أمام سؤال ليونيل المنخفض الذي نفد فيه صبره، أحنى سايمون رأسه بحرج:
“في الحقيقة… لقد وصل زائر، فتوجهت السيدة إلى غرفة الاستقبال.”
“زائر؟”
تقطرت قطرات الماء من أطراف شعر ليونيل المبلل؛ فقد عاد إلى القصر بعد غياب دام أربعة أيام. ولأنه توجه مباشرة إلى الحمام ليغسل رائحة البارود العالقة بجسده، أدرك أن التقرير قد تأخر خطوة. تذكر كيف كان سايمون يتبعه بإلحاح فور دخوله وكأنه يريد قول شيء ما، لكنه تجاهله. فهل كان هذا هو السبب؟
‘بهذا المعدل، سيبرد الطعام.’
جالت نظراته الحادة فوق الطاولة؛ فليس لديه أي شغف بتناول طعام بارد. انسحب ليونيل من غرفة الطعام بخطوات انسيابية متجهاً نحو غرفة الاستقبال.
كان غارقاً في معالجة آثار الإرهاب، وكان من المفترض ألا يعود للقصر إلا بعد يومين آخرين على الأقل. ومع ذلك، بذل قصارى جهده لإنهاء جدول أعماله مبكراً لأجل أنيس. فتعبيرات وجهها التي رآها قبل مغادرته غرفتها قبل أيام، ظلت تلاحقه كأنها نتوء جلدي مزعج بجانب الظفر.
حينها، لم يكن أمره لها بتناول الطعام في غرفة الطعام نابعاً من سبب عظيم؛ بل فقط لأنه سئم رؤيتها محبوسة في غرفتها دائماً. يرى أن الكائن الحي يجب أن يترك أثراً لوجوده على الأقل، لكن أنيس كانت هادئة بشكل مفرط وحضورها باهت. وعندما لا يشعر بأثرها في أي مكان بالقصر، كان ينتابه شعور سيء وكأنها ليست موجودة هنا من الأساس.
لذا أراد فقط إخراجها وقت الوجبات. وبما أنها أصبحت ذات قيمة نفعية، وجب أن تبقى تحت ناظريه. لكن بما أنها لا تنوي القدوم، فلا خيار سوى الذهاب وإحضارها بنفسه.
“يا لها من إنسانة متعبة.”
أسرع ليونيل في خطواته. لم يكن يروق له أن يضيع وقته الذي اقتطعه بصعوبة سدى. وعند وصوله لغرفة الاستقبال، وجد أنيس عالقة مع أدريان.
“لقد تسلل جرذٌ إلى بيتي.”
دلك ليونيل مؤخرة عنقه المتصلبة ببطء.
‘عدتُ مبكراً لأرى هذا المنظر العجيب.’
أول ما رآه كان شفتا أنيس المرجانيتان المطبقتا بضيق كأنها في محنة، ثم وقعت عيناه على معصمها النحيل البادي من تحت كُمّها المرفوع قليلاً.
‘سمعتُ أنها فوتت الفطور أيضاً.’
لهذا السبب هي هزيلة هكذا، لأنها لا تأكل في الوقت المحدد. لسبب ما، تصاعد غضبه من شحوب وجه أنيس، وسرعان ما وجه سهام هذا الغضب نحو الرجل الجالس أمامها.
شعر أشقر لامع، حذاء مصقول بشكل مبالغ فيه، وجوهرة ضخمة على حزامه. بدا أدريان الذي يرتدي طبقات من الملابس الفاخرة المبتذلة في غاية الرخص. ورغم أن لون شعره يشبه شعر أنيس، إلا أنه أعطى انطباعاً مختلفاً تماماً؛ فخلافاً لشعر أنيس البلاتيني الذي يشبه الندى الشفاف، بدا شعر أدريان وكأنه مطلي بطلاء ذهبي رخيص.
“سيدي الدوق؟”
“لم أكن أعلم أنه حتى لو كان المرء من أصل وضيع، فإنه سيفتقر لأبسط قواعد الأدب.”
انجذب ليونيل لنظرات أنيس الموجهة نحوه، فاقترب منها وجلس على الأريكة بجانبها.
“ألا تعرف كيف تطلب الإذن قبل الزيارة؟”
أمام تلك الكلمة الباردة، تحركت تفاحة آدم في حلق أدريان وهو يبتلع ريقه بصعوبة، ثم راح يفرك أطراف أصابعه بتذلل:
“أعتذر منك سيدي الدوق. لقد كنتُ قلقاً جداً على ابنتي، هاها… سأحرص على طلب الإذن مسبقاً في المرة القادمة.”
في لحظة، انفرجت أسارير أدريان. وعلقت ابتسامة بغيضة على فمه المجعد ليقينه بأن الفرصة قد حانت، وكأن مزاجه لم يعتكر قبل قليل.
“هذا صحيح. في الحقيقة، العقود التي دفعت بها الدوقة بشكل مفرط تسببت في مشاكل وضعت التجارة في موقف محرج…”
تعمد أدريان ترك نهاية الجملة معلقة، وهي خدعة رخيصة لاستدرار العطف عبر ذم ابنته.
“والدي.”
قاطعت أنيس كلامه وهي تقبض يدها بقوة:
“سيدي الدوق، لا داعي للاستماع لقول والدي. سأحل هذا الأمر بنفسي.”
“هممم.”
أصدر ليونيل همهمة منخفضة، ومرر أطراف أصابعه فوق معصم أنيس وكأنه يلمسه عارضاً؛ كانت حركة لا شعورية. وبينما كان يمسك بمعصمها النحيل الذي يستقر بسهولة في قبضته، زفر ببطء.
‘لقد وجدتُ طريقة لاستغلال أنيس باردو بفعالية.’
دون أن تتغير تعابير وجهه، فتح ليونيل فمه:
“حسناً. سأمنحك مبلغ الاستثمار بالإضافة إلى المهر.”
“حـ…حقاً يا سيدي؟”
لمعت عينا أدريان بالطمع، وبدأ يحسب المبالغ في ذهنه، بينما صبغ الجشع عينيه الرماديتين المخضرتين.
“لكن لدي شرط.”
“أي شيء تطلبه سأفعله!”
“ستتولى أنيس الإدارة المالية والإدارية للتجارة بنفسها.”
“ماذا؟”
تلمس أدريان أذنه ظاناً أنه أخطأ السمع. فقام ليونيل بتوضيح الأمر له بلطف:
“بما أن العجز نتج عن زوجتي، أليس من الأفضل أن تتحمل هي المسؤولية لسده بنفسها؟”
هربت الدماء من وجه أدريان:
“إمم… ولكن كما تعلم يا صاحب السعادة، الدوقة تفتقر للموهبة في إدارة الأعمال، لذا فإن هذا الاقتراح محرج قليلاً—”
“إذا كنت ترفض، فسنلغي موضوع الاستثمار.”
نهض ليونيل بهدوء وكأنه لا يأسف على شيء:
“إذا لم يكن لديك ما تقوله، فأرجو أن تخرج.”
تعلث أدريان بابتسامة مرتبكة:
“هـ…هل هناك شروط أخرى؟ باستثناء ما ذكرته للتو، سأحاول تلبية أي طلب آخر!”
“ألم تسمعني وأنا آمرك بالخروج؟”
“أرجو أن تعيد النظر مرة—”
“هل تريدني أن أستدعي الفرسان ليرموك خارجاً؟”
التوى طرف فم أدريان أمام نبرة ليونيل الجليدية. انتفض واقفاً وقد جُرح كبرياؤه:
“لقد أثقلتُ عليكم. سأنصرف الآن.”
تظاهر بأدب زائف، ثم استدار مسرعاً وغادر غرفة الاستقبال.
‘تشه، هل يظن أنني لن أجد مكاناً آخر للاستثمار سوى هنا؟’
بمجرد مغادرة أدريان، أصبح الهواء في الغرفة أخف وطأة. ومع ذلك، ظلت أنيس تنظر إلى ليونيل بوجه متوتر، وأمسكت بحذر بذراع ليونيل التي كانت لا تزال تلامس معصمها.
“سيدي الدوق، لماذا قلت إنك ستعطيه المهر؟ لا داعي لذلك. أنت تعلم جيداً ماذا تمثل تجارتنا بالنسبة لك…”
حملق ليونيل في يد أنيس البيضاء التي تلامس ذراعه. كان حضورها ضئيلاً لدرجة أنه يستطيع نفضه بأقل قوة، ومع ذلك، شعر بملمسها بشكل حيّ يثير الغرابة.
“سيدي الدوق؟”
“هل لديكِ جدول أعمال آخر؟”
“نعم؟ لـ… لا؟”
كان سؤالاً لا يتناسب مع الموقف، لكن ليونيل بدا هادئاً:
“إذن لنذهب لتناول الطعام.”
“الآن…؟”
عجزت أنيس عن الكلام للحظة. وبينما تجمد الهواء في الغرفة بإحراج، استدار ليونيل أولاً. وعندما وصل للباب توقف فجأة والتفت خلفه؛ كانت أنيس لا تزال جالسة في مكانها.
“ماذا تفعلين؟ لماذا لا تأتين؟”
“الكرسي المتحرك… غير مريح قليلاً.”
عندها، انتقلت نظرات ليونيل تلقائياً إلى يدي أنيس؛ عجلات خشبية سميكة تبدو ثقيلة على يديها الصغيرتين، ومفاصل أصابعها المحمرة من محاولة دفع العجلات بالقوة. حينها فقط، أدرك ليونيل أن الكرسي الذي تستخدمه ليس مناسباً للتنقل في القصر.
‘فهل كان هذا هو سبب تناولها الطعام في غرفتها قبل أيام؟’
كان عليها أن تقول ذلك إذن.
زفر ليونيل بعمق وهو يشعر بضيق لا يعرف سببه، وجف حلقه فجأة كما لو أنه ابتلع طعاماً جافاً.
“إذا كان التنقل صعباً، يمكنكِ تناول الطعام في غرفتكِ.”
“لا. أنا أيضاً أفضل الأكل في غرفة الطعام.”
بما أنها تفضل ذلك… لكن الجفاف في حلقه لم يختفِ. بهذا المعدل، هل ستصل لغرفة الطعام اليوم أصلاً؟
اقترب ليونيل من خلف أنيس وأمسك بمقابض الكرسي المتحرك. سيكون دفعه لها أسرع من محاولتها الضعيفة لتحريك العجلات بنفسها. لا داعي لسلوك الطريق الطويل بينما يوجد طريق فعال.
ضغط ليونيل بخفة على المقابض، فبدأت العجلات التي كانت ثقيلة على أنيس تدور بسلاسة.
التفتت أنيس نحوه بذهول، فتجاهل نظراتها وحافظ على وجهه الجامد وهو ينظر للأمام قائلاً باقتضاب:
التعليقات لهذا الفصل " 36"