كان هواء الغرفة مريحاً، لكن قلبها كان يشتعل باضطراب غير مريح.
‘كان يجب أن أكون أكثر حذراً في كلامي، لقد تسرعت.’
كيف بدتُ في عيني ليونيل؟
هل رآني كشريرة حاقدة تحاول إلصاق التهم بعائلتها لمجرد أنها خضعت لبعض التحقيق؟
‘لكنني شعرتُ أنه لا أحد يستطيع كبح جماح والدي وأختي سوى ليونيل.’
جيروم وينتربولت، سيد حامية العاصمة؛ بدا من موقف غرفة التحقيق أنه انحاز بالفعل لحماية أدريان.
وإذا كان يتغاضى عن علاقة أدريان بمنظمة ريبلت وهو يعلم بها…… فقد تملكها القلق من مدى الدمار الذي قد يلحقونه بالعاصمة مستقبلاً.
وهذا ما جعلها تشعر بالـاضطراب.
علاوة على ذلك، فإن رد فعل ليونيل الذي بدا وكأنه يثق بها لأول مرة جعل حكمها يختل للحظة.
لم يكن ينبغي لها التعامل مع الأمر بهذه السطحية.
دفنت أنيس وجهها بين كفيها.
كيف يمكنها أن تجعل ليونيل يصدق كلماتها؟
“هل هذا ممكن أصلاً……؟”
ليونيل يثق بي؟
كانت أمنية تفتقر تماماً للواقعية.
ومع ذلك، لم تستطع الاستسلام هكذا، وقررت أن تبحث عنه بمجرد بزوغ الفجر.
تركت الخادمة أنيس المحبطة، وأضافت حفنة أخرى من الحطب في المدفأة ثم انحنت مودعة:
“إذن، أتمنى لكِ راحة هادئة.”
“آه، ذلك……”
مدت أنيس يدها لا شعورياً.
بسبب تحركها طوال اليوم فور استيقاظها، لم تأكل شيئاً منذ أكثر من يومين.
هل يمكنها طلب الطعام؟
تحققت من الوقت، وكان موعد العشاء قد فات منذ زمن طويل.
في قصر باردو، كان تفويت موعد العشاء يعني الجوع ببساطة.
لربما كان ذلك هو السبب في أنها نسيت كيف تفتح فمها لتطلب شيئاً.
قرقرة—
ولسوء الحظ، أصدرت معدتها الخاوية صوتاً مخجلاً في تلك اللحظة.
اشتعلت أذنا أنيس من الخجل.
“أعتذر منكِ، لم أكن أعلم أنكِ جائعة. سأطلب تحضير الطعام فوراً.”
لحسن الحظ، لم تسخر الخادمة منها.
فاستجمعت أنيس المزيد من الشجاعة:
“هل يمكن إحضار الطعام إلى غرفتي؟ الكرسي المتحرك الجديد غير مريح قليلاً……”
كانت غرفة الضيوف التي تقيم فيها أنيس تقع في الطابق الأول المتصل بغرفة الطعام.
ولأن القصر كان شاسعاً جداً، كانت المسافة بعيدة حتى في الطابق نفسه.
لم يكن التنقل سهلاً في الأصل، وبوجود الكرسي الذي أحضرته من المستشفى، صار الأمر أكثر صعوبة.
فبخلاف العجلات المعدنية السابقة، كانت عجلات هذا الكرسي خشبية، مما جعلها تتعثر باستمرار في نتوءات الأرضية الخشبية.
كادت تقع حوادث عدة وهي في طريقها للغرفة.
لحسن الحظ، لم تضطر لشرح التفاصيل، فقد استجابت الخادمة لطلبها:
“إذن، سأجهز عشاء اليوم في الغرفة.”
بعد فترة وجيزة، دخلت صينية الطعام إلى الغرفة.
تصاعد البخار الدافئ من فوق الصينية الفضية، حيث وُضع الحساء واليخنة الخفيفة مع بضع قطع من الخبز الطري بشكل مرتب.
نظرت أنيس حولها بتوجس؛ هل يحق لها أن تُعامل هكذا؟
شعرت بالغرابة وكأنها شخص يجلس في مكان ليس له.
“…… شكراً لكِ، لقد أتعبتكِ معي. سآكل جيداً.”
بمجرد أن رفعت الملعقة بحذر، هجم عليها الجوع والتعب دفعة واحدة.
شعرت أن معدتها ستدفأ بمجرد تناول لقمة واحدة.
لكن فجأة، سُمع صوت حركة عند الباب.
ظنت أنها خادمة جاءت لأخذ الصينية الفارغة، لكنها فتحت عينيها بذهول عندما التفتت.
كان ليونيل يدخل الغرفة.
“ليخرج الجميع.”
بعد تفقد المدفأة وكأنه يتأكد من شيء ما، صرف ليونيل من حوله وجلس على الكرسي المقابل.
عقد ساقيه الطويلتين بأناقة وتحسس جيبه الداخلي.
توقفت يده التي كانت تهم بإخراج سيجار كعادته المألوفة فجأة.
وبسبب نظراته الثقيلة المسلطة عليها، اضطرت أنيس لوضع الملعقة جانباً، وشعرت بأسف لفقدان دفء الحساء الذي لم يصل لفمها بعد.
“لماذا لا تأكلين؟”
أمال ليونيل —الذي عقد ذراعيه— رأسه قليلاً.
انتشر صوته المنخفض ببطء كألسنة اللهب في المدفأة.
كانت نبرته أهدأ مما توقعت.
ظنت أنها لن تراه أبداً الليلة، لكنه جاء بوجه هادئ كهذا.
بدا وجه ليونيل تحت الضوء مختلفاً عما كان عليه في النهار؛ حيث برزت ملامحه أكثر وسط الظلال، وبدا انطباعه أكثر حدة وصرامة.
نظرة واحدة منه كانت كفيلة بقبض صدرها.
فاحت منه رائحة زكية وكأنه استحم للتو.
كانت الغرفة ساكنة، خالية من ضجيج أجهزة اللاسلكي.
ومع ذلك، كان حضوره يثقل الهواء من حوله.
‘لا أزال خائفة منه.’
ابتلعت أنيس ريقها بصعوبة.
لم يصل الخوف لدرجة إفقادها صوابها، لكنه كان كافياً ليمنعها من الأكل براحة.
في النهاية، نظرت أنيس للطعام الذي لم تلمسه، ثم بللت شفتيها ببعض الماء الفاتر.
“لقد انتهيت. ولكن، ما الذي أتى بك إلى هنا؟”
“تتحدثين وكأنني دخلت مكاناً لا يحق لي دخوله.”
“لم أقصد ذلك. فقط…… لأنك لم تزر هذه الغرفة قط من قبل.”
“…… ألم أقل إننا سنتحدث لاحقاً؟”
كان رداً قصيراً، لكن نبرته المنخفضة داعبت أذنيها بطريقة غريبة.
وبما أنها لم تكن تعلم أن ليونيل هو من حملها بنفسه من الملحق إلى هذه الغرفة سابقاً، شعرت بغرابة شديدة لوجوده معها.
قطب ليونيل طرف عينه، لكنه لم يصحح قولها.
“هل كتفك بخير؟”
ألقى ليونيل نظرة خاطفة على كتفه:
“إنه سليم. بدلاً من ذلك، أود أن تكملي ما كنتِ تقولينه في العربة.”
“آه—”
“لماذا؟ هل غيرتِ رأيكِ؟ أم لم تعد لديكِ رغبة في الكلام؟”
“ليس الأمر كذلك، لكن…… تساءلتُ عما إذا كنتَ ستصدق ما سأقوله.”
أمال ليونيل رأسه بكسل:
“سأحاول تصديقكِ.”
كلمة واحدة فقط، لكنها جعلت عيني أنيس تتسعان.
ليونيل قال إنه سيصدقها.
وعندما أصبح الحلم الذي بدا مستحيلاً حقيقة، شعرت أنيس بالقلق بدلاً من الراحة.
لذا سألت مجدداً لتتأكد:
“حقاً؟ حقاً……؟”
“حقاً.”
أومأ ليونيل برأسه وهو يراقبها.
من أجل الحصول على المعلومات التي يريدها، كان مستعداً لاصطناع الثقة بأي قدر.
لم يكن الأمر صعباً.
سواء كان يصدقها فعلاً أم لا، لم يكن ذلك مهماً؛ فالمهم هو أن تخبره بما يريد سماعه.
وكما توقع، وبمجرد سماعها كلمة “أصدقكِ”، بدأت أنيس تسرد ببراءة كل ما تعرفه؛ من الأخطاء الإدارية التي ذكرتها نهاراً، وصولاً إلى العثور على أسلحة تجارة باردو مع جيش سيركاديا.
كل شيء.
لكن كانت هناك مشكلة؛ فكلام أنيس كان يحتوي على قرائن فقط دون أدلة ملموسة.
ومع ذلك، لم يشر ليونيل إلى ذلك، بل انتظر بصمت حتى تنهي حديثها.
وما أدركه خلال ذلك هو الفجوة الكبيرة بين “أنيس” التي تتحدث عنها الشائعات وأنيس الحقيقية.
الشائعات تقول إنها لا تفقه شيئاً في العمل وتفشل في كل مشروع تلمسه، فكيف تكون هي المسؤولة عن الإدارة؟
لم يكن ذلك مهماً على أي حال؛ فكل ما يهمه هو الحصول على معلومات عن ريبلت.
وعندما لم يعد يخرج من فم أنيس أي كلام ذي قيمة، بدأ وجه ليونيل يبرد بالملل.
“هاه.”
لقد اقتطع من وقته الثمين ليشاركها الحديث، فهل هذا كل ما لديها؟
سُمع صوت خمود الحطب في المدفأة التي كانت تشتعل كالنار.
غرق ليونيل في تفكيره وهو يخفض بصره، باحثاً عن طرق لاستغلال أنيس بشكل أكثر فاعلية.
لكن الغريب هو أنه رغم عدم وجود ما يستفيده أكثر، لم يستطع النهوض من مكانه.
“هذا كل ما لدي لأقوله. هل كان ذلك…… مفيداً قليلاً؟”
“أجل، إلى حد ما.”
أومأ ليونيل برأسه من باب الأدب.
لكن تلك اللفتة البسيطة كانت تعني الكثير لأنيس.
‘لقد كنتُ مفيدة. يا له من ارتياح.’
راقبت أنيس تعابير وجهه.
ورغم أنها لم تستطع التحدث عن حادثة العربة لأن مجرد ذكرها يقطع أنفاسها، إلا أنها شعرت براحة كبيرة بعد قول كل شيء آخر.
ساد الصمت الغرفة مجدداً.
ومع طول الصمت المزعج، كانت رموش أنيس ترتجف باضطراب.
منذ حادثة المسرح، وليونيل يتصرف بغرابة؛ يستمع إليها، بل ويقول إنه يصدقها.
التعليقات لهذا الفصل " 34"