لامست بشرته الدافئة والصلبة شفتيها، يمسح عليهما بنعومة، ثم ابتعد بجفاء وكأن شيئاً لم يكن منذ البداية.
سرت قشعريرة على طول عمودها الفقري من ذلك الملمس الغريب. هل كان ذلك بسبب اختلاف رائحته؟ أم لأن نبرة صوته كانت ناعمة على غير العادة؟ هذه المرة، لم يكن شعورها نابعاً من الخوف، بل من عاطفة أخرى مختلفة تماماً. بقيت شفتاها اللتان سُحقتا تحت يده الكبيرة تشعران بحرارة لاذعة وكأنها تعرضت لحرق.
“إذن، ما الذي تودين قوله؟”
أخذت أنيس التي كانت تعبث بشفتيها نفساً عميقاً، ثم شرعت في الكلام بصعوبة:
“لو طلبتُ منك… أن نغادر هذا المكان لأن هذا المسرح في خطر، هل كنت ستفعل ذلك؟”
“يعتمد ذلك على السبب الذي يدفعكِ لقول هذا.”
كان رد فعله غير متوقع. ظنت أنه سيسخر منها معتبراً كلامها هراءً، أو أنه سيتجاهلها تماماً. نظرت أنيس إليه بدهشة؛ بدا لها وكأن طرف فمه، الذي اعتاد إطلاق السخرية دائماً، قد ارتفع قليلاً بشكل غير ملحوظ.
ربما كان مجرد وهم، لكن ليونيل اليوم بدا متسامحاً قليلاً، ولو لدرجة ضئيلة جداً. استنشقت أنيس الهواء بعمق، ثم استجمعت شجاعتها وقالت:
“هناك… قنبلة داخل المسرح.”
ارتفع أحد حاجبي ليونيل بتساؤل:
“وكيف عرفتِ ذلك؟”
أخرجت أنيس الكتيب من ثيابها وفتحته، مشيرةً إلى صناديق المعدات:
“هذا الشعار تستخدمه نقابتنا عند إدارة المواد المتفجرة.”
“إن كان كلامكِ صحيحاً، فقد تُتهم عائلة باردو بالمشاركة في عمل إرهابي. لماذا تخبرينني بهذا إذن؟”
اشتدت قبضة أنيس على الكتيب. لم تكن متيقنة بعد إن كانت نقابة باردو قد مدت يدها للإرهاب بعد تهريب الأسلحة، ولكن حتى لو كان ذلك حقيقة، لم تكن تملك من الوقاحة ما يكفي لتتظاهر بالجهل وهي تعلم بالخطر القادم.
“خشيتُ أن يتعرض أحدهم للأذى.”
خشيتُ عليك أنت، يا ليونيل.
ابتلعت الكلمات الأخيرة التي كادت تخرج من حنجرتها، وأضافت:
“…… الناس، أقصد.”
“لم أكن أعلم أنكِ تملكين شخصية تهتم بالآخرين إلى هذا الحد.”
ومع تلك النبرة الساخرة المعتادة، أصدر ليونيل أمراً لفرسانه بإشارة من يده:
“فتشوا خلف الكواليس بالكامل.”
“هل ستصدق كلامي هذه المرة؟”
“……”
بدلاً من الإجابة، نظر ليونيل إلى حذاء أنيس. من الواضح أنها خرجت على عجل شديد؛ فحتى حذاء “الدوقة” لم يكن متطابق الزوجين. التوى تعبير وجه ليونيل بشكل غريب للحظة.
بعد قليل، عاد التقرير بانتهاء التفتيش:
“لم نجد شيئاً. الصناديق لا تحتوي إلا على معدات مسرحية عادية.”
على عكس ادعاء أنيس، لم يظهر شيء في الصناديق خلف المسرح.
“لا، هذا غير صحيح! أنا متأكدة من وجود قنبلة هنا. أرجوك، ابحث مرة أخرى…!”
“كفى.”
أوقف ليونيل يدها التي حاولت تحريك الكرسي المتحرك.
“ربما نقلوها إلى مكان آخر في هذه الأثناء، أو دعني أذهب بنفسي للتأكد—”
“حتى لو كان الأمر كذلك، سأتعامل معه بنفسي. إن انتهيتِ مما لديكِ، فعودي الآن.”
“…… ألم تصدقني؟”
“لا أعرف لماذا تظنين ذلك، يبدو أن هناك سوء فهم.”
كان ليونيل محقاً، هو لم يجب على سؤالها قط. لقد فسرت هي تصرفه بمحض إرادتها على أنه نتيجة للثقة.
“لقد خصصتُ وقتاً لهذا لأنني رأيتُ أنه لا ضرر من التأكد.”
غارت نظرات أنيس وانكسرت عند سماع صوته وهو يضع حدوداً قاطعة:
“وقد انتهى هذا التأكد.”
آه. لقد وقعتُ في وهم غبي مرة أخرى.
كان ثمن الوهم مؤلماً لدرجة القسوة. رغم تكرار الأمل والخيبة مرات لا تُحصى، إلا أنها ظلت تأمل بحماقة أن تكون هذه المرة مختلفة. الخيبات المتتالية كانت كفيلة بإحداث شقوق في أكثر القلوب صلابة.
بدأت حقيقة واحدة تترسخ في قلب أنيس، حقيقة أصبحت أكثر وضوحاً كلما حاولت إنكارها: ليونيل لن يصدقها أبداً، مهما قالت. كان استنتاجاً حزيناً وحاسماً.
أضاف ليونيل دون أن يحيد بنظره عنها:
“ألم يكن هذا التفاعل كافياً؟ سأستدعي سايمون، انتظري هنا.”
التفت فوراً وغادر الردهة.
ومع اقتراب موعد العرض، بدأ الناس يتوافدون إلى داخل المسرح. كافحت أنيس لتحريك كرسيها المتحرك جانباً لتجنب الحشود، لكن الأسلاك الكهربائية المتشابكة على الأرض كانت تعلق بالعجلات باستمرار.
وبينما كانت تحاول اللجوء إلى زاوية ما، لمحت فجأة ظهراً مألوفاً بين الناس.
أدريان.
كان يختفي في مكان ما ومعه الصناديق.
في تلك اللحظة، فكرت في مناداة ليونيل، لكن الكلمات انحبست في حلقها.
“لن يصدقني هذه المرة أيضاً، هذا أمر مفروغ منه.”
حلّ الاستسلام محل الأمل. تنفست أنيس بعمق ثم زفرت طويلاً؛ فالأمل دائماً ما يصطحب الخيبة معه، لذا كان من الأفضل ألا تأمل من البداية.
“…… سأبحث عنها بنفسي.”
منذ متى كانت تنتظر مساعدة الآخرين أصلاً؟ شعرت بمرارة في فمها، لكن قلبها كان هادئاً بشكل غير متوقع. كانت تعلم منذ زمن طويل أنه لا يوجد من تعتمد عليه، ومع ذلك، يبدو أنها تمنت بغير وعي أن تسند رأسها على أحد حين التقت بصديق قديم.
مسحت أنيس عينيها المحتقنتين بيديها بخفة. كفى. ليس هذا وقت الاستسلام للضعف. أعادت لملمة شتات قلبها المحطم وتحركت.
وبينما كانت تنحني لإزالة الأسلاك العالقة بالعجلات، أمسك شخص ما بمقابض الكرسي المتحرك بنعومة.
“بما أنكِ لم تردي على الرسالة، ظننتُ أنكِ لن تأتي، لكنكِ حضرتِ.”
صوت مألوف.
عندما التفتت، رأت كاين يبتسم بود وهو ينظر إليها.
“يسعدني رؤيتكِ مجدداً، آنسة أنيس.”
من جهة أخرى.
توقف ليونيل، الذي كان متجهاً نحو مكان سايمون، في منتصف الردهة. وقعت عيناه على حذاء باليه موضوع بين الهدايا التذكارية في واجهة زجاجية.
رغم أنه مرّ بهذا المكان قبل قليل دون اهتمام، إلا أن رؤية أنيس وهي تنظر بشوق إلى المسرح جعلت الأمر يشغل باله. في تلك اللحظة، تذكر حذاء أنيس غير المتطابق، وتذكر أيضاً تلك الليلة الأولى، حين كانت أنيس تحتضن حذاء باليه قديماً ومتهالكاً بحرص شديد.
فتح ليونيل كف يده ونظر إليها:
“هل كان مقاس قدمها بهذا الحجم تقريباً؟”
فجأة، تملكه الفضول لمعرفة التعبير الذي سيبدو على وجه أنيس إن تلقت ذلك الحذاء. لو ابتسمت بفرح، فلن يكون ذلك أمراً سيئاً. على الأقل، سيكون أفضل من ذلك الوجه الباكي الذي رآه قبل قليل.
دخل ليونيل متجر الهدايا.
وبعد قليل…
رنين—
دوى جرس الباب وهو يخرج من المتجر. في يده التي ترتدي قفازاً جلدياً أسود، كان يحمل الآن صندوقاً أبيض.
كان شراء الحذاء مجرد دافع لحظي، حتى هو لم يستطع فهم تصرفه. لكن قدميه تحركتا بصدق عائدتين إلى حيث ترك أنيس.
وفي تلك اللحظات القصيرة وهو يسير، كانت الأسئلة تتوارد في ذهنه: لماذا جاءت أنيس إلى هنا لتتحدث عن القنابل؟ هل هو قلق خالص وحسن نية؟
أياً كان السبب، كان عليه إعادتها إلى المنزل أولاً. فرغم أنه لم يجد القنبلة في المكان الذي ذكرته، إلا أن المكان قد يكون خطيراً إن حدث خطأ ما.
والأهم من ذلك، سيكون هناك الكثير من الاتصالات اللاسلكية بسبب الأوامر العملياتية، ومن المؤكد أن أنيس ستصاب بنوبة تشنج كما حدث بالأمس إن بقيت هنا. لم يكن ليونيل يرغب في رؤيتها وهي تنهار بضعف مرة أخرى.
“إنها تتطلب الكثير من العناية حقاً.”
أطلق ليونيل صوتاً بلسانه يعبر عن الضيق، وزاد من سرعة خطواته.
لكن، ما إن وصل إلى المكان الذي ترك فيه أنيس، حتى توقفت خطواته فجأة. فقد رأى من بعيد خصلات شعرها البنية المجعدة.
هدأت الأفكار المعقدة والشكوك والأسئلة التي أراد طرحها في عقله فجأة، وتبددت كلها أمام تعبير وجه كاين الضاحك وهو ينظر إلى أنيس.
دون وعي منه، قبض ليونيل بقوة على الصندوق الأبيض في يده. تجعد شريط التغليف، وانبعج الصندوق الرقيق بشكل مائل.
“هاه.”
على وجهه الخالي من التعبير، ارتسمت ضحكة لا تشبه الضحك في شيء.
قبض ليونيل على صندوق الحذاء وسار ببطء نحوهم، ثم توقفت ساقاه الطويلتان أمامهما.
مسحت نظراته يد كاين التي تمسك بمقابض الكرسي المتحرك، ثم انتقلت إلى جانب وجه أنيس، ليسقط من فمه كلام جاف وبارد:
“يبدو أنكِ… لم تأتي لرؤيتي كما ادعيتِ.”
كانت نظراته الزرقاء الحادة تخترق الفراغ بينهما وهو يضيف:
“لم أتوقع أنكِ ستنفذين كلماتي بالبحث عن ‘عشيق’ بهذه السرعة.”
التعليقات لهذا الفصل " 24"