تحت الأضواء المتذبذبة، انتقلت نظرات أنيس من ليونيل نحو الباب الحديدي.
بدت عصابة ريبلت في حالة ارتباك من صوت الإنذار الصاخب، وتبادلوا نظرات مريبة. ومع شتيمة منخفضة نطق بها أحدهم، ركض الرجل الذي يحمل المشعل نحو كومة القنابل.
ما إن لامس الشرر الفتيل المتشابك فوق المتفجرات حتى انطلق صوت فحيح حاد، وانتقلت النيران لتسري في الفتيل بسرعة.
“لقد اشتعل! يجب أن نخرج من هنا قبل أن يُكشف أمرنا!”
وسط تلك الفوضى، تسلل أفراد العصابة الذين أتموا مهمتهم عبر باب آخر داخل الممر الحديدي واختفوا كأنهم ذابوا في الظلمة، تاركين المشاعل المشتعلة ملقاة بإهمال على الأرض.
بدأ الفتيل الرفيع يتآكل بسرعة تحت وطأة النيران التي بدأت تزحف على طول الخط، بينما انبعث دخان رمادي كثيف. بهذا المعدل، ستنفجر القنبلة قبل أن يتمكن ليونيل من اتخاذ أي إجراء.
“لا……!”
حاولت أنيس دفع الباب الحديدي بكل قوتها، كانت تريد الدخول بأي ثمن لإطفاء الحريق، لكن الباب الموصد بإحكام بقفل حديدي لم يتزحزح مهما فعلت. وبسبب تدافع الحشود المذعورة، لم تستطع حتى مناداة الفرسان.
“كح كح.”
انفجرت أنيس في نوبة سعال بسبب الدخان اللاذع. كان الشرر المتطاير من المشاعل المهملة قد بدأ يحرق أثاثاً وأشياء أخرى متراكمة. وبينما كانت تمسح عينيها اللتين تؤلمانها، لمحها أحد المشاهدين الهاربين من الطابق العلوي وصرخ بها:
تلك الصرخة أوقفت يد أنيس التي كانت تحاول يائسة فتح مقبض الباب. التقطت أنفاسها ومسحت بعينيها المكان، فرأت الجمهور يتدافع بجنون نحو المخارج.
كان العزاء الوحيد هو أن عملية الإخلاء تتم بسرعة، فربما لو حالفهم الحظ، سيخرج الجميع قبل وقوع الانفجار.
عضت أنيس شفتيها بقوة، وفي النهاية أدارت كرسيها المتحرك ودفعت جسدها وسط الحشود المتشابكة. وبينما كانت تهرب مع الناس، كانت تلتفت مراراً نحو الباب الحديدي، لكنها كانت عاجزة؛ لم يعد هناك شيء يمكنها فعله.
وبينما كانت تتعرض للدفع والارتطام يميناً ويساراً وسط الحشد، وصلت أخيراً بصعوبة بالقرب من مقاعد الجمهور.
تعثر أحد الهاربين واصطدم بحاوية نفايات، وبفعل الصدمة، تناثرت الأشياء الموجودة بداخلها. ووسط تلك الأشياء التي كانت تُسحق تحت أقدام الناس، وقع بصرها على صندوق أبيض مفتوح جزئياً.
“هذا هو الصندوق الذي كان يحمله رايل……”
ارتجفت رموش أنيس. كان حذاء باليه نظيف يبرز من الصندوق الذي انحلّ شريطه.
هل يعقل… أنه اشتراه ليعطيه لي؟
في اللحظة التي مدت فيها يدها البيضاء لتلتقط الصندوق—
باك!
دفع أحدهم الكرسي المتحرك بقوة هائلة، مما تسبب في صدور صوت تحطم من مفاصل العجلات.
“ابتعدي! لماذا تسدين الطريق كالحمقاء؟”
كانت فلوريس، بمكياجها المسرحي الكثيف، ترفع تنورتها الضخمة وهي تحاول المرور فوق الصندوق لتدوسه. ثم رفعت حاجبيها المرسومين بدقة بغضب وصاحت:
“أوه، من هذه؟ أليست الدوقة العظيمة؟”
تعرفت فلوريس على أنيس، فوضعت كفها على صدرها بإيماءة مبالغ فيها وانحنت برأسها. كانت تحية رسمية مفرطة لا تليق أبداً بجو الرعب المحيط، مما جعلها تبدو غريبة ومرعبة.
“يا له من شرف عظيم أن ألقاكِ هنا. كنت أرغب بشدة في تحيتكِ ولو لمرة.”
رسمت فلوريس ابتسامة فاتنة مصطنعة، بينما كانت عيناها تفيضان بحقد مسكون بالجنون.
“بفضلكِ أيتها السيدة، طُردتُ من منصب الراقصة الأولى وانتهى بي الحال هكذا. ما رأيكِ؟ هل أنتِ راضية؟ كل هذا لأنني تفوهتُ ببعض القيل والقال فقط.”
وفجأة تشوهت ملامح فلوريس، وضربت عجلة الكرسي المتحرك بكعب حذائها بقوة. تردد صدى صوت معدني مزعج على الأرض، ودون أن تمنح أنيس فرصة للرد، استمرت في صراخها:
“تتظاهرين بالبراءة وكأنكِ لا تعرفين شيئاً. ألم يخبركِ الدوق؟ أم أنكِ تتظاهرين بالجهل؟”
مقيتة.
أفرغت فلوريس حقدها من جانب واحد ثم استدارت بحدة، وراحت تشق طريقها نحو المخرج وهي تصرخ بجنون وكأنها تستعرض أمجادها الغابرة في الهواء:
“أنقذوني أنا أولاً! من سيتحمل المسؤولية إذا أُصبتُ؟ أنا فلوريس لورين! الراقصة الأولى في البلاط الإمبراطوري، فلوريس لورين!”
“طُردت من منصبها بسببي……؟”
وسط هذا الجنون، لم تستطع أنيس استيعاب كلمات فلوريس. ألم يخبركِ ليونيل؟ يخبرني بماذا؟
حاولت أنيس التقاط الصندوق واللحاق بفلوريس، لكن عجلة الكرسي المتحرك كانت معطلة. وعندما حاولت الدفع بقوة، انحرفت العجلة وأصدرت صريراً حاداً؛ يبدو أنها تحطمت تماماً بفعل ضربة فلوريس.
وفي النهاية، انهار توازن الكرسي المتحرك وسقط أرضاً.
“آهخ……!”
سقطت أنيس على الأرض وهي تحتضن الصندوق بين ذراعيها، وحاولت جاهدة النهوض. وفي تلك اللحظة، وقع انفجار صغير أسفل المسرح خلفها.
“آآآآه!”
ذعر الجمهور من صوت الانفجار وتدافع الجميع نحو الخارج بلا استثناء. وفي لمح البصر، أصبح المسرح فارغاً كالأطلال بعد أن انحسر الناس كالمد؛ ولم يبقَ بالقرب من خشبة المسرح سوى أنيس.
“يـ…يجب أن أخرج بسرعة……!”
حاولت أنيس الاستناد إلى عصاها التي كانت تضعها في الكرسي المتحرك تحسباً للمواقف، لكنها وجدتها قد كُسرت إلى نصفين تحت أقدام الناس.
عضت على أسنانها وحاولت الزحف للهرب، لكن اهتزاز الهواء الناتج عن الانفجار جعل رؤيتها تتأرجح بين البياض والسواد.
“…… هاه، آه.”
رأسها كان يدور، وجسدها وقلبها تجمدوا من الرعب. دهمتها نوبة فرط تنفس، وعادت إليها ذكريات ذلك اليوم عند الجرف. كانت منبطحة على الأرض، تحاول بكل قوتها التمسك بوعيها.
حينها، رأت شخصاً يركض نحوها من بعيد.
زي عسكري أسود، وشعر أسود فاحم.
كان ليونيل.
“ليونيل……؟”
مدت أنيس يدها غريزياً نحوه، لكن في تلك اللحظة، توالت صور ليونيل التي رأتها مؤخراً في ذهنها. نظراته المليئة بالاشمئزاز والشك، ظهره الذي يستدير ببرود، وشفتيه القاسيتين اللتين نطقتا بأنه لن يصدقها.
وفجأة، خطر ببالها سؤال:
‘هل سينقذني ليونيل حقاً……؟’
ابتلع الإحباط المتراكم بذور الأمل. لو كان ليونيل، ألن يشك بي مجدداً؟ ألن يجزم بأن هذا الموقف نفسه هو من تدبيري؟
إذا كان الأمر كذلك، فمن المؤكد أن خطواته تلك ليست لإنقاذي.
انطفأ بصيص الأمل في لحظة، وأنزلت أنيس يدها التي كانت قد مدتها.
ليونيل مستحيل أن ينقذني.
وفجأة..
بوووم!
مع دوي هائل، انهار هيكل ضخم من فوق المسرح متجهاً نحو أنيس.
وسط الغبار المتصاعد، رأت وجه ليونيل وهو يركض نحوها. كان تعبير وجهه يشبه طفلاً مرعوباً من فقدان شخص عزيز.
لكن..
‘……لا بد أن هذا وهمٌ آخر من أوهامي.’
ابتسمت أنيس بمرارة وهي تحتضن حذاء الباليه الجديد واللامع بين ذراعيها، وأشاحت بنظرها نحو الأرض.
لم يكن من الممكن لليونيل أن ينظر إليها بتلك النظرة أبداً.
بوووم!
صوت انفجار ضخم هز أرجاء المسرح الكبير. اهتز سقف القبة وصرخت النوافذ الزجاجية وكأنها ستمزق.
وسط أمواج الفوضى وصرخات الناس، لم ترَ عينا ليونيل سوى مشهد واحد: الكرسي المتحرك المقلوب والمحطم، وأنيس المغطاة بالغبار، وهي تنظر إليه بعينين يملأهما الرعب.
“……لا!”
ارتفعت ذراع ليونيل نحو يد أنيس الممدودة باتجاهه.
وفي تلك اللحظة التي تلاقت فيها نظراتهما، بدا وكأن الزمن قد توقف وتلاشت كل الحواس المحيطة.
لكن صوت تصدع الهيكل فوقها ملأ المسرح بنذير شؤم وكأنه يستعجله.
استجمع ليونيل شتات نفسه وهمّ بالاندفاع نحوها دون تردد.
“صاحب السعادة، إنه خطر!”
“اتركني إن كنت لا تريد الموت.”
أمسك به كاين محاولاً منعه، لكن ليونيل زمجر بصوت منخفض ونفض يده بعنف، ثم ركض نحو أنيس التي تمد يدها وسط الحطام.
لكن، وكأنه كذب، سحبت أنيس يدها.
تلك اليد التي كانت ممدودة كأنها حبل النجاة الوحيد، سحبتها ببطء.
كان وجه أنيس ملطخاً باليأس.
وفي عينيها الرماديتين الجميلتين، لم يكن هناك أمل ولا تطلع لنجدة.
“…… لماذا؟”
حبس ليونيل أنفاسه.
لماذا؟ لماذا لا تطلبين مني المساعدة؟ لماذا لا تطلبين النجاة؟
لماذا تنظرين إليّ بهذا التعبير…… كشخص تخلى عن كل شيء؟
خفق.
ثم مرة أخرى، خفق.
اضطرب قلبه وكأنه يطلق إنذاراً. هناك خطأ ما، خطأ فادح.
وبمجرد أن أدرك ذلك، انهار البناء الحجري المتصدع فوق رأس أنيس.
التعليقات لهذا الفصل " 27"