حتى الآن، لم تستطع تصديق أن ليونيل قد ألقى بنفسه داخل المسرح المنهار لإنقاذها.
هي تدرك جيداً أنه لم يفعل ذلك لأنها هي “أنيس”؛ فليونيل جندي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وحماية المدنيين بالنسبة له واجب بديهي.
لذا، أياً كان من في المسرح، كان ليونيل سيتخذ القرار ذاته.
كان عقلها يدرك ذلك تماماً، لكن يبدو أن قلبها كان له رأي آخر.
المواضع التي لمستها يدا ليونيل الضخمتان لا تزال ترتعش داخلها.
‘لماذا أشعر هكذا؟’
كانت رائحته العميقة العالقة في سترته لا تزال تداعب بشرتها، لدرجة أنها توهمت وكأنها لا تزال بين ذراعيه.
كانت تعبث باللحاف وهي تتمنى أن يهدأ اضطراب أعماقها، ثم أطلقت زفرة قصيرة؛ فقد استعادت ذاكرتها كلمات فلوريس القاسية بمجرد أن شعرت ببعض الهدوء:
“بفضلكِ طُردتُ من منصب الراقصة الأولى وانتهى بي الحال هكذا. ما رأيكِ؟ هل أنتِ راضية؟”
كانت تعلم من الصحف أن الراقصة الأولى للبلاط الإمبراطوري قد استُبدلت، لكن لماذا ألقت فلوريس باللوم عليها؟
كانت هذه هي المرة الأولى التي تلتقي فيها أنيس بها وجهاً لوجه.
علاوة على ذلك……
‘بدت فلوريس وكأنها تلمح إلى أن ليونيل يعرف السبب.’
أنزلت أنيس اللحاف قليلاً، ونظرت إلى سايمون الذي كان يحرس جانبها.
بما أن سايمون يدير كل مواعيد ليونيل، فربما يعرف شيئاً.
“هل هناك خطب ما، يا سيدة أنيس؟”
سأل سايمون فور شعوره بنظراتها.
“هل تعرف شيئاً عن فلوريس لورين، الراقصة الأولى السابقة للبلاط؟”
“نعم، إنها مشهورة جداً، لذا أعرفها.”
“هل وقعت مشكلة ما…… بين الآنسة فلوريس والدوق؟”
“مشكلة؟”
“بسبب…… كلمات غريبة قالتها لي الآنسة فلوريس.”
عبث سايمون بشاربه.
وبينما ظنت أنيس أنها سألت سؤالاً يتجاوز حدودها، أجاب سايمون بصراحة غير متوقعة:
“لقد سمع الدوق الآنسة فلوريس وهي تتحدث بقلة احترام عنكِ.”
صمت قليلاً ثم أضاف بهدوء:
“بسبب ذلك، قُطع عنها كل الدعم، وفي النهاية أُزيحت من منصب الراقصة الأولى. لقد كانت تلك المرة الأولى التي أرى فيها الدوق غاضباً بهذا الشكل منذ زمن بعيد.”
اتسعت عينا أنيس بذهول:
“هل فعل الدوق ذلك بنفسه؟”
“نعم. إهانة السيدة أنيس هي إهانة لعائلة فالهام، لذا كان ذلك هو العقاب المناسب. لقد كانت حادثة معروفة في الأوساط الاجتماعية.”
لم يكن لدى سايمون سبب لإخفاء الأمر، فالجميع كان يعرف عدا هذه السيدة الشابة الجالسة أمامه.
وبما أنها لم تكن تملك نافذة على العالم سوى الصحف التي تصل للقصر، فليس من الغريب أن تعرف الخبر متأخراً.
“هكذا إذن……”
تحركت عينا أنيس ببطء.
لقد غضب ليونيل من أجلها ضد من أهانوها.
‘لقد فعل ذلك رغم أنه يكرهني.’
رغم الكراهية الراسخة في قلبه، فقد هبّ لمساعدتها مرتين؛ مرة ضد فلوريس، ومرة في المسرح.
حتى لو كان السبب هو “شرف العائلة”، فإن الحقيقة تظل ثابتة.
‘رايل، لا تزال طيباً وحنوناً كما كنت.’
ارتجفت أطراف أصابع أنيس فوق اللحاف.
تسلل شعور قديم إلى صدرها كأنه يوقظ حواساً منسية.
تذكرت بوضوح “رايل” القديم الذي كان يغمرها بالحنان خلف وجهه العبوس، تذكرت كيف كان يغضب من كبار التجار الذين ضايقوها قديماً.
خفق قلبها بألم، وأدركت أنيس بغريزتها أنها لن تستطيع أبداً التخلي عن آمالها في ليونيل.
قلبها الجائع للدفء سيتشبث بأي ذرة حنان يلقيها إليها كأنها صدقة، متلمساً حرارة الذكريات القديمة.
يا له من قدر مرير وعذب في آن واحد.
“ولكن ما هذا؟ يبدو كأنه حذاء.”
أشار سايمون إلى الصندوق الأبيض بينما كان يرتب أغراض أنيس.
“إنه حذاء يُلبس للرقص على خشبة المسرح.”
“آه، فهمت. اعذريني، أنا لا أفقه الكثير في هذه الأمور.”
هندم سايمون شاربه بإحراج ثم أضاف:
“إنه حذاء جميل.”
“…… نعم.”
لمع الحذاء تحت أضواء المستشفى، ومع هذا المشهد، ارتسمت ابتسامة خفيفة جداً على شفتي أنيس.
‘ربما…… إذا بذلت جهداً أكبر، قد نتقارب قليلاً، حتى لو لم نعد كما كنا.’
لم تكن تطمح للكثير؛ فقط ألا يقطب حاجبيه عندما يراها، وأن يتمكنا من تبادل التحية الصغيرة عند اللقاء.
لو تحقق ذلك، فربما تستطيع الابتسام حتى وهي تحتضن ساقيها المحطمتين.
عاد الأمل الميت للحياة في قلبها بهدوء.
لكن من أجل هذا المطلب الصغير، كان هناك أمر يجب حله أولاً:
عائلتها التي جلبت المأساة لليونيل.
‘يجب أن أخبر رايل بما يفعله والدي وأختي.’
عقدت أنيس العزم في قلبها.
لقد صمتت طويلاً بسبب روابط الدم، لكنها أدركت اليوم بوضوح أنه إذا لم توقف ما يفعله والدها، فستقع كارثة أكبر.
كان عليها إبلاغ ليونيل بكل شيء قبل وقوع مأساة أخرى، حتى لو لم تملك سوى الشكوك.
قبضت أنيس على حافة وسادتها.
قال سايمون إن ليونيل سيأتي قريباً.
ولهذا، كان قلبها يقفز مع كل صوت خطوة تقترب من الباب.
لمح خيالاً يتحرك خلف الزجاج غير الشفاف لباب الغرفة.
“رايل……؟”
خرج الاسم من بين شفتيها المرتجفتين.
هل وصل؟
أخذت أنيس نفساً عميقاً؛ وبمجرد أن يفتح الباب ويدخل، ستخبره بكل شيء.. بكل الحقيقة.
لكن، من زار أنيس لم يكن ليونيل.
طاخ!
فُتح الباب بقوة وكأنه سُحق، واندفع جنود يرتدون الزي الرمادي إلى الداخل، وصرخوا في وجه أنيس بخشونة:
“دوقة فالهام، عليكِ المجيء معنا فوراً.”
“ماذا تفعلون؟ هذه غرفة الدوقة فالهام! اخرجوا فوراً! أين الحراس في الخارج؟”
صرخ سايمون وهو يتقدم نحوهم.
لكن الجنود دفعوا كتفه ببرود.
أما فرسان الدوقية الذين كانوا يحرسون الباب، فقد تراجعوا خطوة إلى الوراء بتعابير مضطربة.
“لقد ظهرت أدلة تثبت تورط الدوقة في الإرهاب الأخير. لذا تحركي.”
“انتظروا، أنا لم أفعل—!”
وقبل أن تنهي جملتها، سحبها الجنود من السرير.
سُحبت قدماها الصغيرتان العاريتان فوق أرضية المستشفى الباردة.
حشروها بإهمال في الكرسي المتحرك الذي وفره المستشفى، ثم فتحوا أبواب الممر على مصراعيها.
وفوراً، انفجرت الفلاشات عند نهاية الردهة.
تشك، تشك—
وسط الأضواء الساطعة التي تخطف الأبصار، تتابعت أصوات غوالق كاميرات الصحفيين كالمطر.
“ماذا يحدث هناك؟”
“لا يهم، فقط التقط الصور!”
كان الجميع ينظر إلى أنيس، وباستثناء سايمون، لم يتقدم أحد لمنعهم؛ حتى رجال الدوقية.
***
“آهخ……!”
أُجبرت أنيس على النهوض من كرسيها المتحرك ودُفعت لتجلس على كرسي حديدي.
ومع تلك المعاملة القاسية، سرى برد المعدن في ظهرها.
بفضل مكانتها كدوقة، لم تُكبل بالأغلال، لكن لم يكن هناك أي مراعاة أخرى.
كان الهواء في القبو رطباً.
وتحت ضوء المصباح المتذبذب، كان ورق الحائط المتهالك يمتص الرطوبة.
شق صوت احتكاك أرجل الكرسي بالأرض صمت الغرفة.
وبملامح يملأها التوتر من البيئة الغريبة، كانت عينا أنيس الرماديتان الشفافتان تتفحصان المكان بذعر.
خلف زجاج سميك، كان ليونيل يراقب المشهد بصمت.
كان يدوّر سيجاراً غير مشتعل بين أطراف أصابعه ببطء.
“هل ستتركها هكذا؟”
لم يجب ليونيل على سؤال كالت، بل رفع حاجبيه بحدة.
ومض ضوء خافت في عينيه الزرقاوين؛ نظرة كانت رطبة ومعقدة كرطوبة القبو.
“لم يكتفوا بسلب سلطة التحقيق مع ريبلت من أمام أعيننا، بل يعاملون الدوقة بهذا الشكل. هذه إهانة واضحة لك يا سيدي العقيد.”
كان احتجاج كالت حازماً، لكن وجه ليونيل لم تظهر عليه أي علامة تغيير.
“علينا أن نكون دقيقين في كلامنا. أنا من قرر مراقبة عملية الاستجواب.”
التعليقات لهذا الفصل " 31"