثر.
في مثل هذا المجلس، حيث تختلط الخصوصيّة بالسُّمعة، كان الكلامُ المعسول ضرورةً لا بُدّ منها.
“ها أنا أستقبلُ هديّةً بدلًا من أن أُعطيها.”
ابتسمت السيّدة وهي تقبل الهدية.
“كان من المفترض أن أرفض، لكن لا يُمكنني تجاهل حُسن نيتكِ.”
“هذا شرفٌ لي، بل ويسعدني أنّكِ قدّرتِ قيمتها.”
“هاهاها، أنتِ ألطفُ بكثيرٍ مِمّا سمعتُ. تفضّلي، دعيني أُرافقكِ.”
قادتها السيّدةُ إلى أجمل جزءٍ في القصر، غرفةٍ شبيهة بالدفيئة الشّتويّة، زجاجيّة الأسقف، مليئةٍ بالنّباتاتِ النّادرة.
وكان مقعدُ ديانا هو الأفضل بعد مقاعد الأعضاء الدّائمين.
شمسٌ كافية، دفءٌ لطيف، رؤيةٌ ممتازة.
‘حقًّا، لا ضيرَ أبدًا من كسبِ ودّ المُضيف.’
وكان الكرسيُّ مُريحًا بما يكفي للجلوس ساعات.
ويبدو أنَّ هديّتها المُنمّقة قد نالت إعجاب السّيّدة فعلًا.
وبينما كانت تُلقي نظرةً على باقي الضّيوف، لمحَت وجهًا مألوفًا…
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 11"