في تلك الفترة كانت ليليث قد عادت إلى الدوقيّة منذ وقتٍ قريب، فكان عليها التعامل مع الكثير من المهام.
كان المكان الوحيد تقريبًا الذي تستطيع فيه أن تريح قلبها هو بجانب كاليكس.
على الرغم من أنّ علاقتهما لم تكن مرتبطة بالحبّ، إلّا أنّ خطيبها الذي عرفته منذ الطفولة كان يمنحها الاستقرار.
ربّما كان يعرف ذلك، ولذلك كان يدعو ليليث عمدًا.
أحيانًا كان ذلك يزعجها، لكنّها في الغالب كانت تشعر بالامتنان له.
“ليليث.”
“نعم؟”
عندما ناداها كاليكس، استدارت ليليث برأسها.
ابتسم بلطف ومدّ يده ليعيد شعرها خلف أذنها بحنان.
“تبدين جميلة بشكل خاصّ اليوم.”
هذا كلام فارغ.
ضحكت ليليث بسخرية خفية.
كان تصرّفه يشبه العشّاق إلى حدّ ما. نعم، لقد كانت تعرف الحقيقة. على عكسها، كان خطيبها يكنّ لها مشاعر في قلبه.
لكنّها لم تستطع إعطاءه ردًّا، فتظاهرت بأنّها لم تسمعه.
فجأة، سألها كاليكس:
“هل رأيتِ روزالين منذ قليل؟”
“لا. لم أرَها.”
“حقًا؟”
مالَ رأس كاليكس باستغراب.
“لكن لماذا كنتِ مع ذلك العبد؟”
“…ماذا؟”
عبست ليليث دون وعي بعض الشيء.
“ما معنى هذا الكلام؟”
هل يقصد العبد زينون؟ لكن ليليث بالتأكيد لم تكن معه.
وهذا طبيعيّ، لأنّ ليليث في تلك الفترة لم تكن تحبّ زينون أصلًا.
هل اختلط عليه الأمر مع شخص آخر؟ ربّما يكون ذلك محتملاً.
شرحت ليليث الأمر لخطيبها بهدوء.
“يبدو أنّ هناك سوء فهم. لم أكن معه.”
نظر إليها كاليكس بنظرة عميقة ومعبّرة.
“حقًا؟”
ما هذا؟
شعرت ليليث فجأة أنّ جوّ كاليكس قد تغيّر.
بدافع غريزيّ من القلق، تراجعت بجسدها دون قصد. و بدأت تتحدّث كأنّها تبرّر نفسها دون وعي.
“أنا أقسم هذا مستحيل. لا يمكن أن أكون مع ذلك الرجل…”
في تلك اللحظة، حدث ذلك.
“آه!”
تحوّل خطيبها ذو الوجه الأنيق فجأة إلى وحش ينزف دمًا من رأسه، وخنق ليليث من عنقها.
اتّسعت عينا ليليث.
لم تستطع ليليث فعل أيّ شيء أمام هذا الهجوم المفاجئ. بينما كانت تتألّم، ابتسم الوحش ابتسامة ساخرة.
“كاذبة.”
آه، هذا يؤلم. أنقذني أحد ما.
عبست ليليث وهي تلوي جسدها من الألم. لكن كلّما حاولت المقاومة، زادت قوّة قبضة الرجل عليها.
“ليليث، هذا خطؤكِ.”
أصبحت رؤيتها ضبابيّة. وجه خطيبها، الذي كان يظهر من بين شقّ عينيها المفتوحتين قليلاً، بدا خسيسًا وقاسيًا للغاية.
“لماذا فعلتِ ذلك؟ كان عليكِ اختياري أنا، وليس ذلك الوغد.”
كادت تختنق. شعرت أنّ وعيها الضبابيّ على وشك الانقطاع تمامًا.
وفي تلك اللحظة بالذات، فتحت ليليث عينيها فجأة.
كانت ليليث تلهث بشدّة وترتجف بخفّة، ثمّ نظرت حولها.
أخيرًا، كان ذلك الواقع.
ما هذا الحلم بحقّ خالق السماء؟
كان قلبها يخفق بسرعة. وبما أنّها كانت تتصبّب عرقًا باردًا، يبدو أنّ جسدها اعتبر ذلك كابوسًا.
كان الحلم واقعيًا جدًا. شعرت بألم في عنقها كما لو أنّها خُنقت حقًا، فرفعت يدها لتلمس رقبتها، ثمّ أخذت نفسًا عميقًا ونهضت.
بعد أن حدّقت في الأرض لفترة طويلة بذهول، استعادت ليليث رباطة جأشها وبدأت تفكّر.
هل حلمتُ بهذا الحلم لأنّني سمعتُ اسمه بعد وقت طويل؟
كان الناس من حولها يتجنّبون ذكر كاليكس عمدًا مراعاة لمشاعر ليليث. لذا، كان سماع اسمه مباشرة أمرًا نادرًا جدًا.
أغلقت ليليث عينيها للحظة وغرقت في أفكارها، ثمّ ارتدت شالاً ونهضت لتفتح النافذة. أرادت استنشاق هواء منعش.
كان الوقت لا يزال منتصف الليل. تناثرت نجوم بيضاء صغيرة في السماء المظلمة. قمر شاحب جدًا. تنهّدت ليليث وهي ترفع عينيها إلى سماء الليل.
كلّ هذا بسبب ذلك الرجل.
زينون ماير. أيّها الوغد.
تحوّل اللوم إليه بسهولة. كان ذلك متوقّعًا.
تذكّرت ليليث أحداث الأمس. الخطبة المحيّرة، الحديث مع الإمبراطور، وتلك النظرة الأخيرة.
بالنظر إلى الوراء، كان يومًا غريبًا لا يُعقل فيه شيء.
كانت الأحداث التي وقعت بالأمس أشبه بالحلم مقارنة بالكابوس الذي رأته للتوّ.
ظهر وجه زينون في ذهنها مجدّدًا.
تلك النظرة.
نظرة مليئة بالرغبة القويّة والثابتة.
لم تصدّق ذلك. لا، بل لم تستطع قبوله. لم تكن ليليث قادرة على تحمّل فكرة أنّ زينون ماير يجرؤ على حمل مشاعر تجاهها.
لكنّه نظر إليها بتلك الطريقة، وهذا حقيقة واضحة.
لكن منذ متى؟
شعرت ليليث بقشعريرة من النسيم البارد.
حاولت تتبّع ذكرياتها، لكنّها لم تتذكّر شيئًا. بالنظر إلى الماضي، كان زينون دائمًا مطيعًا بشكل مبالغ فيه.
و لم يكن يجرؤ على مواجهة عينيها مباشرة أبدًا.
إذا كان قد أخفى مشاعره طوال تلك المدّة وانتظر الفرصة…
ما الذي يفترض بليليث أن تفعله؟
شعرت بالحيرة لأوّل مرّة.
ظلّت ليليث تفكّر وهي تنظر إلى السماء، فأمضت الليل ساهرة. كانت الأفكار المشتّتة كثيرة جدًا لتعود إلى النوم.
* * *
أخيرًا، أشرق الصباح.
لم تنم ليليث جيّدًا بسبب الكابوس، لكنّها لم تكن تريد أن تظهر بمظهر مضطرب.
بسبب طباعها الحادّة، كان الأرق أمرًا معتادًا. لذا، لم يكن هذا شيئًا كبيرًا بالنسبة لها.
استقبلت الصباح كالمعتاد، كما لو أنّ شيئًا لم يحدث الليلة الماضية.
عندما بدأت مهام اليوم، طرق كبير الخادم الباب.
“سيّدتي، لديكِ زائر.”
توقّفت ليليث عن ترتيب الأوراق وتردّدت.
“…زائر؟”
ما هذا الكلام؟ زائر في الصباح دون دعوة؟ من كان، فقد تجاوز حدود المفاجأة إلى الوقاحة.
أيّ نبيل يزور منزل آخر في الصباح الباكر دون موعد مسبق؟
نقرت ليليث بأصابعها على الطاولة.
وقاحة…
شعرت أنّها تعرف هويّة الزائر.
كان هناك شخص واحد فقط في محيطها قادر على ارتكاب مثل هذا التصرّف بثقة.
تنهّدت ليليث ونهضت من مكانها.
“حسنًا. سأذهب بنفسي.”
عندما وصلت إلى غرفة الاستقبال، كان هناك رجل ينتظرها بالفعل.
“مرحبًا، ليليث.”
كان الزائر غير المرغوب فيه في الصباح هو كارل.
“ما الذي جلبك في الصباح الباكر؟”
ربّما بسبب انزعاجها، خرج صوتها بنبرة حادّة.
تجاهلت ليليث التحيّة وجلست مباشرة مقابل كارل.
“ما الذي جلبني؟ هل أحتاج سببًا لزيارة صديقتي؟”
‘يا للرعونة..’ سخرت ليليث بابتسامة خفيفة.
كانت تعرف صديقها القديم جيّدًا. كان كارل رجلاً يتحرّك بدافع الفضول.
حتّى لو كان صديقًا، لم يكن ليتحرّك دون وجود “أمر ممتع”.
وإذا كان هناك شيء يمتعه، فمن المرجّح أنّه سيزعج ليليث.
“أنا مشغولة. قل السبب فقط.”
عندما قطعت ليليث الكلام بحدّة، رفع كارل كتفيه.
“يا لكِ من قاسية. لا تكوني رسميّة هكذا… حسنًا، حسنًا. سأقول.”
رفع كارل راية الاستسلام فورًا تحت نظرتها الحادّة.
أبعدت ليليث عينيها عنه بلامبالاة ورفعت فنجان الشاي أمامها إلى فمها.
لم تكن رائحة الزهور الهادئة، التي تُفترض أن تهدّئ الأعصاب، فعّالة اليوم.
خدش كارل رأسه وبدأ يتحدّث.
“في الحقيقة… إنّه عن السير زينون.”
توقّفت ليليث عند سماع ذلك.
“ماذا عن ذلك الرجل؟”
ارتجف كارل عندما رأى ليليث ترفع عينيها بحدّة.
“مهلاً، مهلاً… لا تنظري إليّ بهذا الشكل المخيف. أنا هنا من أجلكِ أيضًا.”
أدركت ليليث أنّها بالغت في ردّ فعلها. أخذت نفسًا عميقًا لتهدأ واستعادت رباطة جأشها، ثمّ سألت باكبر قدرٍ ممكن من الهدوء.
“قل المهم بسرعة وباختصار. ماذا فعل ذلك الرجل؟”
نظر كارل حوله ثمّ فتح فمه.
“بعد أن غادرتِ أمس، أصبح الجميع يتحدّثون كثيرًا.”
استمعت ليليث إلى صديقها بهدوء بنظرة ثاقبة.
التعليقات لهذا الفصل " 9"