إذا كُنت ترغَب فِي أن تترُكَني - 1
المقدمة
“هاه …”
رياح باردة عاصفة اجتاحت الفجر العميق.
لم تكن “ديليا” تدرك حتى أن حذاءها قد انخلع ، فاستمرت في الهرب حافية القدمين ، تعضّ على شفتيها.
لقد مرت أيام عدة لم تتناول فيها طعامًا جيدًا ، و كل ما فعلته كان الفرار.
بدأت رؤيتها تصبح مشوشة ، لكنها تماسكت بالكاد و استمرت في الجري نحو قمة الجبل.
“ديليا ، أنا أحبك بصدق”
“بوجودكِ ، أستطيع أن أكون”
“سأجعلكِ سعيدة طوال حياتكِ. لن تندمي أبدًا على زواجكِ مني”
أكاذيب. كلها أكاذيب فاضحة.
كان “كالياس” يكرهها. لقد كره زواجه بها ، تلك الفتاة التي تنتمي إلى عائلة أعدائه ، و أنكر هذا الزواج و احتقره.
كانت تحمل له حبًا صادقًا يومًا ما ، لكنه حطم كل الذكريات التي جمعتهما و جعلها تتلاشى كأنها لم تكن. كانت تملؤها المرارة تجاهه.
رغم ذلك ، استمرت في المضي قدمًا ، لكن لم يمر وقت طويل حتى سمعت صوت حوافر الخيل يتبعها ، ثم نداءً منخفضًا رنانًا.
“ديليا هيلدبرانت”
صوت بارد ، منخفض كأنه يخرج من كهف.
استدارت برأسها بصعوبة و كأنها ساعة مكسورة تصدر صوت احتكاك ، و رأت “كالياس” يمتطي حصان حرب ، ينظر إليها بوجه متجهم.
ترجل عن حصانه بعد أن أعطى زمامه لمساعده ، ثم اقترب منها بخطوات ثابتة. كان مظهره القاتم من رأسه حتى أخمص قدميه يجعله أشبه بشيطان.
“لِننهِ لعبة الاختباء هذه هنا”
شعرت كأن شفرة حادة اخترقت قلبها.
وصفُ “كالياس” لمحاولتها اليائسة بالفرار على أنها مجرد “لعبة” جعلها تشعر بالكراهية المطلقة تجاهه.
“أتعرفين كم هو مزعج ما تفعلينه؟ لماذا تستمرين في تجاهل أوامري؟”
نظرته الباردة كانت خالية تمامًا من الحب ، و لم يكن فيها سوى إحساسه القوي بالامتلاك.
قبضت “ديليا” يدها بقوة.
“ألَم تشعر بالقلق عليَّ ولو قليلًا؟”
تحت وهج المشاعل ، كان مظهرها بائسًا إلى درجة لا يمكن معها أن تُعتبر دوقة.
شعرها الفضي المميز كان مقصوصًا بطريقة عشوائية ، و فستانها ممزق في عدة أماكن. قدماها العاريتان كانتا مجروحتين و ملطختين بالدماء.
لاحظ “كالياس” مظهرها المريع متأخرًا ، فتوسعت عيناه الزرقاوان ، و اهتزتا للحظة.
“ما هذا المظهر؟”
بقيت معه حتى الآن ، لكنها لم تكن ترى في حياتها معه سوى الدمار. لم يكن بإمكانها الاستمرار مع رجل أهملها و أهمل الجنين الذي تحمله في أحشائها.
“ماذا ستفعلين بعد أن تهربي مني؟ ألَم تكوني مجرد امرأة وحيدة لا تملك مكانًا تذهب إليه بعيدًا عني؟”
“لا، لديّ مكان أذهب إليه”
تراجعت “ديليا” خطوة إلى الوراء ، متجاهلةً يده الممتدة نحوها. نظر إليها “كالياس” بريبة ، ثم اتسعت عيناه فجأة.
“ما الحماقة التي تخططين لها الآن؟”
“كنتُ حمقاء لأنني أحببتُك. لو كنتُ أعلم أن الأمر سينتهي هكذا ، لَكُنتُ تمنيتُ ألا ألتقي بك منذ البداية”
“لا تتحركي خطوة واحدة! سأقترب منكِ الآن!”
قبل لحظات فقط كان يسخر منها ، لكنه الآن يتحدث بصوت مرتجف متكسر.
حين مدّ يده بسرعة لإمساكها ، أغلقت “ديليا” عينيها البنفسجيتين بهدوء.
“لا ، ديليا—!”
احتضنت بطنها المنتفخ الذي يحمل جنينها ، ثم أرخَت جسدها ببطء.
في تلك اللحظة ، تطايرت خصلات شعرها الفضية في الهواء ، و صوت “كالياس” المليء باليأس دوى عاليًا.
لم تكن تتوقع أن ترى تعابير الذهول على وجه الرجل الذي أهانها طوال الوقت. حتى و هي على وشك الموت ، وجدت نفسها تبتسم.
بهدوء ، ملأت عينيها بصورة الرجل الذي أحبته من أعماق قلبها ، ثم ألقت بنفسها من فوق الجرف.
***
الفصل الأول
في صباح تغمره أشعة الشمس الدافئة ، استيقظت ديليا في الوقت المعتاد ، كما تفعل كل يوم.
سحبت الحبل المتصل بالجرس في غرفتها ، فجاءت خادمتها بالماء لتغسل وجهها. بعد ذلك ، ذهبت إلى غرفة الملابس و ارتدت ثوبًا منزليًا مريحًا.
أثناء قيام الخادمة سارا بوضع عقد حول عنق ديليا ، قالت بصوت مفعم بالحيوية: “الطقس جميل اليوم ، أليس كذلك؟”
“نعم ، يبدو أن الشتاء قد انقضى و أصبح الربيع يقترب شيئًا فشيئًا”
كان الهواء لا يزال باردًا بعض الشيء ، لكنه كافٍ ليشعر المرء بنسائم الربيع. ابتسمت “ديليا” و هي تنظر من النافذة ، إلا أن تعبيرها سرعان ما تحول إلى القلق.
“سيدتي؟ هل تشعرين بعدم الارتياح؟”
“أنا بخير، لا داعي للقلق.”
أمسكت “ديليا” بإطار صورة صغير كان موضوعًا على طاولة الزينة.
رجل بشعر أسود كالليل ، عينان ساحرتان تخطفان الأنظار ، و أنف حاد و فك قوي منحوت بدقة و كأنه عمل فني. كان ذلك زوجها، “كالياس هيلدبرانت”.
حتى بعد زواجه ، ظل محط أنظار الكثيرين بسبب وسامته التي لا تُقاوَم.
مررت “ديليا” أصابعها برفق على صورة “كالياس” و همست بصوت خافت يملؤه الحزن: “إنه يحب الربيع أيضًا … أشعر بالأسف لأنني أستمتع به وحدي.”
“سيدتي …”
قبل أسبوع فقط ، تعرض “ديليا” و “كالياس” لهجوم من قبل مجموعة مجهولة أثناء حضورهما حفلة في القصر الإمبراطوري.
بالنظر إلى مهارات “كالياس” ، لم يكن من الصعب عليه القضاء على المعتدين ، لكن الأمر اختلف لأنه كان مشغولًا بحماية “ديليا”. في خضم المعركة ، سقط من الشرفة و أصيب بجروح خطيرة ، ليبقى بعدها عالقًا بين الحياة و الموت.
“ما الذي يمكنني فعله الآن؟”
بفضل جهودها في استدعاء أشهر الأطباء ، تعافت جراح “كالياس” بسرعة. و مع ذلك ، لم يكن يفيق من فراشه ، بل كان يقضي وقتًا أطول فيه يومًا بعد يوم.
رؤية ديليا و هي تزداد قلقًا و تعبًا جعلت سارا تتنهد بأسى. وضعت يدها على يد سيدتها بلطف و قالت بصوت مشجع:
“سيدتي، أنتِ تقومين بواجبك على أكمل وجه”
“لكن بالمقارنة مع ما فعله من أجلي … لقد خاطر بحياته من أجلي …”
“لا تقلقي، بجسده القوي، لن يمضي وقت طويل قبل أن ينهض من فراشه مجددًا.”
قبل زواجه من “ديليا” ، كان “كالياس” فارسًا في الحرس الإمبراطوري ، يحمي الإمبراطور بنفسه. مجرد التفكير في قوته الخارقة جعل شفتيها ترتسمان بابتسامة باهتة.
“نعم … لا شك أنه سيفعل”
تخيلت ديليا اللحظة التي سيفتح فيها “كالياس” عينيه و يبتسم لها فنبض قلبها بشكل أسرع.
لا، لم يحدث الأسوأ بعد.
كل ما عليها فعله الآن هو أن تكون كما كانت دائمًا، وأن تستعد لاستقبال “كالياس” عند استيقاظه.
“شكرًا لكِ على مواساتي.”
“أنا دائمًا إلى جانبكِ، سيدتي.”
ضغطت ديليا شفتيها الدافئتين على الصورة في الإطار، ثم أعادته إلى مكانه بلطف.
وقفت بثبات وقالت بصوت هادئ لكنه عازم:
“حان الوقت لأذهب إلى كالياس”
“هل تريدين أن أرافقكِ؟”
“لا ، أرغب في قضاء بعض الوقت مع كالياس بمفردنا. لقد مر وقت طويل”
كان “كالياس” لا يحب وجود الغرباء في غرفته ، حتى عندما يكون فاقدًا للوعي. لذلك ، أرادت “ديليا” احترام خصوصيته قدر الإمكان.
قبل أن تغادر غرفة الملابس ، نظرت إلى انعكاسها في المرآة ، ثم سارت بخطى ثابتة.
اليوم ، كانت تأمل أن يفتح “كالياس” عينيه أخيرًا.
أثناء سيرها في الرواق، تتلقى التحيات من الخدم، لاحظت “ديليا” شيئًا غريبًا.
عادةً، كان الخدم الذين شهدوا الهجوم على “كالياس” في حالة صدمة وكأنهم على وشك الموت، لكن اليوم بدوا مفعمين بالحيوية على غير العادة.
تساءلت عن السبب، وبينما كانت تميل برأسها في حيرة، سمعت من وراء باب غرفة “كالياس” صوتًا مليئًا بالفرح.
في غرفة مريض ، لا يمكن أن يكون هناك سبب لسماع الهتافات سوى شيء واحد.
أمسكت “ديليا” بمقبض الباب بقوة، وقلبها ينبض بشدة، ثم أدارته بلهفة.
صــرير—
عندما انفتح الباب على مصراعيه، وقعت عيناها على رجل عاري الجزء العلوي من جسده.
عينان آسرتان، وعضلات صقلتها المعارك، وهالة من الفتنة الخالصة التي لا تظهر إلا عند استيقاظه للتو. لم يكن هناك شك في أنه “كالياس”.
“كالياس!”
اندفعت “ديليا” نحوه بأقصى سرعة، وبمجرد أن شعرت بنبضه تحت أناملها، أدركت أن هذا لم يكن مجرد حلم.
لقد استيقظ حقًا.
عينها امتلأت بالدموع ، و استندت برأسها على صدره القوي.
“كنت قلقة للغاية… كنت أخشى أن ترحل عني إلى الأبد…”
دفء جسده، الذي افتقدته طويلًا، هدأ كل مخاوفها دفعة واحدة. لكن صوتًا باردًا قطع لحظة سكينتها.
“هذا أمر سخيف للغاية ، حتى أنني لا أستطيع الضحك عليه.”
في البداية، اعتقدت أنها سمعت خطأ. لم يسبق لـ “كالياس”، طوال فترة زواجهما ، أن استخدم مثل هذه النبرة العدائية معها.
“سمعت من مساعدي أنكِ … تزوجتِ مني؟”
“ك-كالياس؟”
“هاه، يا له من أمر مضحك … لا أصدق أنني تزوجت منكِ. كيف تجرؤين على رفع رأسكِ وأنتِ من حاولتِ تدمير عائلتنا؟”
كأن دلوًا من الماء البارد سُكب فوق رأسها. لم تستطع استيعاب ما يحدث.
دفعها “كالياس” بعيدًا عنه، ثم مسح بيده الأماكن التي لامستها و كأنه يتخلص من شيء قذر.
“هل تم ابتزازي بشيء ما؟ لماذا تزوجتُ امرأة لا أحبها؟”
خفق قلبها بعنف. بدا لها أن عالمها ينهار تحت وطأة ازدراء “كالياس” لها، وكأنه يجد وجودها مقززًا.
“لا يمكن… هل فقدتَ ذاكرتك؟”
سألت “ديليا” بصوت مفعم بالرجاء، لكن “كالياس” لم يجب. فقط عبس بملامحه المتجهمة، مما جعل قدميها ترتجفان حتى انهارت على الأرض.
تحرك “كالياس” من سريره و اقترب منها بخطوات هادئة و متمهلة. ثم أمسك بذقنها ، و رسم على شفتيه ابتسامة ساخرة ملتوية.
“تبدين كمن تعرض للخيانة. يا له من مشهد مثير للشفقة.”
“…”
“أنا لن أحبكِ أبدًا، لا الآن ولا في المستقبل.”
في عيني “كالياس”، الذي فقد ذكرياته، لم يكن هناك سوى الاشمئزاز عند النظر إليها.
قبل أن يغادر الغرفة، نظر إلى “ديليا”، التي لا تزال جاثية على الأرض، و أعلن ببرود خالٍ من أي مشاعر:
“لذا، سنطلق.”
“…”
“يبدو أنني كنت أحمق في الماضي. كيف لي أن أتزوج شخصًا عديم الفائدة مثلكِ؟”
متى بدأ كل هذا في الانحراف عن مساره الصحيح؟
اضطرب قلبها و هي تنظر إلى الرجل الذي كان زوجها، لكنه الآن بدا وكأنه شخص آخر تمامًا.
في تلك اللحظة، انهارت كل الذكريات والمشاعر التي بنتها معه على مدار السنين، كما لو أن سدًّا تحطم فجأة.