إذا كُنت ترغَب فِي أن تترُكَني - 18
“كما ترى في الأوراق، يبدو أن السيدة تخطط لافتتاح صالون قريبًا”
في الآونة الأخيرة، بدأ “كاليـوس” بمراقبة “إيزابيلا” من دون علمها، فقد كان يتغاضى عن تصرفاتها حفاظًا على كرامتها، لكن ذلك لم يكن ليطول أكثر.
تصرفات “إيزابيلا” التي كانت تتجاوز الحدود باستمرار، بما في ذلك تدخلاتها في شؤون “إيفلين”، جعلته يقرر مراقبتها عن كثب.
قد يرى البعض أن ما يفعله خيانة لأمه الوحيدة ، لكن بالنسبة له، لم تكن “إيزابيلا” سوى المرأة التي أنجبته، لا أكثر ولا أقل.
قبل خمسة عشر عامًا، عندما خرج والده في حملة عسكرية، أدخلت “إيزابيلا” رجلًا غريبًا إلى المنزل.
كان رجلًا جميلًا ذا بشرة بيضاء ناصعة وشعر طويل، يختلف تمامًا عن والده. حينها، هرعت “إيزابيلا” نحوه عند المدخل وابتسمت له برقة.
وعندما همَّا بالصعود سرًّا إلى غرفة الضيوف في الطابق الثاني، توقفت فجأة، ثم همست إلى “كاليـوس” بصوت منخفض: “يا فتى، هذه المسألة يجب أن تبقى سرًّا عن والدك”
“ماذا؟ سرٌّ؟”
لم يستوعب “كاليـوس” الصغير حينها السبب وراء إخفاء هذا اللقاء، ولم يفهم لماذا لم تكن والدته تراسل والده، الذي لم يعد إلى المنزل منذ أشهر.
لكن بعد دقائق، حين تسلل إلى الباب المفتوح قليلًا، وسمع تلك الأصوات الغريبة، أدرك الحقيقة.
أدرك أن والدته قد خانت زوجها، وأن ما كانت تسعى إليه ليس سوى المحافظة على مكانتها داخل العائلة و على نفوذها المستقبلي عبره هو.
منذ ذلك الحين، لم يعُد “كاليـوس” يعاملها كما كان في السابق، بل صار يراها مجرد امرأة تافهة، تسعى وراء السلطة مستخدمةً إياه وسيلة لتحقيق غايتها.
في الفترة الأخيرة، تفكك زواجها تمامًا، وسمع أنها انفصلت عن والده. ومع ذلك، لم يدهشه أنها استمرت في عيش حياة مترفة بمفردها، ما جعله يزدريها أكثر.
لكن أن تقرر افتتاح صالون بعد أقل من أسبوعين على إقامة حفلة، فهذا كان مستفزًّا. رغم كونها والدته، إلا أنه لم يرَها سوى شخص لا يُطاق.
“يبدو أنها لا تجد ما تفعله، فالتبذير والتفاخر أصبحا نمط حياتها.”
“أجل، والأسوأ من ذلك، أنها تنوي دعوة الآنسة ‘سيلشستر’ هذه المرة.”
“ماذا؟ تلك المرأة؟”
كان واضحًا للجميع ما تخطط له “إيزابيلا”؛ كانت تحاول تقديم “إيفلين” إلى طبقة النبلاء على أنها دوقة المستقبل، لتضمن ترسيخ مكانتها.
تصلب فكُّ “كاليـوس” وهو يتأمل تصرفات والدته الوقحة، التي تتصرف دون استئذانه. لو لم تكن “ديليا ” موجودة، ربما كانت “إيزابيلا” قد استولت تمامًا على العائلة.
قبض يده بقوة، ثم تمتم ببرود:
“يبدو أنه لا يمكنني ترك منصب السيدة شاغرًا أكثر من هذا”
حتى لو كانت علاقة محكومة بالانفصال يومًا ما، كان عليه استغلالها إلى أقصى حد ممكن طالما لا يزال قادرًا على ذلك.
حتى لو تسبب ذلك في إيذاء “ديليا ” لاحقًا، فلم يكن ذلك ليهمه كثيرًا.
ابتسم “كاليـوس” بعدما قرر كيف سيتعامل مع “ديليا “.
“أرسلوا لزوجتي هدايا من الكماليات، وليكن أغلاها ثمنًا”
“ماذا؟ هل أنت جاد؟”
اتسعت عينا “جيفري” بصدمة من كلام “كاليـوس” المفاجئ.
أما “كاليـوس”، فقد راح يعبث بخاتم زواجه الذي تلقاه من “دِليا”، بينما قال بصوت هادئ و متكاسل: “أريد اختبارها.”
لم تكن “ديليا ” يومًا مهتمة بالبذخ أو الترف، لذا كان من الواضح أنها سترفض هذه المجوهرات والفساتين الثمينة.
و حينها، سيتمكن من إثارتها بهذا الأمر ، و إشعال خلاف بينهما ليرى كيف ستكون ردة فعلها.
فتح “كاليـوس” درج مكتبه وألقى بخاتم الزواج داخله دون اهتمام، ثم عاد يتصفح الأوراق وكأن شيئًا لم يحدث.
***
في غرفة الملابس داخل أحد القصور، دوَّت ضحكات النبيلات الرنانة.
كانت الطاولة مليئة بأنواع مختلفة من الحلويات، مثل السكونز، والماكارون، والكيك، وغيرها من أصناف الحلوى.
حتى وإن كانوا ينتمون إلى طبقة النبلاء الأكثر ثراءً من العامة، فإن تنوع الحلويات التي يمكن للطهاة إعدادها كان محدودًا، مما جعل هؤلاء السيدات مسحورات بتلك الروائح العطرة المنبعثة منها.
“يا إلهي! متى أعددتِ كل هذا؟”
“حقًّا! هذه الكمية من الحلويات لا تُرى إلا في الحفلات”
“لو كان بإمكاني تناول مثل هذه الحلويات يوميًّا، لكانت حياتي أكثر متعة!”
جلست “إيزابيلا” في وسط الطاولة، متلذذة بالإطراء العفوي الذي انهال عليها من السيدات، وابتسمت برضى.
أضافت قليلًا من السكر إلى كوب الشاي الأسود أمامها، ثم حركته برفق بالملعقة قبل أن تقول بنبرة هادئة: “أجل، هذا صحيح. طاهيَّ بارع للغاية، ودائمًا ما يحب تجربة أشياء جديدة، لذا أردت أن أشارككم هذه النكهات الرائعة.”
عند سماع كلمات إيزابيلا، أظهرت السيدات تعابير سعيدة بصدق.
أخذن يتذوقن الحلوى التي تناسب أذواقهن، معبرات عن إعجابهن الحقيقي بها.
كانت “إيزابيلا” تحتسي الشاي الأسود بهدوء، مستمتعة بمشاهدة ردود أفعالهن، إلى أن بلغت الجلسة ذروتها.
عندها، وقفت “إيزابيلا” من مكانها، وقالت بصوت ناعم، داعية الجميع للانتباه إليها.
“هل تستمتعن بهذا الاجتماع؟ في الحقيقة، هناك شخص أرغب في تقديمه إليكن اليوم.”
فوجئت السيدات بكلامها، إذ كان معروفًا أن “إيزابيلا” تعشق الأنشطة الاجتماعية، لكنها لم تقدم أحدًا من معارفها من قبل.
من عساه يكون حتى تقيم من أجله مثل هذا اللقاء؟ تبادلت السيدات النظرات، متحمسات لمعرفة الجواب.
“أنا بالكاد أستطيع تحمل فضولي!”
“حقًّا، أشعر أن قلبي ينبض بشدة بعد وقت طويل!”
ازداد حماسهن، فارتسمت على شفتي “إيزابيلا” ابتسامة ممتعة. ثم نظرت إلى الباب المغلق وقالت برقة: “يمكنكِ الدخول الآن.”
صرير-
فُتح باب غرفة الملابس ببطء، لتظهر منه “إيفلين سِيلشِستر”.
كان شعرها الأحمر مرفوعًا إلى الأعلى بتسريحة أنيقة، وارتدت فستانًا محتشمًا يغطي عنقها، مما زاد من رُقي مظهرها.
ابتسمت “إيفلين” برقة وهي تنظر إلى السيدات اللواتي أصابتهن الدهشة.
“يا إلهي، آنسة سِيلشِستر؟!”
“مذهل! هل تربطكِ بها معرفة مسبقة؟”
إذا كانت “إيزابيلا” تُلقَّب بملكة المجتمع الراقي ، فإن “إيفلين” لم تكن سوى زهرة يانعة بدأت تتفتح.
كان لقاء السيدات بإحدى الشخصيات الأكثر نفوذًا في الإمبراطورية أمرًا أشبه بالحلم، لذا لم يستطعن إخفاء تأثرهن.
تقدمت “إيزابيلا” نحو “إيفلين” وأمسكت بيدها بلطف، و عكست نظراتها الموجهة إليها جدية لم تظهر بها من قبل.
“هذه الفتاة هي إيفلين سِيلشِستر، ابنة عائلة سِيلشِستر. لقد احتلت المرتبة الأولى في الأكاديمية خلال سنوات دراستها، مما يثبت ذكاءها الفائق. أما جمالها، فلا حاجة لأن أُعلق عليه.”
بما أن الأكاديمية التي يرتادها النبلاء واحدة فقط، فقد بدت الدهشة واضحة على وجوه السيدات. لم يكن الأمر مقتصرًا على جمالها فحسب، بل كانت أيضًا ذكية للغاية، مما جعل الغيرة تتملك قلوبهن.
“هل ستحضر الآنسة سِيلشِستر صالونكِ بانتظام؟”
“يا له من أمر رائع! وجود زَهرتين متألقتين في الصالون سيجعل الأجواء أكثر إشراقًا!”
ابتسمت “إيزابيلا” برضى وهي تستمع إلى إطراءات النبيلات. ثم مدت يدها تربت برفق على خصلات “إيفلين” الحمراء المتألقة، التي بدت وكأنها وردة قرمزية تزينها قطرات الندى.
“ليس فقط ستحضر الصالون، بل ستتصرف أيضًا ككنّتي المستقبلية.”
“ماذا؟ لكن، أليست لديكِ بالفعل…”
تغيرت تعابير السيدات إلى الحيرة.
الجميع يعلم أن “ديليا ” هي زوجة ابن دوق “هيلدبرانت”، فكيف يمكن أن تحصل على كنة جديدة؟
و عندما أدركت “إيزابيلا” أن الجميع يترقب تفسيرها ، تحولت ملامحها إلى حزن عميق، على عكس تعابيرها المبتهجة السابقة.
“نعم، صحيح… كان من المفترض أن يكون لديّ كنة أخرى… لولا ذلك الحادث”
“ذلك الحادث…؟”
أخرجت “إيزابيلا” منديلًا من جيبها، مما زاد من حدة الترقب بين السيدات. بدت وكأنها على وشك الانهيار، فجلست النبيلات أكثر استقامة وأُصِبن بفضول شديد.
“أنا آسفة لأنني أظهر أمامكن بهذا الشكل … لكنني أريد أن أخبركن بالحقيقة كاملة”
بدت وكأنها ستنهار في أي لحظة، فأمسكت بيد “إيفلين” بشدة، وعيناها مغرورقتان بالدموع، ثم بدأت بالكلام.
“كما تعلمن جميعًا، لقد تعرض ابني لهجوم في القصر الإمبراطوري مؤخرًا.”
“بالطبع، نحن نعلم ذلك جيدًا.”
“كنت أود زيارته على الفور والاطمئنان عليه.”
أظهرت النبيلات تعاطفهن، مما جعل “إيزابيلا” ترسم ابتسامة مريرة على شفتيها قبل أن تتابع حديثها.
“بعد الحادث، كان كاليـوس يصارع الموت… وبينما كنت أصلي بحرقة، استجاب القدر له و دبت الحياة في عروقه مجددًا! ولكن…”
أطلقت تنهيدة عميقة قبل أن تتخذ خطوة للأمام، ثم التقت أعين السيدات بنظرة يملؤها الأسى، قبل أن تتابع بصوت مرتعش:
“بينما كان ابني يصارع الموت… كانت “ديليا ” منشغلة بإشباع أطماعها الشخصية! لقد أهملت زوجها، وكادت أن تتسبب في خسارتي لابني الوحيد إلى الأبد!”
جمعت “إيزابيلا” كفيها معًا، ثم قالت بحزم يملؤه التصميم:
“لذلك، لقد اتخذت قراري… سأجعل ابني يطلقها!”