إذا كُنت ترغَب فِي أن تترُكَني - 7
“… هل هذا صحيح؟”
لم تستطع ديليا إخفاء دهشتها.
هل زارت السيدة الكبرى لعائلة هيلدبراندت ، أي والدة كالياس ، القصر؟ و بدون أي إعلان مسبق، هكذا فجأة؟
لأنها كانت تكره انتظار أي شخص منذ زمن بعيد، أسرعت ديليا إلى غرفة الملابس وارتدت ثوبًا محتشمًا يغطي عظام الترقوة.
بينما كانت تلقي نظرة خاطفة على الإكسسوارات الموضوعة على طاولة الزينة، تدلّت حاجباها في استياء.
“من الأفضل ألا أرتدي أي إكسسوارات.”
لطالما اعتبرت السيدة الكبرى أن تناول ديليا للطعام الجيد وارتداء الملابس الفاخرة أمر لا يُغتفر.
‘ما الذي أتوقعه من عائلة بليك؟’
كانت تقول هذا باستمرار، متهمةً ديليا بعدم معرفة قيمة المال، مما جعلها غير قادرة حتى على رفع رأسها.
ذات مرة ، حاولت ديليا المقاومة ،
‘كل هذه الهدايا تلقيتها من زوجي ، فلماذا تغضبين أنتِ؟’
لكن الإجابة التي تلقتها كانت صادمة للغاية.
“أنتِ مجرد امرأة خبيثة استدرجت ابني!”
في تلك اللحظة، أدركت ديليا الحقيقة.
لم تكن السيدة الكبرى تكرهها فحسب ، بل كانت تراها امرأة شريرة سرقت ابنها منها.
أرادت ديليا، التي صُدمت من كلماتها، أن تطلب المشورة من كالياس، لكنها سرعان ما تراجعت.
لم ترغب في التسبب في قطيعة بين الأم وابنها.
لكن… كلما تجاهلت الأمر، زادت حدّة هجومها بشكل لا يُتصور، وبحلول الوقت الذي بدأت فيه ديليا تفقد قدرتها على الاحتمال، كان كالياس قد تعرّض لهجوم من قبل مجهولين وفقد ذاكرته.
“ماذا ستقول هذه المرة؟”
لطالما كانت تغضب بمجرد رؤيتها، لذا فإن حقيقة قدومها فور سماعها بإصابة كالياس تعني أنها لا تنوي ترك الأمور تمر بسلام.
تأملت ديليا انعكاس صورتها في المرآة وتنفست بعمق.
ربما هذه المرة… يجب أن تكون مستعدة لتلقي صفعة.
بعد الانتهاء من استعداداتها، خرجت بسرعة من غرفة الملابس.
لم يختفِ قلقها ولو للحظة وهي في طريقها إلى غرفة الاستقبال.
“لقد أتيتِ بسرعة، حقًا.”
أخفضت ديليا عينيها.
لقد أسرعت في تجهيز نفسها فور سماعها بالخبر، ومع ذلك، كان أول ما سمعته بعد هذا الوقت الطويل هو التوبيخ.
شعرت بمرارة تخالطها خيبة أمل.
“أعتذر. لقد تأخرتُ بسبب تغيير ملابسي.”
“لا حاجة للأعذار السخيفة. اجلسي فحسب.”
لم تكن تنصت إليها من الأساس.
كانت ديليا تتوقع هذا بالفعل، لكن رؤية نظراتها الباردة مجددًا جعلت الدم يتجمد في عروقها.
أسرعت بالجلوس على الأريكة قبل أن تنهمر عليها جولة جديدة من التوبيخ. تطلعت بعينيها نحو كوب الشاي الموضوع أمامها بقلق مكبوت.
‘السيدة الكبرى لم تتغير قط’
إيزابيلا هيلديبرانت ، دوقة هيلديبرانت السابقة ووالدة كالياس.
شعرها الحريري وبشرتها الناعمة المتألقة جعلاها تبدو فاتنة بما يكفي لجذب الأنظار حتى في أبسط أفعالها، كتناول الشاي مثلًا.
نظرت ديليا إليها بقلق بينما كانت تستعد لما هو قادم.
“كيف كنتِ تقضين وقتك؟”
“كنتُ أعيش كما أفعل دائمًا، أدير شؤون الخدم وأستقبل الضيوف…”
بدأ العرق يتجمع في راحتيها.
لم تكن نظرات إيزابيلا مختلفة عن نظرات أفعى تراقب فريستها، فوجدت ديليا نفسها تنكمش بلا وعي.
لطالما كانت هذه المواجهات تحدث فقط أثناء غياب كالياس في المعارك، لكن الآن … كان غيابه أكثر وضوحًا من أي وقت مضى.
مسحت إيزابيلا ديليا بنظرة طويلة بطيئة من رأسها إلى أخمص قدميها، ثم وضعت كوب الشاي على الطاولة وعقدت ذراعيها بهدوء.
“كم مرة أخبرتكِ أنه ينبغي عليكِ النظر إلى من تتحدثين معه؟ ألم تتعلمي أصول اللياقة بعد؟”
“آه…”
كان لدى ديليا الكثير مما تود قوله.
هل تعتقد السيدة الكبرى أنها لا تفهم ذلك؟ كلما حاولت ديليا النظر إليها مباشرة، كانت ترد عليها بصراخٍ أشد غضبًا!
للحظة، رغبت ديليا في التعبير عن كل تلك الأفكار التي ظلت حبيسة داخلها. لكنها لم تجرؤ.
“ما زلتِ لا تفهمين كلامي، كما يبدو”
“لا، ليس الأمر كذلك.”
“هل تفعلين هذا لأنكِ ترغبين في العودة إلى بيت عائلتكِ مرة أخرى؟”
شحب وجه ديليا تمامًا.
منزل عائلتي … ربما يكون ذلك مصطلحًا دافئًا و مليئًا بالحنين بالنسبة للبعض ، لكن الأمر كان مختلفًا بالنسبة لديليا.
بالنسبة لها ، كان من الذكريات التي لا تريد حتى تذكرها.
نهضت ديليا فجأة من مكانها وتقدمت نحو إيزابيلا،
ثم جثت على ركبتيها على الأرض دون تردد، وتوسلت بصوت ضعيف: “أنا مخطئة، أرجوكِ، لا تعيديني إلى عائلتي”
“لقد حاولتُ أن أتحمل قدر الإمكان، لو لم تقومي بتصرف غبي من تلقاء نفسكِ…”
كانت إيزابيلا تمسد سطح فنجان الشاي ، تحدق في الشاي الذي بدأ يبرد بنظرة غامضة، ولكنها كانت مخيفة للغاية.
“لقد سمعتُ القصة بالكامل، لقد فقد ابني ذاكرته أثناء محاولته حمايتكِ، أليس كذلك؟”
“سيدتي، أرجوكِ استمعي إلى…”
“يا لكِ من حمقاء.”
دارت عينا إيزابيلا بغضب، و كانت نظرتها الحادة، التي بدت وكأنها تغرس سكاكينًا في جسد ديليا ، كافية لجعلها تشعر وكأنها مكبلة بحبال مُحكَمة.
أخذت ديليا نفسًا مرتعشًا، وانحنت أكثر وهي تقول بصوت خافت: “أنا لم أكن أريد ذلك، لم أكن أريد أن يُصاب كالياس.”
“أغلقي فمكِ، من تظنين نفسكِ حتى تردي على كلامي؟!”
تشاا! سكبت إيزابيلا كوب الشاي بالكامل على وجه ديليا.
دخلت ديليا في نوبة سعال مستمرة بعدما دخل الشاي إلى أنفها وفمها. ورغم أنها لم تُصب بحروق لأن الشاي كان في الكوب بالفعل، إلا أن حرارته المتبقية جعلت وجهها يشتعل احمرارًا في لحظة.
لم تستعد وعيها إلا بعد فترة طويلة، ثم رفعت رأسها المرتجف ببطء.
“ما كان يجب أن أقبلكِ ككنّة لهذه العائلة. كان عليّ أن أعرف أن التقاط الحمقى المنبوذين من عائلاتهم لن يجلب سوى المتاعب.”
عضّت ديليا شفتيها بقوة.
كانت تعتقد أنها اعتادت على جبروت إيزابيلا ، لكن نظرات الكراهية التي ازدادت حدة عن ذي قبل جعلت كتفيها ترتعشان.
لو كان والداها ما زالا على قيد الحياة، لما تجرأت إيزابيلا على معاملتها بهذه الطريقة. أغمضت ديليا عينيها بهدوء تحت وطأة النظرات القاسية التي تخترق وجهها.
أن تعيش حياة لا تتلقى فيها أي حب… كان ذلك أمرًا يفوق الاحتمال، مؤلمًا ومرًا حد الاختناق.
“…أنا آسفة.”
آسفة لأن كالياس أُصيب إصابة بالغة بدلاً منها ذلك اليوم.
آسفة لأنها، رغم كل ذلك، لا تزال تصرّ على عدم الطلاق.
مسحت ديليا وجهها المبقّع بالشاي بباطن يدها كيفما اتفق ، ثم أجبرت نفسها على رسم ابتسامة وهي تنظر إلى إيزابيلا التي كانت ملامحها مزيجًا من الاستياء والاحتقار.
“أتساءل … هل كان ابني على علم بذلك؟ أنه سيصاب بجروح خطيرة بسبب المرأة التي وثق بها ذات يوم”
كلمة “ذات يوم” التي قالتها إيزابيلا اخترقت قلب ديليا كطعنة خنجر.
“لم أكن أريد له أن يُصاب بأذى أبدًا…”
“ألم تنسي ما فعله كالياس من أجلكِ كي يتزوجكِ؟”
صرخت إيزابيلا بنبرة قاسية، فالتزمت ديليا الصمت.
كانت العائلتان في عداوة طويلة الأمد، كالأعداء الذين لا يمكن أن يجمعهم سوى الدم والدماء. كان مجرد التفكير في إقامة حفل زفاف بينهما ضربًا من المستحيل.
أما فصيل النبلاء الذي تنتمي إليه ديليا ، فقد كان يمكن استرضاؤه بالمفاوضات. لكن عائلة هيلدبراندت، التي كانت لقرون عدة من أشد المخلصين للإمبراطور، رفضت الزواج بشدة.
وفي النهاية، بعد أيام وليالٍ من التفكير، ركع كالياس أمام الإمبراطور وقال: “سأتولى قيادة هذه الحرب وأعود وقد بسطتُ سيطرتي على الأراضي.”
تفاجأ الإمبراطور بكلام كالياس.
ولم يكن ذلك مستغربًا، إذ إن المكان الذي ذكره كالياس كان ساحة حرب ضد البرابرة، حيث لم يكن الموت فيها أمرًا غير متوقع. وبقراره الذهاب إلى هناك طوعًا، كان كالياس يعلن عزمه على تحقيق النصر بأي ثمن.
وفي النهاية، وبعد صراع طويل، نجح كالياس في النجاة من ساحة المعركة، وقاد الحرب إلى النصر، مما جعله يستحق مكافأة عظيمة.
‘لا يمكنني نسيان ذلك اليوم أبدًا’
كان مشهد كالياس وهو يعود إلى الوطن مغطى بالدماء بالكامل صادمًا إلى أقصى حد. احتضنته ديليا بقوة، وهي تجهش بالبكاء.
كيف لرجل مثله أن يخاطر بحياته في حرب ضروس ضد البرابرة من أجلها؟ حدقت به، ذلك الرجل الأحمق، وهمست بلا توقف بكلمات الحب في أذنه.
‘أنا … لا أستحق هذا’
قبضت ديليا على يديها بإحكام.
منذ ذلك اليوم، بذلت كل ما في وسعها من أجل كالياس ، لكن مجرد هجوم واحد كان كفيلًا بهدم كل ما بنته.
بينما كانت تعترف بخطئها، متجاهلة الألم الحارق الذي ينبض في راحة يدها، انطلق صوت ضحكة ساخرة في أرجاء الغرفة.
“ما الذي يجري هنا؟”
بمجرد سماعها ذلك الصوت المألوف، التفتت ديليا وكأنها مسحورة. و هناك ، مستندًا إلى الباب ، كان كالياس يقف متكئًا، وذراعاه متشابكتان.
“يا إلهي ، ابني!”
نهضت إيزابيلا من مقعدها على الفور.
رؤية ابنها واقفًا بعد مرضه جعلت دموع التأثر تتلألأ في عينيها. هرعت نحوه، فاتحة ذراعيها على مصراعيها، وكأنها ترغب في احتضانه و تربت ظهره لتواسيه بعد معاناته.
“تنحّي جانبًا، أنتِ تعيقينني.”
تردد كالياس للحظة، ثم تفادى يد والدته متجهًا مباشرة إلى ديليا، التي كانت لا تزال راكعة على الأرض.
مد يده نحوها وأمرها بصرامة:
“انهضي فورًا.”
“ماذا…؟”
“أما زلتِ غير واعية لدورك كدوقة؟”
نهضت ديليا على عجل، لكن بسبب طول المدة التي قضتها راكعة، لم تستطع الحفاظ على توازنها جيدًا. فشحب وجهها وهي تستعد للسقوط، متوقعة الألم القادم.
“يبدو أنكِ أضعف حتى من طفل صغير”
لكن قبل أن تصل إلى الأرض، أمسك كالييوس بكتفيها، وسند جسدها المتهاوي بين ذراعيه.