بعد ذلك، استمر ليونيل في مشاركتها مائدة الطعام مرة واحدة في الأسبوع دون انقطاع. ورغم أنه لم يطل الجلوس معها أبداً، إلا أن أنيس كانت تنتظر تلك اللحظات القصيرة دوماً. كانت عبارة “ألا يمكنك البقاء معي لفترة أطول قليلاً؟” تصل إلى طرف لسانها، لكنها كانت تبتلعها في كل مرة.
‘هذا القدر كافٍ.’
‘لا تطمعي في المزيد.’
هكذا كانت تواسي نفسها وتكبح رغباتها.
واليوم أيضاً، بعد أن غادر ليونيل المائدة أولاً، أنهت أنيس طعامها وحدها ثم بدأت تتجهز للخروج. فقد استعاد جسدها عافيته أخيراً، وحان اليوم الذي ستتوجه فيه إلى تجارة باردو.
“ها أنا ذا أعود إلى هناك مجدداً.”
خرج صوتها نحيلاً واهناً كأنها تحدث نفسها. شبكت أطراف أصابعها، وأخذت زفيراً عميقاً دون سبب واضح.
“لا بأس. أنا ذاهبة فقط للقيام بعمل اعتدتُ عليه دوماً.”
حاولت إقناع نفسها بأن الأمر مجرد نزهة قصيرة؛ فعلى عكس الماضي، لديها الآن “منزل” تعود إليه في هذا القصر فور انتهاء عملها.
بعد أن استجمعت شتات نفسها، وضعت قبعتها بأناقة وأصلحت هندام وشاحها. ثم أسندت قدميها بعناية على مسند الكرسي المتحرك. تحرك الكرسي الجديد الذي أحضره ليونيل بسلاسة وانسيابية نحو الأمام، وبفضله، وصلت إلى حيث تنتظرها العربة دون مشقة.
كان كالت بانتظارها، فمد يده إليها باحترام:
“سأساعدكِ يا سيدتي. سأكون مرافقكِ الشخصي في ذهابكِ وإيابكِ من وإلى التجارة من الآن فصاعداً.”
تحركت العربة بمساعدة كالت، ومرت أضواء الخريف من خلف النافذة. كانت هذه هي المرة الأولى التي ترى فيها شوارع المدينة منذ مدة طويلة. لفتت نظرها زهور الأقحوان الصفراء التي تشبه تلك التي رأتها يوماً في دفيئة عائلة باردو.
“جميلة جداً.”
تمتمت بصوت خافت، فارتد صدى كلماتها من زجاج النافذة. كانت تلك الدفيئة ملكاً لـكلوي، ولم يُسمح لأنيس بدخولها قط. ومنذ تعرضت لضرب مبرح ذات مرة لتسللها إلى هناك، لم تعد تجرؤ على أكثر من اختلاس النظر للأزهار من بعيد.
فتحت النافذة، فاحملت نسمات الهواء عطر الأزهار.
أغمضت أنيس عينيها قليلاً وهي تشعر بالرائحة الخفيفة تداعب أنفها.
“بالمناسبة، لقد أزهر الأقحوان في حديقة قصر الدوق أيضاً.”
فكرت: ‘هل أخرج للحديقة هذا المساء؟’. لكن التنزه بمفردها على أرض الحديقة الوعرة سيكون صعباً بكرسيها المتحرك، إلا إذا قام شخص ما بدفع الكرسي لها.
تلقائياً، رسمت في مخيلتها وجه ليونيل. أي تعبير سيرتسم على وجهه لو طلبت منه مرافقته في نزهة بالحديقة؟
“بالتأكيد…… سيرفض.”
ابتسمت أنيس بسخرية من نفسها وأغلقت النافذة. فالأزهار، بالنسبة لها، تليق بأن تُشاهد من بعيد فقط.
“لقد وصلنا يا سيدتي”
قبل أن ينهي كالت جملته، فُتح باب العربة. وفي تلك اللحظة، انصبت نحوها عشرات العيون دفعة واحدة.
البعض غطى فمه بيده، والبعض تظاهر بترتيب الأوراق لتجنب النظر مباشرة، لكن اهتمام الجميع كان منصباً على نقطة واحدة: عودة أنيس باردو.
وسط هذا الزحام، ارتفع صوتا كلوي وأدريان.
“ابنتي العزيزة، أهلاً بكِ. ألم يكن الطريق شاقاً عليكِ؟”
“أنيس!”
هرعت كلوي، وأقراط اللؤلؤ الأبيض تتأرجح في أذنيها، لتعانق أنيس بشوق مصطنع. بدا المشهد مؤثراً لموظفي التجارة وهم يراقبون استقبال الأخت لأختها، لكن الكلمات التي وصلت لأذن أنيس كانت مختلفة تماماً.
“يا لكِ من محظوظة. كيف تنجين في كل مرة؟ كان من الأفضل لو دُفنتِ ومُتِ داخل ذلك المسرح المنهار.”
خرجت تلك الكلمات كفحيح الأفعى بجانب أذنها، وانتشرت برودة سافرة مع كل نفس يلمس بشرتها. وبفضل ذلك، استفاقت أنيس من غفوة مشاعرها التي أثارها عطر الأقحوان.
أغمضت عينيها لثانية ثم فتحتهما: “…… كما توقعت. هذا المكان لا يتغير أبداً.”
أفلتت منها ابتسامة مرة. لهذا السبب لم تكن ترغب في العودة، لكن بما أنها عادت، فلا مفر. عليها القيام بما يجب.
‘يجب أن أجد شيئاً يفيد ليونيل.’
دفعت كلوي عنها بقوة. وجدت كلوي نفسها فجأة تعانق الهواء في وضعية محرجة، فامتقع وجهها غضباً.
تبعت أدريان عبر الردهة حتى وصلا لغرفة بدا وكأن لافتتها قد عُلقت للتو.
“لقد اعتنيتُ بتجهيزها بشكل خاص، هل تعجبكِ؟”
كانت الأرضية مغطاة بسجادة جديدة، وتصطف خزائن العرض الأنيقة على الجدران. بدت الغرفة فاخرة وراقية من النظرة الأولى، لكن بمجرد تغيير زاوية الضوء قليلاً، بدأت الحقائق تتكشف.
أطراف السجادة كانت ممزقة، وزجاج الخزائن فيه شقوق دقيقة. المكتب اللامع كان مليئاً بالخدوش في زواياه، والكرسي يصدر صريراً حاداً بمجرد الجلوس عليه. كان واضحاً أنهم جمعوا أثاثاً قديماً كان يستخدمه صغار الكتبة ووضعوه هنا. بل حتى السجادة نفسها لم تكن مناسبة لحركة الكرسي المتحرك.
“سأعين لكِ مساعداً أيضاً. لقد وظفته حديثاً لأنني توقعتُ كثرة المهام.”
أشار أدريان بيده، فانحنى شاب كان يقف عند الباب.
“اسمي لوسيان.”
شعر رمادي وعينان سوداوان. رجل بملامح باهتة لا تميزها صفة خاصة. وبمجرد دخوله الغرفة، ضم كعبيه بآلية لا شعورية، تماماً كما يفعل الجنود أمام قادتهم. كانت يدا لوسيان مليئة بالندوب الخشنة؛ إنها يد رجل اعتاد حمل السيف أكثر من القلم.
“أعتقد أن هذا القدر من الترحيب العائلي كافٍ، سأعطيكِ الأوراق التي تحتاج لمعالجة.”
بإشارة من أدريان، دخلت صواني محملة بأكوام من الملفات: كشوف حسابات متأخرة، عقود مفسوخة، مسودات تسوية تعويضات، وتقارير عن توقف التبادل التجاري. تراكمت الملفات فوق المكتب بانتظام.
صُدمت أنيس من الكمية الهائلة؛ كان من الواضح أن العمل كان متوقفاً تماماً في غيابها. كان من المعجز أن التجارة لم تفلس بعد واكتفت بالعجز المالي فقط.
“أترك الأمر بين يديكِ إذن.”
غادر أدريان الغرفة بوجه مرتاح بعد أن ألقى بكل أعبائه عليها. أما لوسيان، الذي كان يقطب حاجبيه وهو ينظر لجبل الورق، فقد اعترض طريق أدريان بذكاء عند الباب، وهمس بصوت منخفض جداً بحيث لا تسمعه أنيس:
“لا أظن أن ما يريده سيدي من رئيس التجارة هو هذا النوع من العمل.”
“أليس عليّ إخماد النيران المشتعلة عندي أولاً؟ سألبي توقعات العقيد وينتربولت بالتأكيد، فلا تكن عجولاً.”
تربت أدريان على ظهر لوسيان بوجه صقيل: “سألقي الطُعم المتعلق بريبلت تدريجياً. لذا اذهب وساعدها الآن.”
مر الوقت في زحام المهام. ولم تستطع أنيس التمدد لأول مرة إلا عندما بدأت الشمس في الغروب. كانت يدها قد تلطخت بالمدبر المنتشر. رفع لوسيان رأسه من فوق الأوراق التي كان يرتبها في المقابل.
“هل ستستمرين في العمل يا سيدة؟”
“لا، سنتوقف هنا لهذا اليوم.”
توقفت أنيس عن الكلام ونظرت إليه بأسف: “أعتذر لأنني جعلتك تعمل طوال اليوم. لم تستطع حتى تناول وجبة طعام بسببي، أليس كذلك؟”
هز لوسيان رأسه: “لا بأس. وأيضاً، أنا لستُ في مكانة تستدعي منكِ استخدام لغة الاحترام معي. أرجوكِ خاطبيني بتواضع.”
“كيف يمكنني فعل ذلك؟”
ابتسمت أنيس:
“أنت الشخص الذي يساعدني.”
منذ أن غادر أدريان، لم يُفتح باب المكتب قط، مما يعني أنهما لم يحصلا على كوب شاي واحد أو وجبة غداء. كانت أنيس معتادة على ذلك، لكنها شعرت بالذنب تجاه لوسيان؛ خافت أنه عومل بنفس الطريقة لمجرد وجوده بجانبها.
أخرجت أنيس من حقيبتها قطع الكوكيز التي وضعها لها سايمون:
“تناول هذا على الأقل. سأحرص في المرة القادمة على تأمين وجباتك.”
“إذن لن أرفض.”
ابتلع لوسيان قطعة الكوكيز دفعة واحدة. رغم ملامحه الصارمة، إلا أنه كان يتمتع بجانب ودود.
بمجرد إطفاء المصباح، غرق المكتب في الظلام.
وعند خروجهما، كانت خيوط الغروب تتسلل إلى نهاية الردهة، مما جعل الظلال تتمدد بطول لافت.
بينما كانت ترتب الأوراق الأكثر إلحاحاً، كانت أنيس تختلس النظر في سجلات الصفقات للأعوام الماضية.
وبعد بضع صفحات فقط، بدأت تلاحظ آثاراً مشبوهة؛ دلائل على تسرب أسلحة إلى جهات مجهولة المصدر.
‘سأبدأ بتتبع الخيط من هنا.’
تمتمت بهذه الكلمات وهي تمسح عينيها بتعب، وأفلتت منها تنهيدة مليئة بالإرهاق. كانت تتوق للعودة للقصر ودَفن جسدها في أغطية سريرها الوثيرة. لذا، أسرعت بخطواتها نحو مكان العربة.
لكن من كان ينتظرها هناك لم يكن كالت.
بجانب العربة المصبوغة بألوان الغروب، كان ليونيل يقف مسنداً ظهره إليها. كان مغمض العينين وذراعاه متقاطعتان، وعندما شعر بحضور أنيس، رفع جفنيه ببطء.
وفي تلك اللحظة، امتزج لون عينيه الأزرق الذي يشبه التوباز بذهب الغروب.
انحبست أنفاس أنيس للحظة. وبدا لها، ولو للحظة عابرة، أن ملامح فم ليونيل المتصلبة قد ارتخت بلين وهو ينظر إليها.
“بالنسبة لشخص عاد إلى منزله بعد طول غياب، يبدو وجهكِ مرهقاً للغاية.”
التعليقات لهذا الفصل " 39"