الفصل 9 :
على الرّغم مِن أنّني توقّعتُ ألّا يكون اللقاء عاديًّا، إلّا أنّني شعرتُ بأنَّ أنفاسي قد انقطعت عندما بدأ الضغط منذ اللحظة الأولى للقاء.
بينما كنتُ ألتقط أنفاسي لوهلة، ابتسمت الأميرة بارينين ابتسامةً مشرقة وأوقفت خادمتها.
“لا تغضبي كثيرًا، يا بارونة سايجي. آنسة أزيان لا تزال تفتقر إلى الإتيكيت، أليس مِن واجبي أنا، زوجة الدوق، أنْ أعلّمها إيّاه خطوةً بخطوة؟”
كان وجه بارينين يبدو طيّبًا وجميلًا كوجه ملاك، وكان صوتها رقيقًا. السيّدات الجالسات معي على الطاولة احمرّت وجوههنّ.
“يا لها مِن طيبة!”
“صحيح، يا زوجة الدوق.”
ومِن الواضح أنّهنَّ كنّ يعتقدن ذَلك بصدق.
‘حقًّا، لو لَمْ أكُن قد رأيتُ وجهها الحقيقي، لكنتُ قد انخدعتُ بها مثلهم تمامًا.’
بهَذا القدر كانت ابتسامتها خالية مِن الثغرات.
منذُ لحظة وصولي، لَمْ أقل سوى تحيّةً قصيرة، ومع ذَلك، بدأوا يمزّقونني بالكلماتٍ فوق الطاولة وكأنّهم يعرفونني منذ زمن.
“ماذا تعنين بأنّها لا تعرف الإتيكيت؟ هل لَمْ تتعلّمه حتّى الآن رغم سنّها؟”
“لا يُمكن أنْ تكون مِن العامّة، أليس كذلك؟”
“يا إلهي، هل السيّد سيروليان ينوي أنْ يتزوّج مِن فتاةٍ مِن عامّة الشعب رغم أصله؟”
“مِن زاوية ما، يبدو الأمر مناسبًا، فهم مِن نفس الطينة.”
“هناك شرف العائلة، كيف يُمكن الموافقة على مثل هَذا الزواج؟ أرجو منكِ، يا زوجة الدوق، أنْ تُعيدي النظر!”
ما شأنكِ أنتِ في أنْ توافقي أو ترفضي أصلًا؟
تنفّستُ مِن أنفي وأنا أتجاهل كلماتهنّ المسمومة.
‘آه… لقد ارتكبتُ خطأً. كان عليَّ أنْ أُعيد العربة مِن البداية، ولو قالوا إنّني لَمْ آتِ وغضبوا منّي، لكان ذَلك أفضل.’
بدأتُ أفكّر إنْ كان عليَّ أنْ أهرب بحجّة الذهاب إلى الحمّام. وفي اللحظة التي رفعتُ فيها رأسي بهَذهِ الفكرة، التقت عيناي بعيني الأميرة بارينين، التي كانت تُحدّق بي دوّن أنْ ترمش.
حين التقت نظراتنا، شعرتُ بقشعريرةٍ تسري في ظهري. قبضتُ بيديّ على طرف تنورتي بقوّة.
‘…إنّها تتذكّر.’
مِن الواضح أنَّ الأميرة بارينين أيضًا تتذكّرني.
تتذكّر أنّني رأيتُ وجهها الحقيقي.
‘هَذا ليس جيّدًا على الإطلاق.’
امرأةٌ تخفي طبيعتها المريضة بهَذهِ الطريقة، لا يُمكن أنْ تترك شخصًا يعرف حقيقتها وشأنه.
ابتلعتُ ريقي بتوتّر، وفي تلكً اللحظة بالذات، انحنت عيناها المستديرتان بلطفٍ على شكل هلال. توقّعتُ أنّها ستكلّمني فتجمّدتُ للحظة، لكنّها قالت بصوتٍ ناعم مليء بالدلال:
“يا ترى، مَن هًذا؟ ما الذي جاء بابني العزيز إلى هُنا؟”
كانت ابتسامتها مشرقةً كزهرةٍ مُتفتحة.
لبضع لحظات، ظننتُ أنّها تتحدّث إليّ، لكنّي التفتُّ خلفي وأنا في حيرة.
ثمّ صُدمتُ تمامًا.
“…سيروليان؟”
قامته الطويلة، أطرافه الممشوقة، شفتاه المضمومتان بإصرار، وحاجباه اللذان يمنحانه مظهرًا متحفّظًا.
وجهه الجميل، الذي يجمع بين الرّقة والصلابة، لا يُمكن أنْ يوجد مثله اثنان في هَذا العالم. كان خطيبي، سيروليان.
‘ما الذي يفعله هنا؟’
هل يا ترى جاء مسرعًا عندما سمع أنّني حضرت حفلة الشاي التي أقامتها زوجة الدوق؟ كان العرق يتجمّع على وجنتيه رغم ملامحه الخالية مِن التعبير.
لا يُمكن أنْ يكون ذَلك، لا يمكن أنْ يكون قد جاء مِن أجلي، ومع ذَلك، بدأ قلبي يخفق بهدوء.
مع أنّه جاء مسرعًا بهًذا الشكل، لَمْ ينبس بكلمة واحدة. رفعت بارينين حاجبيها بلطف ووجّهت له توبيخًا:
“حقًّا، أتجاهلُ تحيّة والدتك؟”
“…كلا.”
كانت كلمات بارينين تبدو مازحة، لكنّها كانت تحمل سخريةً مبطّنة. فبدأ سيروليان يتحرّك ببطء. كانت نظراته تتوهّج باللون الأزرق كضوء السيف المشحوذ.
“سُعدتُ بلقائكِ بعد وقتٍ طويل، يا أمّي.”
رفعت بارينين ذقنها بفخر ومدّت يدها بكبرياء. كانت صورة للأناقة والفخامة تليق بأميرة إمبراطورية.
اقترب سيروليان منها وأمسك يدها برفق. ثمّ انحنى ليطبع قبلة على ظاهر يدها.
لكن، في تلكَ اللحظة تمامًا، قامت إحدى الحاضرات بجذب يد بارينين بعنفٍ مِن بين يديه.
“هاه؟”
أصدرتُ صوتًا مذهولًا، وجمُد سيروليان في مكانه. مِن ارتكب هَذا الفعل غير المعقول كانت زوجة البارون سايجي نفسها.
“كيف تجرؤ على تقريب شفتيكَ؟ يبدو أنّكً لَمْ تتعلّم الإتيكيت رغم مضيّ سنواتٍ على دخولك منزل الدوق. لا يُمكن إخفاء أصلكً مهما حاولت.”
وضع الشفاه على ظاهر يد أحد أفراد العائلة المالكة بدلًا مِن الجبهة، كان مِن الطقوس القديمة التي اندثرت منذُ زمن في هَذهِ العصور الحديثة.
كانت السيّدة سايجي تتعمّد استخدام قاعدةٍ قديمة لا يُعمل بها بعد الآن، لتوبيخ سيروليان وانتقاده.
فتحتُ فمي مِن شدّة الدهشة.
‘لا، هَذا تجاوز للحدّ!’
ظللتُ أحدّق في سيروليان بنفس ملامح الصدمة على وجهي.
‘لِمَ لا تقول شيئًا؟!’
ولكن، بدا أنَّ سيروليان قد تحوَّل إلى تمثال، فظلّ فمُه مطبقًا، وجسده مُتجمِّدًا كأنّه تحجّر! بل لًمْ تظهر عليه حتى ملامح الاستياء.
‘في مثل هَذا الموقف، على الأقل عليه أنْ يصرخ في وجهها ويخبرها ألا أتكلّم كما يحلو لها!’
ولأنّه لَمْ يغضب، شعرت بأنَّ ما في داخلي كان يحترق ويحترق حتّى أصبح رمادًا.
وبينما كنتُ أتأوّه وسيروليان لا يزال جامدًا، بدأت البارونة سايجي بتغيير الموضوع على هواها وبدأت بالثرثرة.
“لَمْ يقُل السيّد أيَّ شيء عندما قرّر خطوبته هَذهِ المرّة، أليس كذلك؟! هل تعرف كم شعرت الدوقة بالحزن؟ عليهِ أنْ يقدّم اعتذارًا رسميًّا أيضًا.”
ألا يعرف الجميع أنَّ سيروليان وبارينين هما خصمان يتنازعان على وراثة لقب الدوق؟
أيُّ مغفّلٍ في هَذا العالم سيُفصح لخصمه عن كلّ ما يفعله؟
‘ولكن، لماذا يجبُ أنْ يعتذر عن ذَلك أيضًا!’
لكن، ما كان أكثر استهجانًا هو أنَّ سيروليان لًمْ يبدِ أيَّ ردّ فعل حتى على هَذا الإهانة، وظلّ واقفًا كبحيرةٍ ساكنة، لا ينبس ببنت شفة.
لَمْ أستطع التحمُّل أكثر مِن ذَلك، فنهضتُ مِن مكاني دوّن أنْ أشعر، ثمّ تعلّقتُ بذراعهِ كأنّي أتشبّث به.
ارتجف!
ارتجف كتف سيروليان بشكلٍ واضح لدرجة أنَّ أيَّ شخصٍ كان يمكنه ملاحظة ذَلك. فحاول أنْ يسحب ذراعه لا إراديًّا، لكنّي أمسكتُ بها بقوّة. ثمّ ابتسمتُ له بابتسامةً مشرقة كزهرة عباد الشمس وبدأت أُثرثر.
“بما أنَّ السيد سيروليان قليل الكلام، فهل يُمكنني أنْ أتحدّث بدلًا منه، يا بارونة؟”
ارتفعت حاجبا البارونة سايجي فجأةً، وكأنّها لَمْ تُصدّق ما سمعت، وهي ترمش برموشها الطويلة بدهشة.
“……ما الذي قلتهِ للتوّ؟”
تشنّج وجه البارونة سايجي كما لو كانت تمضغ مرارة.
‘ما زال الوقت مبكّرًا ليصل وجهكِ إلى هَذا الحدّ مِن التشنّج.’
أتدرين؟ خصم أمثالكِ هو شخصٌ لا يملك ذرّة مِن اللباقة.
أخفضتُ نظري خجلًا وغطّيتُ فمي بظهر يدي كما تفعل النساء الخجولات، ثمّ أجبتُها.
“يبدو أنّكِ تغفلين عن بعض الأمور. كما تعلمين، تمّت الموافقة رسميًّا على عقد خطوبتنا. صحيح أنّنا لَمْ نُقم حفل الزفاف، لكنّنا نُعدّ كزوجَين بالفعل.”
“عقد الخطوبة؟!”
لَمْ يتغيّر وجه البارونة سايجي فحسب، بل تجمّدت وجوه كلّ مَن كانوا جالسين على الطاولة بلونٍ أزرق شاحب.
تمّت الموافقة على عقد الخطوبة.
وهَذا يعني أنَّ العائلة تعترف بهما كزوجَين.
أسندتُ رأسي إلى كتف سيروليان وأنا أبتسم ابتسامةً مشرقة.
“لذا، يجب أنْ تُناديني بزوجة السيّد لوك، لا آنسة أزيان. لقد نلنا موافقة صاحب السموّ، ولا يوجد سببٌ يدعو سيروليان للاعتذار.”
ثمّ أخفضتُ نظري بخفّة وأضفتُ بلهجةٍ ناعمة:
“لا يُمكن أنْ تكونوا… لَمْ تسمعوا عن هَذا الحدث السعيد، عن الموافقة على عقد الخطوبة وختمه، أليس كذلك؟”
“ها…….”
حتى بارينين، التي كانت دائمًا صاحبة اليد الطولى، لَمْ تكُن تتوقّع هَذا المشهد على الإطلاق. كانت تنظر إليّ وإلى سيروليان شاحبة الوجه، مذهولة.
تعلّقتُ بذراع سيروليان أكثر، وابتسمتُ بخفاء حتى لا يراني أحد.
‘بما أنَّ سيروليان ركض إليّ مباشرةً بعد نَيل الموافقة، كنتُ أعلم أنَّ بارينين لَن تعرف بالأمر بعد.’
ورغم ذَلك، كنتُ أتحدّث وكأنّها تعلم بكلّ شيء منذُ البداية، وكان السبب بسيطًا.
لأنّي أردتُ أنْ أُفقد تلكَ المرأة صوابها بكلّ ما أوتيتُ مِن قوّة!
‘وأنا أجيد إثارة الغيظ.’
شبكتُ ذراعي بذراعهِ وابتسمتُ مِن جديد.
“لكنّ إديل طيّبةُ القلب، لَن أطلب منكم أنْ تعتذروا لأنّكم لَمْ تحترموني. سيروليان قال إنّه أحبّني لأنّي طيّبة.”
الحديث عن نفسي بصيغة الغائب، وبنبرةٍ مُدلَّلة، كان يجعلني أشعر بأنَّ أطرافي كلها تنكمش.
لكن كلّما زاد شعوري بالإحراج، زاد تأثير الاستفزاز.
تحوّل وجه البارونة سايجي مِن شاحبٍ إلى أحمر قانٍ في لحظة، ثمّ صرخت بصوتٍ حادّ:
“لَـ، لا تكوني سخيفة! لا يُعقَل أنْ يكون الدوق قد وافق! لقد رفض حتى أميراتٍ مِن دولٍ مجاورة ليجعلهنّ زوجاتٍ لأبنه، فكيف يُمكن أنْ يُوافق على فتاةٍ تافهة مثلكِ، مُجرد عاميّة……!”
رغم أنّه لا يزال هناك حدودٌ بين النبلاء والعامّة، إلّا أنَّ التلفّظ بكلمة عاميّة وجهًا لوجه يُعدّ تصرّفًا وقحًا للغاية.
‘يبدو أنّها تُعاني مِن انخفاضٍ في ضغط الدم مِن شدّة النحافة، فدعينا نرفعه قليلًا الآن.’
ابتسمتُ لها ابتسامةً صغيرة وقلت:
“أوه، يبدو حقًّا أنّكِ لا تعرفين. والدي الدوق قال إنّهُ أُعجب بي كثيرًا.”
في الواقع، لَمْ أكُن أعلم حتى إنْ كان دوق لوك يعرف اسمي عندما وضع ختمه، لكنّني تعاملتُ مع الأمر وكأنّه حقيقة. فالمُبالغة هي جوهر إثارة الغيرة دائمًا.
ثمّ، ما دمتُ لا أقول شيئًا يُمكن التحقّق منه فورًا، فلا يهمّ إنْ كنتُ أضيف بعض الأكاذيب.
لهَذا، تابعتُ ابتسامتي وقلتُ جملةً أخرى:
“قال إنّه يعتبرني كابنةٍ له تمامًا.”
يبدو أنّني قد بالغت في الكذب هَذهِ المرّة، لأنّ جسد سيروليان نفسه ارتجف بدوره.
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 9"