“كيف سيكون الأمر برأيكِ؟ بالطبع، ستعود السيدة إلى عائلة بليك، حيث وُلِدت ونشأت.”
“……!”
اختفت الحُمرة من وجه داليا.
كان صحيحًا أن كالياس هو من طلب الطلاق، لكنها لم تفكر أبدًا فيما سيحدث بعد ذلك. بالنسبة لـ ديليا، كانت عائلة بليك كأنها لم تعد موجودة في حياتها.
مجرد فكرة أنها قد تضطر للعودة إلى ذلك المكان مجددًا جعلتها تعض شفتيها بقوة.
“لا… هذا مستحيل.”
الشخص الذي انتشلها من ذلك المكان لم يكن سوى كالياس نفسه. لم يكن من الممكن أن يكون هو نفسه من يدفعها الآن إلى السقوط في الهاوية.
… نعم، أرادت أن تصدق ذلك.
وإلا، فهذه المرة، سيكون من المؤكد أن تنهار روح ديليا وقلبها تمامًا.
عندما رأت رئيسة الخدم تقترب من الجهة المقابلة، غادرت المكان بسرعة، متوجهة إلى ركن هادئ لا يدخله أحد سواها، كونها دوقة القصر.
***
“حبيبي، ما الزهرة التي تحبها؟”
في ذلك الوقت، عندما أصبحت ديليا للتو دوقة، حدّقت في الحديقة الجرداء و ملامحها مترددة.
ربما كان ذلك بسبب أن الدوقة السابقة، الغاضبة من زواجها بكالياس، قد غادرت القصر. فلم يبقَ في الحديقة سوى أغصان جافة قاحلة، مما جعل ديليا تهز رأسها.
“… زهرة، أي زهرة؟” ،
تردد كاليـوس للحظة أمام سؤالها، ثم ابتسم.
نظر إليها بنظرة دافئة قبل أن يجيب بصوت هادئ ومسترخٍ:
“الليلك.”
“ماذا؟ هل هذا صحيح؟”
لم يكن هذا الجواب متوقعًا على الإطلاق. لم تكن تتخيل أن كالياس، ذو الصورة الباردة، قد يفضل زهور الليلك ذات الطابع النقي والرقيق.
عندما ظهرت ملامح الدهشة على وجهها، رفع كالياس يده بلطف، ومسح زاوية عينيها بإصبع خفيف.
“لأنها تشبهكِ تمامًا.”
عندما حدّقت ديليا في زوجها الذي قال لها إنها تشبه زهرة الليلك، شعرت بقلبها ينبض بسرعة. خفضت عينيها ذات اللون الأرجواني وابتسمت بلطف.
وبعد بضعة أشهر، زُرِعت العديد من أشجار الليلك في قصر الدوق، وبدأت في إزهار بتلاتها الجميلة كل عام. وفي كل مرة، كان الاثنان يتجولان معًا في حديقة الليلك بينما تهب نسمات الربيع من حولهما.
… والآن، وجدت ديليا نفسها وحيدة، تعود مرة أخرى إلى تلك الحديقة. حدّقت في الأشجار التي بدأت براعمها الجديدة بالظهور، وارتسمت على وجهها ملامح الحيرة والقلق.
“هل يا تُرى… عندما تتفتح أزهار الليلك بالكامل، ستعود ذكريات كالياس المفقودة أيضًا؟”
مجرد التفكير في أنها قد لا تتمكن من رؤية أزهار الليلك معه هذا الربيع جعل أنفها يلسع من الحزن. مدت يدها ببطء نحو إحدى الأشجار وهي غارقة في أفكارها، لكن عندها…
سمعتُ صوتًا غير متوقع ،
“ماذا تفعلين هنا؟”
استدارت ديليا نحو مصدر الصوت كما لو كانت منوّمة، لقد كان صوتًا مألوفًا.
كالياس، الذي تفوح منه رائحة الحبر الخفيفة، بدا أكثر هدوءًا واتزانًا من المعتاد، وكأن جوًا من الذكاء كان يحيط به.
أن يأتي كالياس، الذي فقد ذاكرته، إلى هذا المكان المهم من تلقاء نفسه… كان مشهدًا لا يُصدّق، مما جعل ديليا تحدق فيه بذهول.
“هل تحبين الزهور؟”
“…….”
ماذا لو أخبرتُه الآن أن الليلك هي الزهرة التي كان يحبها من قبل؟ كيف ستكون ردة فعله؟ من المؤكد أنها لن تكون كما كانت في الماضي.
لكن…
“نعم، أحب الزهور. و أنتَ أيضًا كنت تحب—”
“أنا لا أُحِب الزهور.”
قاطع كالياس كلماتها ببرود، مما جعلها تتجمد في مكانها. نظراته نحو أشجار الليلك بدت خالية من أي اهتمام، جافة وكأنها لا تحمل أي مشاعر.
“إذًا… ماذا عن الليلك…؟”
“الأمر نفسه ينطبق على الليلك. كلما رأيت بتلاتها البنفسجية، أشعر بعدم الارتياح يتسلل إليّ من أطراف قدمي. لا أفهم أبدًا ما الجيد في هذه الزهرة التافهة.”
دوووم—
شعرت و كأن قلبها سقط في الهاوية.
كالياس يكره الليلك؟ إذن، هل كان يتظاهر بحبها قبل أن يفقد ذاكرته؟ بدا صوته البارد و كأنه يعيدها إلى الواقع بقسوة. فقط لأن تلك الذكريات قد مُحِيَت من عقله ، بدا الأمر وكأن كل شيء لم يكن له وجود من الأساس.
“هذه أول مرة أسمع بذلك.”
“أنا لا أميل إلى مشاركة مثل هذه الأمور مع الآخرين. لكن لا أصدق أنكِ لم تعرفي حتى شيئًا بسيطًا كهذا. يبدو أن زواجنا كان واضحًا بالفعل.”
في كل مرة تتحرك فيها شفتيه ، شعرت وكأن قلبها يتمزق إلى أشلاء.
نظرت ديليا إلى كالياس وهو يعبث بقفازاته، ثم فتحت فمها بحذر:
“لكن… هذا المكان هو أكثر مكان قضيتَ فيه وقتًا في الماضي.”
“… أي هراء هذا؟”
اتخذت تعابير كالياس مزيجًا من الدهشة والانزعاج، لكن هذه المرة، لم تستطع ديليا التراجع.
لم تكن قادرة على تحمل فكرة ترك الأمور هكذا.
فمدت يدها ولمست برعم زهرة الليلك برفق، قبل أن تتحدث عن الماضي: “لا يوجد شيء في هذا المكان لم تمسه يداك. كل زهرة ليلك تتمايل في الربيع كانت بمثابة هدية منكَ لي”
أنهت ديليا كلماتها، ثم أغلقت شفتيها بصمت.
كانت ديليا تنتظر بردود فعل متباينة—نصفها قلق، والنصف الآخر أمل—لكن ما سمعته كان سؤالًا غير متوقع تمامًا.
“كفي عن هذا الهراء، هل فكرتِ في عرضي؟”
“قبل قليل … ماذا قلت؟”
“توقفي عن التمسك بكلام لا معنى له، وواجهي الواقع. إلى متى تنوين الاستمرار في العيش داخل حلم لا طائل منه؟”
شعرت و كأن دلاءً من الماء البارد قد سُكِبَت فوق رأسها.
أحسّت بوخز مؤلم في قلبها، وحاولت بالكاد السيطرة على جسدها المرتعش، فيما أطبقت شفتيها بقوة لمنع نفسها من الانفجار بالبكاء.
حدقت في كالياس لفترة، ثم أخذت نفسًا عميقًا وشبكت يديها معًا بإحكام.
“سأقولها لك بوضوح مرة أخرى. لن أطلقك”
“…هاه!”
سادت برودة واضحة في الهواء للحظة. شعرت ديليا، بغريزتها، أن كالياس لم يكن راضيًا على الإطلاق، فعضّت شفتيها بقوة.
لكن لم يكن لديها خيار آخر. لو أنها تهربت من الرد الآن، فسيستمر موضوع الطلاق في الظهور كلما التقيا.
كل ما أرادته ديليا هو أن تتحدث مع كالياس بصدق، لا أن يتم دفعها إلى زاوية في أجواء مشحونة كهذه.
“لذا، أرجوكَ … فكر في الأمر قليلًا بعد.”
“حتى لو فكرتُ مجددًا، هل تعتقدين أن شيئًا سيتغير؟”
كانت كلماته مشبعة بعدم الثقة تجاهها. بحثت داليا عن أي طريقة لإقناعه، ثم صاحت بنبرة واثقة:
“إذا حصل الطلاق بهذه الطريقة، فستندم عليه بلا شك!”
كانت تعض شفتيها دون أن تدرك أن أحمر شفاهها قد زال بالكامل.
“… الندم؟ هل تعتقدين أنني سأندم؟”
أطلق كالياس ضحكة ساخرة. راقبها بصمت للحظة، ثم ارتفع حاجبه قليلًا قبل أن يقول: “إن وجودكِ في قصري يزعجني.”
“… ماذا قلت؟”
“حتى مع كل هذا ، هل لا زلتِ تقولين إنني أحبكِ بصدق؟ أشك في أنني أشتكي من غيابكِ أكثر من أي شيء آخر”
اتسعت ملامح الذهول على وجه “ديليا” في لحظة، إثر الهجوم الذي شنه “كالياس ” بلا أي تردد.
كانت واقفة في صدمة، وكأنها فقدت القدرة على الاستيعاب، قبل أن تنطق بصوت فاقد للثقة: “أنا حقًا لا أفهم… كيف يمكنك أن تتغير بهذا الشكل في لحظة واحدة؟ ماذا فعلتُ خطأً إلى هذا الحد…؟”
كانت ممتنة للغاية و مليئة بالذنب تجاه “كالياس”، الذي أنقذ حياتها حتى كاد يفقد حياته. و مع ذلك ، لو كانت تعلم أن الأمور ستؤول إلى هذا ، لما حضرت الحفلة في القصر الإمبراطوري من الأساس.
بينما تمضي في طريقها، تذكرت “ديليا” لحظة سقوط “كالياس”، وهو ينزف بغزارة. ثم ، عندما لامست أصابعها جسده العلوي ، ارتسمت على وجهها نظرة يملؤها الشعور بالذنب.
“سأجعلكَ تستعيد ذكرياتك ، مهما كلفني الأمر”
استرجعت الندبة التي كانت مخفية تحت ثيابه، وجددت عزمها مرة أخرى.
تمامًا كما بدأ يستعيد بعض الذكريات الأخرى، ستساعده أيضًا على استعادة ذكرياته عنها، واحدة تلو الأخرى.
لكن “كالياس” أزاح يدها عنه بخفة. وكأنه يزيل شيئًا متسخًا عن ملابسه، نفض يدها جانبًا بلا تردد، ثم استدار بعيدًا دون أي تردد.
لقد تجاهل تمامًا الدفء الذي انبعث من أطراف أصابعها.
***
في اليوم التالي، لم تستيقظ “ديليا” حتى بعد مرور وقت الغداء.
كانت دائمًا تحرص على تناول الإفطار مهما تأخرت، لذا، عندما وقفت “سارا” أمام الباب، مترددة ولا تعرف ما يجب فعله، عقدت العزم أخيرًا.
حملت “سارا” وعاءً من الماء في إحدى يديها، وطرقت باب غرفة النوم بلطف.
“سيدتي، هل استيقظتِ؟”
وضعت أذنها على الباب، وانتظرت. لكن لم يصلها أي رد، حتى بعد مرور بعض الوقت.
مالت برأسها بحيرة، ثم طرقت الباب مرة أخرى.
و فجأة—
“…آه”
تناهى إلى سمعها صوت أنين خافت من خلف الباب.
ارتبكت “سارا”، وأمسكت بالمقبض قبل أن تنادي بصوت عالٍ: “سيدتي! سيدتي!”
“…مؤلم… ساخن جدًا…”
عندما سمعت صوت “ديليا” الباكي والمليء بالألم، لم تتردد “سارا” في فتح الباب فورًا.
ما رأته أمامها كان “ديليا” وهي على وشك السقوط من سريرها، تعاني بصعوبة.
في تلك اللحظة، أفلتت “سارا” الوعاء الذي كانت تحمله، ليسقط على الأرض. ثم هرعت إلى “ديليا” وأمسكت بها لتدعمها.
“سيدتي! أرجوكِ، تماسكي!”
“…آه.”
كان جسد “ديليا” مبللًا تمامًا بالعرق، وشعرها متشابك على وجهها المتعرق، وهي تلهث بصعوبة. ثم تمتمت بصوت ضعيف يكاد يكون غير مسموع: “أريد أن أراه…”
حين يكون الشخص مريضًا، من الطبيعي أن يتوق إلى الشخص الذي يدعمه ويعتني به.
في الماضي، كان “كالياس ” دائمًا ما يترك كل شيء جانبًا ليهتم بـ”ديليا” عندما تمرض.
لكن هذه المرة، لم تكن الظروف في صالحها. حتى لو انهارت، لم يكن هناك احتمال كبير أن يأتي “كالياس” لرؤيتها.
كانت “ديليا” تعرف ذلك جيدًا.
لذلك، وهي تحدق في الفراغ، أطلقت أنفاسًا ساخنة متقطعة، ثم، على الرغم من نداءات “سارا” المتوترة، أغمضت عينيها ببطء.
Please enter your username or email address. You will receive a link to create a new password via email.
التعليقات على الفصل "5"
التعليقات