إذا كُنت ترغَب فِي أن تترُكَني - 14
على الصفحة الأولى من الورقة، كانت هناك عبارة “اتفاقية الطلاق”، إلى جانب تفاصيل حول الطلاق وتقسيم الممتلكات.
كان من الصعب تصديق أن الاتفاقية قد قُدمت إلى المعبد رغم أنها كانت قد أعربت عن رفضها عدة مرات في السابق، بل ولم توقّع عليها بشكل صحيح حتى.
بعد حديثها مع جيريمي بالأمس، وبعد أن عاملها بلطف قليلًا في الحديقة، لم تتوقع أبدًا أن تصل الأمور إلى هذه الدرجة.
ديليا، التي كانت تحدق بين الكاهن الواقف أمامها وبين اسم كاليـوس المكتوب في زاوية الورقة، شعرت أخيرًا بدوار شديد وكادت أن تتهاوى.
عندما لاحظ الكاهن المفاجأة التي أصابتها، هرع إليها ليسندها، لكن ديليا لم تكن ترى سوى الفراغ بعينين خاليتين من الحياة، بينما لم يتوقف اسم كاليـوس عن التردد في ذهنها.
“أنا آسفة حقًا، لكن أرجو منكَ العودة”
“ماذا؟ ولكن…”
“أنا لا أنوي الانفصال عنه. لا بد أن هناك سوء فهم بيني وبين زوجي.”
أمسكت ديليا عنقها، محاولةً أن تلتقط أنفاسها بصعوبة. و مع ذلك، شعرت بالاختناق، فما كان منها إلا أن أطلقت شهقات باكية من شدة الألم.
قبل لحظات فقط ، كانت في قمة سعادتها ، لكن بمجرد أن رأت اتفاقية الطلاق ، هبطت مشاعرها إلى القاع في لحظة واحدة. بعينين ممتلئتين بالدموع ، قبضت على الورقة بقوة قبل أن تمزقها وتلقي بها جانبًا.
‘يا له من رجل قاسٍ لا يُطاق!’
لماذا يُؤلمني بهذا الشكل؟
حدَّقت ديليا في اتفاقية الطلاق المجعَّدة، تمامًا كما هو حال قلبها، قبل أن تنفجر بضحكة باهتة. منذ أن فقد كاليـوس ذاكرته، لم يمر يوم واحد بسلام.
كانت تظن أنه بعد زواجها منه، لن يكون أمامها سوى طريق مفروش بالورود، لكن المتاعب لم تتوقف عن ملاحقتها.
جسدها وعقلها كانا ينهاران معًا تحت وطأة المصاعب المتتالية.
في يوم زفافها قبل بضع سنوات، قال لها إنه سيجعلها أسعد عروس في العالم، فهل كانت كلماته مجرد كذبة؟ الآن، باتت ترى أن كاليـوس قبل فقدان ذاكرته لم يكن سوى كاذب.
“سيدتي، هل أنتِ بخير؟”
“أشعر بالأسف لأنني جعلتكَ تأتي إلى هنا ، لكن لا يمكنني إعطاؤك أي إجابة بخصوص هذا الأمر.”
قالت ديليا بصوت حازم أكثر من أي وقت مضى، رغم أن دموعها لم تتوقف عن الانهمار.
حتى لو كان كاليـوس هو من كتب وثيقة الطلاق، لم يكن لديها أي نية للموافقة عليها. تجاهلت يد الكاهن الممدودة لها ، ووقفت بمفردها.
“هل هو… هل هو مصمم على الطلاق؟”
“أعتذر، لكن لا يمكنني إخباركِ بالتفاصيل”
لكن ملامح الكاهن كانت كافية للإجابة. لقد كان كاليـوس يطالب بالطلاق بشدة، أكثر من أي شخص آخر.
‘أكرهه…’
لم تكن متأكدة من أي شيء آخر، لكن ما تأكدت منه هو أن كاليـوس قد تلاعب بها. شفتاها بدأتا تنزف دون أن تشعر ، بينما كانت ترتجف من الغضب.
‘أنا أكرهه كثيرًا’
“سيدتي، أنا آسف. لقد أحضرتُ لكِ اتفاقية الطلاق في الصباح الباكر…”
كان الأمر محزنًا إلى حد البكاء، لكنه لم يكن خطأ الكاهن على الإطلاق. أطلقت ديليا تنهيدة طويلة، ثم أبعدت يدها عن يده و قالت بصوت خافت:
“لا بأس… سأحاول التحدث معه بنفسي”
تردد الكاهن للحظة، لكنه أدرك في النهاية أنه لا يمكنه فعل شيء آخر، فأومأ برأسه. ثم أخرج ورقة من ملف الوثائق، ووضعها أمام ديليا.
“أشعر بالأسف لإخباركِ بهذا في مثل هذا الموقف، لكن دوقنا الموقر قد طلب ذلك. في حال قمتِ بتمزيق وثيقة الطلاق، فقد أمرني بإعطائكِ نسخة أخرى، حتى لو كان ذلك مرارًا وتكرارًا.”
“ماذا؟ هل قال ذلك حقًا؟”
حدَّقت ديليا في الورقة بملامح غير مصدقة، وما لبثت أن رأت عنوان الوثيقة واضحًا أمامها: “اتفاقية الطلاق”، نسخة أخرى تمامًا مثل التي مزَّقتها.
“هاه… هاها…”
كما كانت ديليا تعرف كاليـوس جيدًا، كان كاليـوس بدوره يعرف ديليا حق المعرفة. عضَّت على شفتيها وهي تقرأ خط يده المنحوت على الورقة أمامها.
“إذًا، يريد إنهاء الأمر معي حتى النهاية.”
حدَّقت ديليا في اتفاقية الطلاق التي كانت تمسك بها و ملامحها خالية من أي تعبير.
عندما أدركت أن كاليـوس يندفع نحو الطلاق دون أن تدري، شعرت بصداع حاد في مؤخِّرة رأسها. استدارت و هي تحمل الوثيقة التي سلَّمها لها الكاهن.
مع كل خطوة كانت تخطوها، شعرت وكأن ذكرياتها معه تتشقق، تصرخ وتتحطم بصوت مدوٍّ. كانت ديليا تمشي بصعوبة، تتخيل وجه كاليـوس المليء بالكراهية تجاهها.
***
بعد أن أعطاها الكاهن المجهول وثيقة الطلاق، عانت ديليا من صدمة قاسية جعلتها طريحة الفراش لفترة طويلة.
كان جسدها نحيفًا في الأصل، لكنها لم تأكل أي شيء سوى الماء، لدرجة أن وجهها صار هزيلًا بشكل لا يُصدَّق.
كانت قد حبست نفسها في غرفتها لفترة، لا تفعل شيئًا سوى التحديق في النافذة بعيون خاوية. لم تتمكن من تهدئة مشاعرها إلا بعد أيام من العذاب.
قد يقول البعض إنها تبالغ في ردة فعلها تجاه أمر بسيط كهذا ، لكن ألم الخيانة من أقرب شخص إلى قلبك لا يمكن أن يعتاده أحد ، مهما تكرر.
كانت تمر بأسوأ لحظاتها، لكنها لم تعد تحتمل إضاعة المزيد من الوقت، لذا نهضت من مكانها بعزم.
لم يكن جسدها قد تعافى تمامًا بعد، ومع كل خطوة تخطوها، شعرت بمعدتها تنقلب رأسًا على عقب. أمسكت ببطنها المتألم، وتقدَّمت إلى الأمام بخطوات متعثرة، بالكاد قادرة على الوقوف.
أول ما فعلته ديليا بعد أن استعادت وعيها كان الاعتناء بوجباتها. بسبب تخطيها بعض الوجبات وتناول الطعام بشكل غير منتظم طوال الأسبوع الماضي، أصبحت معدتها في حالة يرثى لها.
عندما نزلت إلى غرفة الطعام، بدا الطاهي منشغلًا جدًا في تحضير الطعام، لكنه تفاجأ عند رؤيتها. كان يمسك بطماطم حمراء في يده، وظل يرمش بعينيه وكأنه لا يصدق ما يراه، ثم تحرك بسرعة وكأنه استعاد وعيه فجأة. سرعان ما قدَّم لها حساء الكريمة سهل الهضم مع بعض قطع الخبز.
نظر الطاهي إلى ديليا وهي تأكل، وبدت ملامحه متأثرة بشدة. وبعد فترة قصيرة، قدَّم لها شربات مصنوعًا من الفواكه الطازجة كتحلية.
شعرت ديليا وكأن الطعام يكاد يملأ حلقها، لكنها لم تُظهر أي انزعاج، بل تناولت الحلوى التي قدَّمها لها الطاهي واستمتعت بها. ثم رسمت ابتسامة لطيفة على وجهها وقالت له إنها استمتعت بوجبتها.
بعد مغادرتها غرفة الطعام، بدأت ديليا تتجول في أرجاء القصر بحثًا عن أماكن تحتاج إلى ترميم أو إصلاح.
وعندما تجاوز وقت الغداء، عادت إلى غرفتها.
أمسكت بطرف فستانها وصعدت الدرج بسرعة.
وحين وصلت إلى الطابق الثاني، سمعت فجأة ضحكة امرأة مليئة بالحماس، متبوعة بصوت رجل عميق و جاد قادم من الجهة المقابلة. كان واضحًا لأي شخص يسمع هذا الصوتين أنهما إيزابيلا، حماتها، وكاليـوس، زوجها.
توقفت ديليا عن العودة إلى غرفتها ، ثم اختبأت خلف زاوية الممر، موجهةً كامل تركيزها نحو حديثهما.
“لم أركَ منذ أيام. كيف حالك الآن؟”
“أصبحتُ أفضل مما كنت عليه سابقًا ، لذا لا داعي للقلق”
عند سماع ذلك، انفجرت إيزابيلا ضاحكة، ثم أمسكت بكتف كاليـوس وهي تتحدث بحماس شديد.
“إذًا؟ هل أعجبتكَ تلك الفتاة؟”
“لست متأكدًا. في نظري ، جميع النساء متشابهات”
“حسنًا، هذا صحيح. فمنذ صغرك ، لم تكن مثل باقي الرجال ، لم تهتم أبدًا بالخمر أو اللهو”
خمر؟ لهو؟ ما نوع الحديث الذي يدور بينهما؟
عبست ديليا وهي تحاول استيعاب معنى كلماتهما، لكن قبل أن تتمكن من التفكير أكثر، توقفت إيزابيلا فجأة عن المشي، ثم نظرت إلى كاليـوس و أعطته نصيحة جادة.
“لكن ثق بي … تلك الفتاة ستكون قادرة على دعمك. هذه المرة ، لن تكون ألعوبة في يد جلالة الإمبراطور مجددًا”
لم يكن بإمكانها الاختباء أكثر من ذلك.
حسمت ديليا أمرها، وخرجت من خلف زاوية الممر.
في اللحظة التي رأتها فيها إيزابيلا، التي كانت تتحدث بسعادة قبل لحظات، تغيرت ملامحها تمامًا.
بدت وكأنها رأت جرذًا يخرج من مجاري الصرف الصحي، مما جعل كتفي ديليا ترتجفان للحظة.
و مع ذلك ، حاولت التظاهر بعدم المبالاة، ورسمت ابتسامة هادئة على وجهها قبل أن تنحني قليلاً نحو إيزابيلا.
“مر وقت طويل منذ آخر لقاء لنا، سيدتي النبيلة.”
“توقفي عن مناداتي بهذه الطريقة، أشعر بالقشعريرة في كل مرة تفعلين ذلك.”
اتسعت عينا ديليا قليلًا من الدهشة ، لكنها سرعان ما أخفت انزعاجها بابتسامة متكلفة قبل أن ترد بنبرة هادئة.
“إذن، كيف تفضلين أن أناديكِ؟”
“لا داعي لذلك، فقط اخرسي وابقي صامتة.”
يا لها من كلمات وقحة! رؤية إيزابيلا وهي تهينها بهذه الطريقة أمام كاليـوس أشعلت نارًا في داخلها، وكأن قلبها يحترق.
حولت ديليا نظرها بعيدًا عن إيزابيلا، وركزت على كاليـوس، ثم سألته بصوت هادئ أكثر مما كانت عليه قبل قليل.
“ماذا كنت تفعل هنا؟”
“……”
لكن هناك شيء لم يكن على ما يرام.
في العادة، كان سيبتسم ساخرًا ويرد بجفاء، قائلاً: “ولماذا عليّ إخباركِ بذلك؟”، لكنه هذه المرة، ظل صامتًا.
نظر إليها كاليـوس بصمت لفترة، ثم أخيرًا حرَّك شفتيه وتحدث.
“سمعت أنكِ التقيتِ بالكاهن منذ مدة قصيرة، أليس كذلك؟”
“أنت أيضًا كنت تعلم؟”
كيف وصل إليه هذا الأمر تحديدًا؟! بدت ديليا محرجة بعض الشيء. إذا كان قد سمع بذلك، فمن المحتمل أنه يعرف إلى أي مدى وصل الحديث أيضًا.
بالتأكيد، سيبدأ الآن بتوبيخها بكلمات قاسية، قائلًا إنها حمقاء لأنها لا تزال تصر على رفض الطلاق.
أغلقت ديليا عينيها بإحكام، مستعدة لتلقي كلماته الجارحة، لكنها لم تسمع شيئًا. على غير عادته، لم يكن صوته حادًا ولا باردًا هذه المرة.
عندما فتحت عينيها، وجدت كاليـوس ينظر إليها مباشرة. ظلت عيناه مثبتتين عليها للحظة، ثم نقر بلسانه بضيق، وأدار وجهه بعيدًا.
ابتسمت ديليا بمرارة، وضعت يدها على قلبها، ثم همست بصوت مرتجف.
“أرجوك ، لا تنسَ … لن أترككَ أبدًا ، مهما كانت الظروف”
عندها، تغيرت ملامح وجه كاليـوس بشكل طفيف.