مرَّت أيامٌ قليلةٌ دونَ أيِّ حدثٍ يُذكرُ.
“هذه تقاريرُ منَ الدوقيةِ.”
كانَ بعدَ ظهرٍ عاديٍّ، حيثُ كانت ليليث منهمكةً في أعمالها المكتبيةِ كالمعتادِ.
تلقت حزمةَ وثائقَ من مساعدها و بدأت تقلبُ
صفحتها واحدةً تلوَ الأخرى متفحصةً المحتوى.
“…يبدو أنها اليومَ أكثرَ سماكةً منَ المعتادِ.”
انحنى المساعدُ ردًا على كلامها.
“نعم. يبدو أنَّ هناكَ أمرًا ما في الدوقيةِ.
التفاصيلُ موجودةٌ في الصفحةِ التاليةِ.”
تبعت ليليث تعليماتهُ وقلبَتِ الورقةَ.
في اللحظةِ التي رأت فيها المحتوى،
تجمدت ملامحُ وجهها قليلاً.
“…جفاف؟”
ظهرت كلمةٌ لم ترَها من قبلُ في مثلِ هذه التقاريرِ.
أصبحَ تعبيرُ ليليث جادًا فورًا وبدأت تقرأُ التقريرَ بعنايةٍ.
كانَ المضمونُ يفيدُ أنَّ المناطقَ الشماليةَ للدوقيةِ لم تشهد هطولَ أمطارٍ مؤخرًا، على عكسِ السنواتِ السابقةِ.
كانَ ذلكَ أمرًا غيرَ مسبوقٍ في السجلاتِ،
ومعَ أنهُ لم يحدث شيءٌ خطيرٌ بعدُ،
إلا أنَّ مستوى المياهِ في بحيرةِ الغابةِ
بدأَ ينخفضُ تدريجيًا.
و وصلت إلى رأيٍ يقولُ إنَّ سرعةَ هذا الانخفاضِ غيرُ طبيعيةٍ ويستحقُّ الانتباهَ، فأمالت رأسها متسائلةً.
“ما المقصودُ بأنهُ غيرُ طبيعيٍّ؟”
شعرت ليليث بشيءٍ غامضٍ فعبست.
أضافَ المساعدُ شرْحاً بعدَ أن لاحظَ ردةَ فعلها.
“الجفافُ ليسَ شائعًا لكنهُ قد يحدثُ.
لا يمكننا الوقوفُ بوجهِ إرادةِ السماءِ.
و لم يكن غائبًا تمامًا عن التاريخِ أيضًا.
لكن يقولونَ إنَّ سرعةَ جفافِ مياهِ البحيرةِ أسرعُ
بكثيرٍ مما هوَ متوقعٌ.
المراقبونَ اتفقوا على أنَّ ذلكَ غيرُ طبيعيٍّ.
منَ الأفضلِ أن نجدَ السببَ ونضعَ خطةً للتعاملِ معهُ.”
تفحصت ليليث التقريرَ بوجهٍ متصلبٍ.
كانت هناكَ تفاصيلُ أكثرَ دقةً عما ذكرهُ المساعدُ.
جفاف…
مرَّ كاليكس في ذهنها فجأةً.
تذكرت حلمًا رأتهُ منذُ فترةٍ قصيرةٍ.
كانت متأكدةً أنَّ البحيرةَ المذكورةَ في التقريرِ هيَ ذاتها التي رأتها في حلمها.
تلكَ البحيرةُ التي قضت فيها وقتًا معَ كاليكس ذاتَ مرةٍ. وفي الحلمِ،
تحولَ كاليكس إلى وحشٍ وخنقَ عنقها عندَ تلكَ البحيرةِ بالذاتِ.
‘…هذا ليسَ جيدًا.’
شعرت ليليث بألمٍ في رأسها فعبست.
نقرت بأصابعها على الطاولةِ وغرقت في التفكيرِ.
كانت هناكَ قطعُ أحجيةٍ عديدةٌ متناثرةٌ في ذهنها.
بدت وكأنها تُشكلُ صورةً واحدةً، لكن، لسببٍ ما،
لم تستطع جمعها معًا.
في النهايةِ، أغلقتِ التقريرَ.
“لننتقلَ إلى الأمرِ التالي.
سأتركُ هذه المسألةَ لمزيدٍ منَ المتابعةِ.”
“نعم.” انحنى المساعدُ وناولها وثائقَ أخرى.
طردت ليليث قطعَ الأحجيةِ التي ملأت عقلها بسرعةٍ وانغمست مجدداً في عملها.
عندما انتهت من جميعِ مهامها،
كانَ الخارجُ قد بدأَ يغرقُ في غروبِ الشمسِ.
“أختي!”
ما إن خرجت منَ المكتبِ حتى ركضت روزالين نحوها كأنها كانت تنتظرُ.
كانَ وجهها المبتسمُ مشعًا كنورٍ،
يشبهُ وردةً متفتحةً بجمالٍ ونضارةٍ.
ضحكت ليليث بخفةٍ.
“هل انتظرتِ طويلاً، روزالين؟”
“ماذا؟ لا، لقد جئتُ للتوِّ!”
حتى لو قالت ذلكَ،
كانَ منَ الواضحِ أنها انتظرت أختها الكبرى لوقتٍ طويلٍ.
قبلَ كلِّ شيءٍ، كانت قد أكملت استعداداتها للخروجِ.
منذُ ساعاتٍ، كانت متحمسةً لموعدِ اليومِ،
ولم يكن بإمكانِ ليليث ألا تلاحظَ ذلكَ.
وجدت ليليث أنَّ أختها الصغرى التي تنظرُ إليها بعيونٍ متلألئةٍ لطيفةً.
“انتظري قليلاً. سأستعدُ وأعودُ.”
“نعم نعم، حسنًا!”
ربتت ليليث على رأسِ روزالين برفقٍ مرةً واحدةً،
ثمَّ اتجهت إلى غرفتها لتستعدَ للخروجِ.
بينما كانت تسيرُ في الممرِ،
أدارت ليليث رأسها قليلاً لتنظرَ عبرَ النافذةِ.
إذا نفذَ كارل المهمةَ جيدًا،
فقد تلتقي ليليث بزينون مجددًا اليومَ.
هل سيتحركُ كما خططت لهُ؟
لقد نثرت الطعمَ، والآنَ حانَ وقتُ رؤيةِ النتائجِ.
أعادت ليليث نظرها إلى الأمامِ وسارت بخطواتٍ واثقةٍ.
لم يكن هناكَ أدنى ترددٍ في حركتها.
* * *
ترددَ صوتُ لحنٍ جميلٍ في قاعةِ العرضِ.
كانت مغنيةُ السوبرانو على المسرحِ ترتدي فستانًا فاخرًا وتعرضُ مهاراتها بكلِّ حريةٍ.
أعجبت روزالين، التي كانت تجلسُ في مقعدِ الشخصياتِ المهمةِ، بالمشهدِ.
“واو…”
بالنسبةِ لروزالين، كانت هذه أولَ تجربةٍ حقيقيةٍ لمشاهدةِ عرضٍ مسرحيٍّ.
بسببِ ضعفِ جسدها، لم تكن تزورُ العاصمةَ كثيرًا منَ الأساسِ لكن بالنسبةِ لليليث،
كانَ العرضُ مجردَ شيءٍ مملٍ يثيرُ التثاؤبَ،
لكن إذا كانت أختها الصغرى تستمتعُ بهِ، فهذا يكفيها.
لكن… ليسَ هناكَ داعٍ لمشاهدةِ هذا بالضرورةِ.
حدقت ليليث في المسرحِ بوضعيةٍ مستقيمةٍ دونَ أيِّ اضطرابٍ، ثمَّ أخرجت ساعةَ الجيبِ لتتحققَ منَ الوقتِ.
كانَ الفصلُ الأولُ من المسرحية على وشكِ الانتهاءِ.
“روزالين.”
“نعم؟”
همست ليليث في أذنِ روزالين بهدوءٍ.
“استمري في مشاهدةِ العرضِ.
سأخرجُ قليلاً وأعودُ.”
“ماذا؟ آه… نعم…!”
أومأت روزالين برأسها بلا مبالاةٍ وهيَ منشغلةٌ بالمسرحِ.
يبدو أنَّ حتى أختها الصغرى،
التي كانت تتبعها عادةً بحماسٍ،
لم تستطع مقاومةَ هذا التحفيزِ الجديدِ.
كانَ ذلكَ أمرًا جيدًا في الحقيقةِ.
حكمت ليليث ببرودٍ ثمَّ ابتسمت بخفةٍ.
بقيت روزالين عاجزةً عن رفعِ عينيها عنِ المسرحِ.
‘و الآن حانَ وقتُ الذهابِ..’
نهضت ليليث وخرجت منَ المقصورةِ.
كانتِ السماءُ قد أظلمت منذُ وقتٍ طويلٍ.
و بما أنَّ العرضَ كانَ في أوجهِ،
لم يكن هناكَ الكثيرُ منَ الناسِ في الخارجِ.
وبعدَ غروبِ الشمسِ تمامًا، لم يكن هناكَ العديدُ منَ المارةِ في الشوارعِ أيضًا.
و هكذا بقيّ أمامَ ليليث طريقٌ هادئٌ.
حدقت فيهِ بهدوءٍ ثمَّ بدأت تمشي.
كانَ السيرُ في شوارعِ الليلِ دونَ حراسةٍ أمرًا نادرًا بالنسبةِ لها منذُ زمنٍ.
بل، أليسَ منَ الصحيحِ القولُ إنهُ كانَ الأولَ تقريبًا؟
حتى في أيامِ الأكاديميةِ،
كانَ كارل أو كاليكس دائمًا بجانبها.
تذكرت ليليث أصدقاءها
وهيَ تتجهُ نحوَ مكانٍ أكثرَ ظلمةً.
وأخيراً، وصلت إلى زقاقٍ معتمٍ.
توقفت ليليث للحظةٍ قبلَ أن تدخلَ الزقاقَ.
منَ الآنَ فصاعدًا، إنها مقامرةٌ حقيقيةٌ.
على الأرجحِ،
يظنُّ حراسها أنها لا تزالُ تشاهدُ العرضَ بهدوءٍ.
وبما أنهُ لا يوجدُ مارةٌ،
فلن يكونَ هناكَ من يساعدها.
إذا حدثَ خطأٌ ما، قد يتطورُ الأمرُ إلى أسوأِ السيناريوهاتِ.
لكن ليليث كانت تعرفُ.
كانت تعلمُ أنَّ الأمورَ ستسيرُ كما خططت لها.
لم يكن ذلكَ أملاً، بل يقينًا.
لذا، في اللحظةِ التي انتهت فيها منَ التفكيرِ،
دخلت الزقاقَ دونَ ترددٍ.
خطوةٌ، ثمَّ خطوةٌ أخرى.
بينما كانت تسيرُ، تذكرت في ذهنها حوادثَ السطوِ العديدةَ التي قرأت عنها في الصحفِ.
ليلٌ معتمٌ. في زقاقٍ متشابكٍ كمتاهةٍ، ي
تربصُ لصوصٌ جريئونَ يستهدفونَ الأثرياءَ والنبلاءَ.
كانت ليليث الآنَ فريسةً مثاليةً لهم.
امرأةٌ نبيلةٌ ضعيفةٌ دونَ حمايةٍ،
لكنها تملكُ المالَ الكثيرَ.
وفي الواقعِ،
لم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتى جاءَ ردُّ الفعلِ الذي توقعته.
فجأةً، جذبها شخصٌ منَ الخلفِ.
“يا هذه.”
وصلَ صوتٌ خشنٌ مزعجٌ إلى أذنيها.
وفي الوقتِ ذاتهِ، سُدَّ فمُ ليليث.
“إذا وعدتِ ألا تصرخي، سأترككِ. هل فهمتِ؟”
شعرت بحدٍّ باردٍ يلامسُ رقبتها.
على الأرجحِ، كانَ الرجلُ يحملُ سكينًا.
كانَ موقفًا قد ترى فيهِ دمها إذا تحركت خطأً.
لكن ليليث تفحصتِ الموقفَ بعيونٍ هادئةٍ.
حسناً، البدايةُ جيدةٌ على الأقلِّ…
عندما لم تُظهر أيَّ ردةِ فعلٍ، زمجرَّ اللص.
“أجيبي، بسرعةٍ!”
اقتربَ النصلُ أكثرَ من رقبتها.
عندما شعرت بوخزٍ خفيفٍ،
عبست ليليث بردةِ فعلٍ لا إراديةٍ.
يبدو أنَّ هذا الرجلَ أكثرَ عنفًا مما توقعتُ.
كانَ نفسُ الرجلِ القريبُ يلامسُ خدها،
مما جعلها تشعرُ بالاشمئزازِ.
لكن، من أجلِ تحقيقِ هدفٍ كبيرٍ،
كانَ عليها أن تتحملَ بعضَ الأمورِ،
مهما كانت مقززةً.
بدأت ليليث تُعَدُّ في ذهنها بصبرٍ وببطءٍ شديدٍ.
واحدٌ.
“هل هذا جديٌّ؟ هل تريدينَ الموتَ؟”
اثنانِ.
ثمَّ…
“آه!”
ثلاثةٌ.
بانغ!
فجأةً، طارَ الرجلُ الذي كانَ يمسكُ ليليث بعيدًا واصطدمَ بالحائطِ.
“آه!”
صرخَ الرجلُ الذي ضُربَ من شخصٍ ما دونَ أن يدركَ، لكن صراخهُ لم يدم طويلاً.
لأنَّ شخصًا ما أمسكَ بياقتهِ ورفعهُ.
“كح، كح… أطلق سراحي، أرجوكَ!”
لم تستطع ليليث سوى رؤيةِ ظهرِ ذلكَ الشخصِ.
رجلٌ طويلُ القامةِ، ذو بنيةٍ قويةٍ.
و كانَ يمتلكُ قوةً لا تُقارنُ بقوةِ لصٍّ تافهٍ.
أدركت هويتهُ من نظرةٍ واحدةٍ.
“…كما توقعتُ.”
رفعت ليليث زاويةَ فمها في ابتسامةٍ ملتويةٍ.
كانَ صوتها خافتًا جدًا، لكن عندَ سماعِ كلماتها،
أدارَ الرجلُ رأسهُ ببطءٍ.
حدقت فيها عينانِ رماديتانِ.
“لقد تأخرتَ، زينون.”
كانَ زينون ماير.
التعليقات لهذا الفصل " 20"