فركت أنيس عينيها المرهقتين، لكن ليونيل كان لا يزال واقفاً مكانه، مؤكداً أنه ليس مجرد طيف من وحي خيالها.
“لقد أرسلتُكِ لتعملي، لا لتضعي مساحيق تنكرية.”
نطق ليونيل بتلك الكلمات الغامضة ثم مد يده. خيّم ظله الضخم فوق رأس أنيس فجأة، فانكمش جسدها برد فعل انعكاسي. لاحظ ليونيل ذلك التصلب القصير، فتوقفت أطراف أصابعه في الهواء لبرهة قبل أن تتحرك مجدداً؛ راح يمسح زاوية عين أنيس بسبابته.
ورغم أن يده كانت خشنة وبها ندوب كثيرة، إلا أن لمسته كانت في غاية الرقة.
“ألم أقل لكِ أن تحافظي على وقاركِ بصفتكِ دوقة؟”
تلطخت أطراف أصابعه بمداد أسود. حينها فقط أدركت أنيس أنها فركت عينيها ويدها ملوثة بالحبر، فاشتعل وجهها خجلاً في لحظة.
“آه…! كيف حدث هذا…؟”
حاولت مسح وجهها بكم ثوبها بارتباك، لكنها تذكرت توبيخ ليونيل بشأن الوقار، فأخرجت منديلها. وما إن مسحت وجهها بضع مرات حتى اتسخ منديلها العاجي؛ يبدو أن الحبر كان كثيراً بشكل لافت.
احمرت بشرتها بشدة لشعورها بأنها بدت في موقف مضحك، وظنت أنها سمعت صدى ضحكة قصيرة من فوق رأسها، لكنها قدرت أنها واهمة بالتأكيد.
“اركبي.”
كان ليونيل قد فتح باب العربة بالفعل. وعلى عكس المرات السابقة، لم تشعر أنيس بالخوف هذه المرة بل استسلمت للمسته وهي يساعدها. وبعد أن جلست وأصلحت هندامها، أبدت حيرتها بصوت خفيض:
“كنتُ أظن أن السيد كالت هو من سيأتي.”
“إنه مشغول.”
مالت أنيس برأسها أمام هذه الإجابة المقتضبة. إذا كان النائب مشغولاً، فمن البديهي أن يكون ليونيل أكثر انشغالاً، أليس كذلك؟ كان كلامه يفتقر للمنطق بشكل غريب.
‘هل يعقل أنه جاء خصيصاً لأجلي؟’
انتفخ في قلبها أمل صغير مستدير، تماماً ككرة تُملأ بالهواء.
‘لا تتوهمي وتتجاوزي حدودكِ. لا بد أنه جاء ليتأكد إن كنتُ قد اكتشفتُ شيئاً.’
أو ربما كان يمر من هنا بالصدفة فحسب. هزت أنيس رأسها لتطرد تلك التوقعات المتفائلة.
في هذه الأثناء، لم تتوجه العربة التي كانت تجري بانتظام نحو القصر مباشرة، بل دخلت منطقة الأسواق وتوقفت أمام مطعم فاخر. كانت أنيس تعرف هذا المكان جيداً؛ فقد قرأت مراراً في الصحف أنه مطعم مقسم لمقصورات خاصة يرتاده كبار الشخصيات.
“سنتناول عشاءنا هنا اليوم.”
بينما كانت أنيس ترقب المطعم الذي لا يربطها به أي صلة بذهول، تحدث ليونيل وهو يدفع باب العربة.
“ولكن… لقد انتهينا من وجبة هذا الأسبوع بالفعل؟”
لقد تناولا وجبتهما الأسبوعية المتفق عليها قبل أيام قليلة. وعندما سألته بحيرة، رفع ليونيل حاجبيه قائلاً:
“طرأ لي عمل في الشمال، لذا لن أعود للقصر لعدة أسابيع.”
وأوضح أنه يريد تناول وجبة الأسبوع القادم مسبقاً.
أمسك ليونيل بمقابض كرسيها المتحرك كأمر طبيعي، وبحركة انسيابية للغاية. لم تدرك أنيس أن ليونيل كان يُرافقها إلا بعد أن جلست إلى الطاولة التي وُجهوا إليها.
قُدم الطعام سريعاً، ويبدو أنه كان قد طُلِب مسبقاً.
‘لحم مجدداً.’
حدقت أنيس في شريحة اللحم التي تتباهى بقطعها الأحمر. ففي كل مرة تجتمع فيها مع ليونيل، يكون اللحم الدسم حاضراً على المائدة. وبما أنها لم تكن تتناول وجبات منتظمة، كان معدتها الضعيفة تجد صعوبة في هضم هذا النوع من الطعام. وبالطبع، لم يكن ليونيل ليعرف ذلك. تذوقت بضع لقمات ثم وضعت الشوكة جانباً بهدوء.
“هل وجدتِ أي معلومات مفيدة؟”
“لم أجد شيئاً استثنائياً بعد. لكن، كما ذكرتُ سابقاً، هناك أجزاء في سجلات الحسابات لا تتطابق فيها كميات التداول مع المبالغ المالية. أعتقد أنني إذا حققتُ في ذلك الجانب، سأحصل على معلومات قيمة.”
“فهمت.”
ألقى ليونيل نظرة خاطفة على طبقها ثم واصل طعامه.
“بما أنني تلقيتُ معلومات، عليّ دفع الثمن. هل قررتِ ما هو ‘المقابل’ الذي قلتِ إنكِ ستفكرين فيه بدلاً من منصب رئيسة التجارة؟”
“نعم؟”
تلمست أنيس مقبض الشوكة بتردد. هي لم تقدم معلومات قاطعة بعد، وفي الحقيقة لم تفعل شيئاً يستحق الثمن.
“سأطلب ذلك لاحقاً عندما أجد معلومات أكثر تأكيداً…”
“قولي الآن. لستُ متفرغاً بما يكفي لأنتظر وقتاً لاحقاً لأسمع شيئاً كهذا.”
أمام إلحاح ليونيل، قطبت أنيس حاجبيها. ضميرها لا يسمح لها بطلب ثمن مقابل هذا القدر الضئيل من المعلومات، ورفضها سيجعل الأمر يبدو وكأنها تزيد من إزعاج ليونيل. لذا رأت أن الأفضل هو طلب شيء بسيط لا يخدش الحياء. وقعت عيناها على أزهار الأقحوان الصفراء المتفتحة في المزهرية وسط الطاولة.
بشكل لا إرادي، حركت أطراف أصابعها فوق قاعدة الكوب وقالت:
“إذن…… هل يمكنكَ، أحياناً، أن ترافقني في نزهة بالحديقة؟”
توقف ليونيل عن التقطيع ورفع بصره إليها:
“…… نزهة؟”
“لا يجب أن يكون ذلك باستمرار. فقط عندما يسنح لك الوقت، مرة أو مرتين في الشهر كافية. هل هذا…… ممكن؟”
“بعد الطعام، نزهة إذن.”
كانت دمدمة ليونيل المنخفضة مشوبة بالحيرة. كان يظن أنها ستطلب أخيراً شيئاً ذا قيمة حقيقية، لكنها طلبت مجدداً شيئاً كهذا.
‘إنه ثمن زهيد جداً.’
كان عليه أن يشعر بالازدراء تجاه أنيس التي لا تعرف حتى كيف تساوم، لكن لسبب ما، عاد ذلك الشعور بالضيق في حنجرته مجدداً.
بينما كان ليونيل يعقد حاجبيه ويبتلع جرعة ماء، تناهى إلى مسامعهما صوت من الطاولة المجاورة عبر الفاصل. كان الصوت عالياً لدرجة أنهما استطاعا فهم المحادثة دون عناء.
“هل سمعتم؟ يا للهول، لقد بدأت الدوقة بإدارة شؤون تجارة باردو.”
“بما أن حياتها كراقصة قد انتهت، يبدو أنها تنوي تجربة حظها في الأعمال؟ رئيس تجارة باردو رجل طيب حقاً، فكيف يسلم العمل لمثل تلك الشخصية حتى لو كانت ابنته.”
“يقولون إن التجارة تعاني من عجز مالي مؤخراً، لا أعرف إن كانت ستفلس قريباً. تخيلوا كم من أموال التجارة ستبددها على رفاهيتها، أوه.”
“هاهاها.”
سقطت ضحكاتهم المتظاهرة بالرقي فوق مفرش الطاولة بعد أن عبرت الفاصل. وضع ليونيل كأسه بهدوء:
“هل يزعجكِ سماع هذا؟”
“ليست المرة الأولى التي أسمع فيها مثل هذا الكلام.”
حاولت أنيس التظاهر بأقصى قدر من الهدوء، لكن قلبها الجريح كان يؤلمها بشدة.
“إذا كان يزعجكِ فأخبريني. يمكنني جعلهم يتوقفون عن هراء كهذا وللأبد.”
ربما لم يكن يقصد ذلك، لكن كلمات ليونيل بدت لأنيس وكأنه ينحاز لجانبها ويحميها. وبفضل ذلك، تحسن مزاجها كثيراً، فخاطبته بعفوية غير معهودة:
“هل ستفعل معهم كما فعلتَ مع الآنسة فلوريس؟”
“لماذا يظهر هذا الاسم هنا؟”
“لقد سمعتُ من سايمون؛ أنك غضبتَ بدلاً مني من الآنسة فلوريس التي كانت تذمني.”
ارتفع حاجبا ليونيل الكثيفان بميل: “أرجو ألا تتوهمي. لم أفعل ذلك لأجلكِ.”
“أعلم. الآن وفي ذلك الوقت، كنتَ تتدخل لأن ذمي يعتبر إهانة لعائلة فالهام، أليس كذلك؟”
في وقت آخر، كانت ستشعر بالخوف من نظرات ليونيل هذه، لكنها الآن كانت متيقنة لسبب ما أنه لن يغضب. لذا، أخرجت ما في قلبها بحذر:
“رغم ذلك، أنا سعيدة لأنها المرة الأولى التي يقف فيها أحد بجانبي.”
بعد هذه الكلمات، خفضت أنيس رأسها وحدقت في طبقها؛ فلم تملك الشجاعة لترى رد فعله على صدقها الصريح.
عندما أنهيا الطعام وخرجا من المطعم، كانت السماء قد اصطبغت باللون الأحمر. توقفت أنيس للحظة أمام المطعم ونظرت إلى متجر الزهور المجاور؛ حيث جذبت الألوان الزاهية في واجهة العرض انتباهها.
بينما كانت شاردة الذهن للحظة قبل صعود العربة، نظرت حولها فلم تجد ليونيل. وبينما كانت تفكر في البحث عنه، عاد ليونيل وهو يحمل باقة زهور. كانت باقة بسيطة من بضع زهرات أقحوان صفراء مربوطة بشريط.
“بما أن النزهة لن تكون ممكنة إلا في الشهر القادم، فليكن هذا هو مقابل هذا الشهر.”
كانت نبرته حسابية وجافة. لكن رؤية باقة الزهور في يده الضخمة كانت مشهداً لا يتناسب معه أبداً، مما جعل أنيس تشعر برغبة في الضحك.
تلمست أنيس الباقة التي تسلمتها بذهول، وشعرت بملمس بتلاتها الناعم.
هذا هو الشعور إذن… رؤية الزهور عن قرب… وتلقيها من شخص ما.
كان الثقل الذي شعرت به في أطراف أصابعها دافئاً بشكل غريب، فما عادت تستطيع الاحتمال ورسمت ابتسامة رقيقة بعينيها. بل ربما أطلقت ضحكة مسموعة.
“لماذا… تضحكين؟”
بدت تعابير وجه ليونيل غريبة وكأنه رأى شيئاً عجيباً. لكن حتى ذلك جعل أنيس تشعر بالسعادة، فرفعت زوايا فمها بابتسامة عريضة:
“لأن الزهور جميلة.”
“…… يا لَسخافتكِ.”
كان ليونيل يعبث بسبابته بلا مبالاة؛ حيث كانت لا تزال هناك آثار باهتة للحبر. كانت تلك البقعة الصغيرة تنتشر في جسده بالكامل كقطرة حبر في الماء. وفكر ليونيل دون أن يشعر:
أنه لن يكون أمراً سيئاً لو رأى ابتسامة أنيس تلك بشكل متكرر أكثر.
التعليقات لهذا الفصل " 40"