إذا كُنت ترغَب فِي أن تترُكَني - 11
لم تكن لديَّ أيُّ نيَّةٍ لدخول المكان الذي يعيشُ فيه الأخُ الذي يكرهُني.
أخذت ديليا نَفَسًا عميقًا مُرًّا، ثم واصلت كتابةَ السطورِ الأخيرةِ من الرسالةِ:
[إذن ، سأختصرُ الحديثَ هنا. سأتواصلُ معكَ لاحقًا إن سَنَحَتِ الفُرصة.]
… نعم، هذا يكفي.
لم يكن هناك داعٍ لأن تُقابلَ جيريمي وجهًا لوجهٍ وتتوسَّلَ إليه وكأنها مُذنبة.
وضعت ديليا الرسالةَ في الظرفِ، وأسقطت عليه بعض الشمعِ المُذاب، ثم أغلقتِ الظرفَ بالختمِ، وأطلقت أنفاسَها التي كانت تحبِسُها.
عادت ديليا إلى غرفةِ نومِها مجددًا، وجذبت الحبلَ المُعلَّق في السقفِ. لم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتى ظهرت سارا مسرعةً وهي تلهثُ.
“هل تحتاجينَ إلى شيءٍ ما؟”
“لا، لا أحتاجُ إلى شيءٍ آخر، فقط أريدُكِ أن تُسلِّمي هذه الرسالةَ إلى رئيسِ الخَدَم.”
“حسنًا، فهمت. ولكن، إلى أين ينبغي إرسالُ الرسالة؟”
تردَّدت ديليا للحظةٍ على سؤالِ سارا ، ثم ارتسمَت على شفتيها ابتسامةٌ هادئة. وبعد لحظةٍ، أجابت بصوتٍ عاديٍّ وكأنَّ الأمرَ لا يعنيها:
“أرسليها إلى قصرِ بليك”
***
في ظهيرةٍ مشمسةٍ ومتأخرةٍ قليلًا.
كان صوتُ القلمِ وهو يخُطُّ على الورقِ يملأُ أرجاءَ المكتبِ الواقعِ في الطابقِ الأول.
كان كاليُوس ومعاونُه جيفري يعملان بلا توقُّفٍ، غارقين في تكدُّسِ الأوراقِ المُتأخِّرةِ، حتى إنهما تخلَّيا عن تناولِ وجبتهما.
لكنَّ هذا الجوَّ الخانقَ، حيث بدا حتى التنفُّسُ ترفًا، تحطَّم فجأةً بصوتِ طرقاتٍ خفيفةٍ على الباب.
بينما ارتبك جيفري قليلًا، لم يُبدِ كاليُوس أيَّ ردةِ فعلٍ، بل ظلَّ يُحدِّقُ في الأوراقِ مُحرِّكًا شفتيه بهدوءٍ قائلاً: “ادخل.”
“أعتذرُ عن المُقاطعة.”
فُتِح بابُ المكتبِ، وظهرَ كبيرُ الخدمِ العجوزُ لعائلةِ هيلدبراندت.
كان يرتدي بزةً سوداءَ أنيقةً، مع نظارةٍ أحاديةِ العدسة، وسارَ باتجاهِ كاليُوس مُنحنيًا باحترام.
“أعتذرُ عن إزعاجِكَ أثناءَ العمل.”
“لا بأسَ في ذلك. لكن، ما الذي جاءَ بكَ إلى المكتب؟”
“وصلَت رسالةٌ قبل قليلٍ عبرَ إحدى الخادمات. تقولُ السيِّدةُ إنها تُريدُ إرسالَها إلى قصرِ بليك.”
عند سماعِ كلامِ كبيرِ الخَدَم، تشوَّهت ملامحُ كاليُوس الهادئةُ للحظةٍ واحدةٍ.
وضعَ القلمَ الذي كان يحمله، ثم رفع رأسه مُوجِّهًا نظره نحوَ كبيرِ الخَدَم.
“هل تحقَّقتَ من المُرسَل إليه؟”
“نعم، يبدو أنه الماركيز بليك”
“آه… إذن، لقد أرسلَت ردَّه بهذه السرعة.”
نهضَ كاليُوس من مقعده واقتربَ من كبيرِ الخَدَم، وأخذَ منه الرسالةَ بمهارةٍ، ثم استندَ إلى المكتبِ بينما كان يفتحُ الظرف.
بدأ بقراءةِ الرسالةِ التي كُتبت بخطٍّ صغيرٍ وأنيقٍ، وعيناهُ تتابعانِ الكلماتِ ببطءٍ من الأعلى إلى الأسفل.
ثم فجأة، أطلقَ ضحكةً ساخرةً.
أكانَ محتوى الرسالةِ يبدو وكأنها تُحبه حقًّا؟
أكانَت تُريدُ هذا القصرَ بشدةٍ إلى هذا الحد؟
إن كانت تحاولُ جاهدةً أن تتركَ انطباعًا جيدًا، فلا بدَّ من الاعترافِ بأنها تبذلُ جهدًا ملحوظًا.
ظهرَ على شفتيهِ ابتسامةٌ مُتهكِّمة، إذ لم يكن يتوقَّع أن تمتلكَ تلك الجرأة.
“ماذا ستفعلُ الآن؟”
“يبدو أن دوقتَنا ليست جاسوسةً ماهرةً على الإطلاق.”
أخذَ كاليُوس يُدقِّقُ في خطِّ ديليا، وأخذ يُطرِفُ بعينيهِ للحظةٍ. ثم بعد برهةٍ طويلةٍ، طوى الرسالةَ بعنايةٍ، وأعادها إلى كبيرِ الخَدَم.
“أرسلها كما هي.”
“هل أنتَ متأكدٌ من ذلك؟”
“نعم، هذا يكفي لأستنتجَ ما أريدُ معرفتَه. كنتُ أتساءلُ كيف سيكونُ ردُّ فعلِ الماركيزِ بليك عند سماعِ خبرِ فقداني للذاكرة”
ربما سيتمكَّنُ من استشفافِ نوايا جيريمي من خلالِ تبادلِ الرسائلِ بينهما.
كما أنه قد يكتشفُ السببَ الحقيقيَّ وراء إصرارِ العائلتينِ على تزويجِ ديليا له، رغمَ أنهما من أُسَرٍ مُعاديةٍ لبعضِها البعض.
“ليس هناكَ ما هو أكثرُ متعةً من مُحاصرةِ فأرٍ في الزاوية.”
عندما سمعَ جيفري كاليُوس يُشبِّهُ ديليا بفأرٍ صغير، لم يستطع سوى أن يهزَّ رأسه مستنكرًا.
مهما كان كاليُوس سيدَه، فإن إهانةَ زوجتِه الوحيدةِ بهذا الشكلِ لم يكن أمرًا مقبولًا على الإطلاق.
ماذا لو استعاد ذاكرتَه ذات يوم؟
نظرَ جيفري إلى كاليُوس المُتعجرفِ بشدَّةٍ، ثم زفرَ تنهيدةً خفيفةً دون أن يُلاحظه.
***
“سيِّدتي، استيقظي.”
“هممم … متى غفوتُ؟”
كانت تتجوَّلُ في قصرِ هيلدبراندت منذ قليلٍ ، تبحثُ عن الأماكنِ التي تحتاجُ إلى ترميم.
لكنَّ عقاربَ الساعةِ كانت تُشيرُ إلى ما بعد الظهيرةِ، ما جعلَ ديليا تَنهضُ بسرعةٍ من سريرِها.
فتحت عينيها على مصراعيهما، ونظرت حولها باستغراب.
حينها، تنهدت سارا بخيبةِ أملٍ، وتحدَّثت بصوتٍ مُلِحٍّ:
“سيِّدتي، يجبُ عليكِ أن تستيقظي فورًا!”
“ما الأمر؟ هل حدثَ شيءٌ أثناءَ نومي؟”
“هذا… أعتقدُ أنَّ عليكِ الذهابَ لتري بنفسكِ”
بما أن سارا بدت متوترةً إلى هذا الحد، فلا شكَّ أنَّ الأمرَ ليسَ عاديًّا.
وقفت ديليا بسرعةٍ، وعدَّلت ملابسها بعنايةٍ، ثم مرَّرت أصابعها في شعرها لتُرتِّبه قليلًا قبل أن تغادرَ الغرفةَ.
قادتها سارا إلى غرفةِ الاستقبال، لكنَّها أظهرت تعبيرًا متردِّدًا و هي تقولُ بصوتٍ خافتٍ: “سيِّدتي، أرجوكِ لا تنصدِمي كثيرًا.”
“ما الذي يحدثُ بحقِّ السماء؟ حسنًا، سأتحقَّقُ من الأمرِ بنفسي.”
من الأفضلِ أن ترى بنفسها بدلًا من طرحِ الأسئلةِ على سارا. أخذت ديليا نفسًا عميقًا، ثم أمسكت بمقبضِ البابِ وأدارته.
في داخلِ غرفةِ الاستقبال، كان هناكَ رجلٌ طويلُ القامةِ يجلسُ على الأريكةِ، يحتسي الشاي بهدوء.
بسببِ الضوءِ المنبعثِ من خلفه، لم تتمكَّن من رؤيةِ ملامحه بوضوح.
ثم فجأة ، انبعث صوتٌ هادئٌ يحملُ بعضَ التنهُّدات:
“مرَّ وقتٌ طويل، ديليا.”
“…أخي؟”
منذ أن أصبحت ديليا سيدةَ عائلةِ هيلدبراندت، قلَّما ناداها أحدٌ باسمها الأول.
والآن، مع غيابِ كاليُوس، لم يكن هناكَ سوى شخصٍ واحدٍ يُمكن أن يُخاطبها بهذا الاسم.
شعرٌ فضيٌّ يُضيئُهُ النور، وعينانِ أرجوانيَّتانِ لامعتان.
إلى جانبِ قامتهِ الفارعة، لم يكن هذا الرجلُ سوى شقيقها الأكبر، جيريمي بليك.
بعد سنواتٍ من الفراق ، بدا جيريمي أكثرَ نضجًا من ذي قبل … لكن مع ذلك، كان لا يزالُ يحملُ تلك النظرةَ المتأفِّفةَ المعتادةَ على وجههِ.
“لقد قرأتُ رسالتكِ جيِّدًا. يبدو أنَّ خطَّ يدكِ لم يتغيَّر مُطلقًا منذ الطفولة.”
“إذن؟ ما الذي جاءَ بكَ إلى هنا؟”
“أنتِ تعلمينَ السببَ أكثرَ مني، أليسَ كذلك؟”
“لا تقُل لي… هل أتيتَ من أجلِه؟”
لم يسأل حتى عن حالِها، ولم يُظهِر أدنى اهتمامٍ بأمرِها.
لكن عندما تعلَّق الأمرُ بزوجِها، اتَّسعت عيناهُ وازدادَ فضولُه.
لم تستطع ديليا إخفاءَ سخريتها من هذا الأمر ، فجلست أمامه بهدوءٍ، وأخذت رشفةً من الشاي الأسود.
كان الطعمُ المرُّ بلا سكَّرٍ يُشبهُ تمامًا ما تشعرُ بهِ في تلك اللحظة.
“هل صحيحٌ أنَّ زوجَكِ فقدَ ذاكرتَه فيما يخصُّكِ؟”
“…لم أكتب شيئًا كهذا في رسالتي.”
“لا تقولي لي … هل كنتِ تظنين حقًّا أن ردَّكِ ذاكَ سيمرُّ دون أن أُلاحِظَ شيئًا؟”
عندما لم تُجب ديليا، وضع جيريمي يده على جبينه، ثم ما لبث أن أطلقَ ضحكةً ساخرةً بعد لحظاتٍ قليلةٍ.
“هاه… لقد أصبحتِ أكثرَ غباءً مما كنتِ عليه من قبل.”
ابتلعت ديليا الشايَ الأسودَ الذي كان في فمها، ثم قالت بصوتٍ باردٍ وحادٍّ: “كفى، أخبرني مباشرةً بسبب قدومك”
“أنتِ دومًا في عجلةٍ من أمركِ. حسنًا، هل حقَّقتِ في أمرِ ذلكَ المجهولِ الذي حاول قتلكِ في الحفل الأخير؟”
“…ولماذا تسألُ عن ذلك، يا أخي؟”
“رغم أنَّ الهدفَ كان قتلكِ، فإن الحادثَ بحدِّ ذاتهِ يتعلَّقُ بالدوقِ. من غيرِ المعقولِ ألَّا يكونَ الدوقُ قد فتحَ تحقيقًا في الأمر. ورغم أنَّ انتماءكِ لعائلةِ بليكِ أصبحَ شكليًّا فقط، فلا يزالُ من واجبكِ معرفةُ الأخبارِ التي تؤثِّرُ على العائلة.”
لقد قُبضَ على ذلكَ المهاجمِ فورًا، وتمَّ احتجازهُ في سجنِ القصرِ الإمبراطوري. وبعدَ تحقيقٍ مُطوَّل، تمَّ تصنيفهُ كمجرمٍ عاديٍّ لا ينتمي لأي جهةٍ، وانتهى الأمرُ عندَ هذا الحدِّ منذ فترةٍ طويلةٍ.
رغمَ أنَّ ذلك بدا مُريبًا، فإن ديليا لم تكن تعلمُ إن كانَ كاليُوس قد استمرَّ في التحقيقِ بالأمرِ أم لا.
وفي خضمِّ هذه الأفكار، عضَّت على شفتيها بقلق، بينما رفعَ جيريمي زاويةَ شفتيهِ بسخريةٍ وقال: “يبدو أنَّكِ لا تعلمينَ شيئًا على الإطلاقِ. لقد كانَ مجيئي هباءً.”
كانت ديليا تعلمُ جيِّدًا أنَّ جيريمي لم يكنَ يُلقي لها بالًا، لكنَّ أسلوبَهُ المباشرَ واللاذعَ كانَ دائمًا ما يُشعرها بعدمِ الارتياح، حتى بعدَ مرورِ كلِّ هذا الوقت.
“أوه، بالمناسبة، العاصمةُ تعجُّ بالشائعاتِ هذهِ الأيامِ بسببِ زوجةِ الدوقِ السابقة. هل سمعتِ شيئًا عن هذا؟”
“ماذا؟ زوجةُ الدوقِ السابقة؟”
للحظةٍ، شعرت ديليا وكأنَّ قلبَها قد سقطَ في الهاوية.
عادت إلى ذاكرتها بوضوحٍ الكلماتُ التي ألقتها إيزابيلا على مسامعها قبلَ أن تغادرَ قصرَ هيلدبراندت.
إذا كانَ الخبرُ يتعلَّقُ بإيزابيلا، فلا شكَّ أنَّهُ سيؤثِّرُ على كاليُوس كذلك.
“زوجةُ الدوقِ السابقةُ تبحثُ عن امرأةٍ جديدةٍ.”
ارتعشت يدُ ديليا وهي تمسكُ بفنجانِ الشاي.
راقبَ جيريمي ردَّ فعلِها المصعوقَ، ثم واصلَ حديثَهُ بلا مبالاةٍ: “الأمرُ واضحٌ وضوحَ الشمس. لا بُدَّ أنَّها تُخطِّطُ لتزويجِ زوجِكِ من امرأةٍ أخرى”
وضعت ديليا الفنجانَ على الطاولةِ بصوتٍ مسموعٍ.
لم يكنَ هذا التصرفُ من إيزابيلا غيرَ متوقَّع، لكنها لم تتخيَّل أنَّها ستتحرَّكُ بهذهِ السرعة.
كانَ الأمرُ واضحًا تمامًا…
لقد قرَّرت إيزابيلا ألَّا تهدأَ حتى تُزيحَها تمامًا من حياةِ كاليُوس.
“هل هذا صحيح؟ هل السيدةُ تبحثُ بالفعلِ عن زوجةٍ جديدةٍ له؟”
“وفقًا لما سمعته، فإنها تلتقي بنساءٍ من الطبقةِ الأرستقراطيةِ، بل وحتى من دولٍ أخرى.”
“بهذهِ الجديَّة…؟”
“لا شكَّ أنَّها ترى أنَّ هذهِ هي الفرصةُ المُثلى. فإذا عادَت ذاكرةَ كاليُوس، فلن تتمكَّنَ أبدًا من طردِكِ.”
رغم أنَّ كلامَهُ كان ساخرًا، إلا أنَّه حملَ نوعًا من العزاءِ غيرِ المُتوقَّعِ بالنسبةِ لها.
حتى جيريمي، الذي طالما أبدى ازدراءَهُ لها، كانَ مُقتنعًا بحبِّ كاليُوس لها.
إن استعاد ذاكرته، فلا شكَّ أنَّ الأمورَ ستتغيَّرُ بالكامل.
لكن، ماذا يُمكنها أن تفعلَ الآن، في حينِ أنَّ كاليُوس نفسَهُ يسعى للطلاق؟
“أيتها الأختُ الحمقاءُ، في أوقاتٍ كهذهِ عليكِ أن تُبقِي عقلَكِ صافيًا.”
“أن أبقي عقلي صافيًا؟”
“حتى لو كنتِ مُهمَّلةً في عائلةِ بليك، فإن تصرُّفاتِكِ الفوضويَّةَ ستجلبُ العارَ لعائلتِنا.”