كانت ابتسامة نضرة تشبه ابتسامة فتى يختبر حبه الأول.
صرير.
اشتدت قبضة ليونيل حتى غاص جهاز اللاسلكي في كفه.
[تأكدنا من انتقاله نحو مقاعد الجمهور، لكن بسبب الزحام لم نتمكن من تحديد مساره اللاحق.]
تكسرت أصوات اللاسلكي عند أطراف أذنيه، لكن تركيز ليونيل كان منصباً بالكامل في نقطة واحدة.
في طرف رؤيته، كانت هيئة أنيس تتحرك ببطء.
ولم تبتعد نظرات ليونيل عنها حتى اللحظة التي اتجه فيها كرسيها المتحرك نحو المخرج بسلاسة.
شعر بمرارة تفيض في صدره.
مجرد رؤية أنيس بجانب رجل آخر أثار فيه شعوراً غامضاً بالاشمئزاز.
وعندما خطرت صورة وجهها المبتسم في ذهنه، خفق قلبه باضطراب غير منتظم.
‘ما هذا الشعور؟’
لم يستطع ليونيل تحديد ماهية تلك العاطفة؛ هل هي اشمئزاز، أم غضب، أم مزيج منهما؟
لكن شيئاً واحداً كان واضحاً: لم يكن هذا مجرد انجذاب بسيط، بل كان شيئاً يفوق ذلك بكثير.
“……”
طق، طق—
كان طرف سبابته الطويلة ينقر بانتظام على جانب جهاز اللاسلكي.
أكثر من مجرد انجذاب.
خبت نظرات ليونيل تدريجياً.
لم يكن الأمر مهماً أياً كان؛ ففي النهاية، لن يكون سوى شعور عابر وتافه سيختفي دون أثر بعد وقت قصير.
رفع ليونيل جهاز اللاسلكي نحو فمه وهو يشيح بنظره عنها ببطء:
“أغلقوا المداخل والمخارج. ابدأوا بتحديد هوية أي شخص مشبوه بين الجمهور.”
كتم نبرة صوته التي كادت تصبح حادة، وشق طريقه عبر مقاعد الجمهور التي تزداد ازدحاماً، متجهاً نحو المقصورة الملكية في الطابق الثاني لتأمين زاوية رؤية أوسع.
كانت كل حواسه مشدودة كوتر مشدود، وفي خضم هذا الاستنفار، كان شعوره تجاه أنيس هو أكثر ما يثير أعصابه؛ كأنه غريزة تملك غريبة لا يريد الاعتراف بها.
راقبت أنيس ظهر ليونيل وهو يتجه نحو المقصورة المقابلة من جهة مقاعد الجمهور.
ظلت تحدق به طويلاً دون أن يلتفت هو ولو لمرة واحدة.
لقد أصبح ظهر ليونيل مألوفاً لها أكثر من وجهه.
هل سيأتي يوم أواجه فيه وجهه حقاً بدلاً من هذا الظهر البعيد؟
نفضت عن كاهلها تلك الأفكار العقيمة، ووجهت اعتذاراً لكاين:
“أنا آسفة يا كاين، لأنك اضطررت لسماع كلمات كهذه بسببي.”
“لا، لا تقولي ذلك…! بل أنا الآسف لأنني تسببتُ لكِ في هذا الموقف المحرج بإرسالي لتلك الدعوة.”
حك كاين شعره الكثيف محاولاً تلطيف الجو المتوتر، بينما اصطبغت أطراف أذنيه المستديرة باللون الأحمر خجلاً.
“هاها. يبدو أن مشاهدة العرض الآن ستكون صعبة، أليس كذلك؟ هل نغادر؟ أعرف مطعماً جيداً في الجوار.”
“كاين….”
عندما نادت اسمه فجأة، تحركت حدقتا كاين باضطراب، ثم توردت وجنتاه ببهجة:
“نعم، سيدة أنيس.”
اختارت أنيس كلماتها بعناية وحذر:
“أشعر أنني يجب أن أكون واضحة معك. أنا لم آتِ إلى هنا اليوم بسبب الرسالة، بل جئتُ لرؤية زوجي.”
“…… آه. فهمت.”
“أنا آسفة لأنني لم أخبرك فوراً.”
بدأ طرفا فمه اللذان كانا يرسمان هلالاً بالهبوط تدريجياً.
واختفت الحمرة من وجه كاين ليحل محلها عبوس واضح، لكن ذلك لم يدم إلا للحظة.
وخوفاً من أن تشعر أنيس بالذنب، سارع كاين برسم ابتسامة مرحة:
“إذا نظرتِ إليّ بهذا الوجه المعتذر فسأشعر بالاستياء حقاً. هل كنتُ أنا الوحيد الذي بالغ في الترحيب بكِ دون مراعاة للموقف؟”
“ليس الأمر كذلك، لقد سُررتُ بلقائك مجدداً أيضاً.”
“هذا يكفيني. لذا، من فضلكِ لا تعتذري.”
عندما ابتسم بوضوح أكبر، ظهرت خطوط دقيقة تحت وجنتيه، وبدت غمازاته التي تشبه شخصيته نقية وصافية.
وبينما كانت أنيس تتأمله للحظة، سعل كاين بحرج وأدار رأسه، ليرى شيئاً ما فجأة ويشير إليه:
“أوه؟ ذاك الشخص هناك. أليس هو والدكِ؟”
في الاتجاه الذي أشار إليه كاين، كان أدريان يختفي بين الهياكل أسفل المسرح.
كان ذلك المكان هو المستودع السفلي المخصص لمعدات الإضاءة والديكور، وهو منطقة محظورة على الجمهور العادي.
أمسكت أنيس التي كانت تراقب المكان ذاته بطرف كم كاين:
“كاين، أنا آسفة ولكن…… هل تعرف طريقاً يؤدي إلى هناك؟”
“اممم، الدخول مباشرة صعب، لكني أعرف مكاناً يطل على الداخل.”
أوضح كاين أنه لملم بعض تفاصيل المكان عندما قدم عرضاً هنا سابقاً.
ورغم محاولة أنيس الذهاب وحدها، إلا أنه منعها ودفع كرسيها المتحرك مباشرة نحو باب حديدي ضيق في جانب المسرح؛ بدا سعيداً لأنه يستطيع تقديم المساعدة لها.
خلف ذلك الباب الحديدي، كان الجدار المؤدي لأسفل المسرح يغرق في الظلال.
حبست أنيس أنفاسها وهي تسترق النظر للداخل.
وعندما اعتادت عيناها على الظلام، رأت أدريان يقف أمام رجل ضخم الجثة.
“كاد الأمر أن ينتهي بكارثة. لحسن الحظ أننا تمكنا من تهريب البضاعة بسلام.”
تذمر أدريان وهو ينفض مسحوق البارود العالق بيده بعد أن وضع الصندوق أرضاً.
“بما أن الدوق لم يكتشف الأمر، فهذا هو المهم!”
“يؤسفني أنها ليست في المكان المخطط له، لكنني سأتغاضى عن الأمر هذه المرة. تذكر أنها المرة الأخيرة.”
“قلتُ إنني فهمت، كم مرة عليّ تكرار ذلك!”
ناول الرجل الضخم أدريان مغلفاً سميكاً بنبرة آمرة، وكانت الأوراق النقدية تبرز من بين طيات المغلف الأصفر.
وبمجرد رؤيتها، ارتسمت ابتسامة جشعة على وجه أدريان وكأنه لم يكن متذمراً قبل قليل.
“هوهو، لقد دفعت الثمن بالفعل، فلماذا كل هذا الكرم؟”
“هذا عربون لتعاوننا المستقبلي، وتحذير لك أيضاً لئلا ترتكب أي حماقة.”
“قلقك في غير محله. ألا تعلم أن أسلوبي هو إغلاق فمي وفتح يدي في الصفقات المربحة؟”
حشر أدريان مغلف المال في جيبه، ورد الجميل بتقديم حزمة من الوثائق.
“ما هذا؟”
في الصفحة الأولى التي مرت سريعاً، كُتبت قائمة بالمنسوجات النادرة والتوابل.
وثائق تحمل لمسات شخص آخر غير أدريان، لكن أدريان كان الوحيد في هذا المكان الذي يعرف تلك الحقيقة.
“اعتبرها هدية مني لتعاوننا المستقبلي أيضاً. إذا أحسنتَ استغلالها، فسنتمكن نحن الاثنين من وضع أيدينا على مبالغ طائلة.”
التعليقات لهذا الفصل " 25"