الفصل 30 :
كانَتِ المرأة بالنسبةِ للرجلِ عالَمًا كامِلًا.
عالَمًا مدهشًا، محبوبًا، جميلًا، وتمنّى أن يُدلِّله ويُحافِظ عليه. وقد أدركَ للمرّة الأولى أنّ جمعَ تلك المشاعر معًا يُسمَّى سعادة.
لكن كلّما ازداد سعادةً، امتلأ قلبُه بالقلق.
‘هذا ليس أنا. هذا لا يُشبهني. إن بقيتُ هكذا فلن أستطيع حماية أيّ شيء.’
وحين بلغ القلقُ ذروتَه، كان في ذلك اليوم بالذات.
“بول، لديّ خبرٌ سار.”
قالتْ ذلك بابتسامةٍ متلألئةٍ جميلة.
“أنا… حامل.”
في اللحظة التي سمعَ فيها تلك الكلمات، ترنّحَ الرجلُ بشكلٍ مُخزٍ.
‘طفلي.’
طفلٌ لم يرى وجهَه بعد، ولا يعرف اسمَه، وما زال في بطن أمّه… لكن شيئًا واحدًا كان واضحًا لديه.
‘إن بقيَ معي، فسيكونُ ذلك الطفلُ تعيسًا بلا شك. وتلك التعاسة ستجعلها هي أيضًا حزينة.’
عضَّ الرجلُ شفتَه بقوّة.
‘بهذا الشكل… سأخسر كلّ شيء.’
ولذلك استدار مبتعدًا، رغم أنّه أحبّها من أعماق قلبه.
وخرج صوته البارد ليلفظ كلماتٍ قاسية.
“لننفصل. لا أريدُ أن أراكِ بعد الآن.”
امتلأتْ عيناها الخضراوان الفاتحتان، الجميلتان كالنّجوم، بالدّموع… ثم تدحرجتْ قطرةٌ منها على خدّها.
وفي تلك اللحظة أدركَ أنّه لَن يستطيع نسيان ذلك الوجه ما دام حيًّا.
***
حين سمعتْ كاليما خطّتي، صفّقت فرِحة.
“رائع! سيّدتي عبقريّة! بهذه الطريقة ستبدين رائعة، وستتركين انطباعًا مميّزًا أيضًا!”
“أهاها، هذا مطمئن.”
ابتسمتُ عريضًا وأومأت برأسي على مديح كاليما. فأمسكَتْ يدي بحماس.
“هيا نعود إلى المنزل! بعد أن سمعتُ الفكرة، أريد تجربتها فورًا!”
“آه… أردتُ أن أرتاح اليوم.”
“أسرعي!”
لو كنتُ أعلم، لَأخَّرتُ الحديث للغد.
وبينما كانت كاليما تجرّني نهوضًا من المقعد، وسِرنا نحو المنزل بضع خطوات، رأيتُ من بعيد مجموعةً من الأشخاص يمتطون الخيل عبر الشارع الرئيسي.
“هاه؟ خيولٌ في هذا الوقت من الليل؟ غريب!”
فمنعُ ركوبِ الخيل ليلًا أمرٌ معروف، خشيةَ أن يُدهَس أحدٌ في الظلام.
“آه. يبدو أنها وحدة العمليات الخاصّة.”
كانت كاليما تتمتّع ببصرٍ أفضل منّي، فتعرفت مباشرةً على أن ملابسهم الداكنة ليست سوى زيّ رسمي.
“يبدو أنّ لوار ظهرَ في مكانٍ ما. أعتقد أنهم عائدون من مهمّة؛ ففي أثناء العملية لا يتجوّلون هكذا بارتخاء.”
“ماذا؟ لوار؟”
قفزَ قلبي بحماس كطفل، وكدت أركض نحوهم لولا أنّ كاليما أمسكتْ بذراعي بشدّة.
ابتسمتُ ابتسامةً مرتبكة.
“……حتى لو طلبتُ أن تُطلقي سراحي لن تفعلي، صحيح؟”
“أحسنتِ، أنتِ تعرفين ذلك. ثمّ إنّكِ إن ذهبتِ الآن فلن تجدي شيئًا. لا تتعبي نفسكِ بلا طائل.”
“إه…”
زفرتُ تنهيدةً كبيرة.
لم يكن الذهاب إلى مكان ظهور اللوار ممكنًا الآن، وهذا مؤسف… لكن بما أنّ سِيروليان غير موجود، فهذا وقتٌ مناسب لأتحدّث مع كاليما حول اللوار. فسألتُها بخفّة:
“هل يظهرُ اللوار أيضًا في المناطق المكتظّة بالناس؟”
كنت أعلم الجواب مسبقًا.
فأمّي نفسها واجهَتْ اللوار في قلب المدينة.
لكنِّي أردتُ استخدام السؤال لفتح بابٍ لمعلوماتٍ أخرى.
وقد بدأَتْ كاليما فعلًا تتحدّث بكلّ ما لن يقوله سيروليان أبدًا.
“عادةً يظهر في الأماكن المأهولة. فاللوار وحشٌ يتغذّى على البشر.”
ارتجفت كتفاها قليلًا وكأنّها استحضرت لقاءً مُخيفًا.
وذاك التعبير على وجهها الواثق عادةً، بدا عليه الانقباض قليلًا.
“لذلك فالذين يعيشون وحدهم عرضةٌ للخطر. قد يصبحون هدفًا… أو قد يصبحون حاضنين للوار دون أن يعلموا.”
استمعتُ مصدومةً، وشفاهي مغلقة بقوّة.
فابتسمت كاليما ولوّحت بيدها وكأنّها تُطمئن طفلة.
“لا تقلقي. أنا سأحميكِ جيّدًا يا سيّدتي.”
“آه…….”
ما خطر ببالي عند سماع ذلك… كان نفسي بعد وفاة أمّي، حين احتُجزتُ وحدي داخل البيت.
ماذا كنتُ وقتها؟ رأسي كان على وشك الانفجار، ومعدتي مقلوبة.
وحتى بعد أن ساعدني الأب ليوفريد، استغرق الأمر وقتًا طويلًا لأستطيع رؤية وجوه الآخرين بوضوح.
‘الآن بعد أن أفكر… كان ذلك غريبًا فعلًا. لم يكن مرضًا عاديًا. هل يعقل أنّي واجهتُ اللوار حينها؟’
ارتجفتُ.
فسألتُ بحذر:
“ما الشعور عند مواجهة اللوار؟”
“ذلك…”
وقبل أن تُكمل كاليما، دوّى صراخٌ حادّ من نهاية الشارع.
“كيااااا!”
استدرتُ فورًا نحو الصوت.
“لا بد أنه لوار!”
“لا، ليس كذلك.”
قبضتْ كاليما على ذراعي حين هممتُ بالجري.
فالتفتُّ إليها غاضبة.
“كاليما، أعلم أنّك تريدين حمايتي، لكنّ منعي من التحرّك باستمرار هو…”
هناك شيآن لا يجوز إيقافهما.
حصانٌ يعدو… وصحافيّةٌ تركض خلف سبقٍ صحفي.
نظرت إليّ كاليما بجدّية.
“إنه فعلًا ليس لوار. وطبعًا، لو كان لوار فلن أدعكِ تركضين إليه بحماسةٍ كهذه.”
“لا أصدّقكِ. إذا لم يكن لوار، فما سبب هذا الصراخ إذن؟”
“يا إلهي…”
اقتربت منّي وهمست بخفوت:
“أشعر بوجود لوار. وليس هناك أيُّ وجودٍ الآن.”
“……!”
اتّسعت عيناي. تشعر باللوار؟!
“إذًا… هل أنتِ أيضًا صيّادة لوار؟”
أسرعت كاليما تهز رأسها.
“لا، ليس هذا… ولا يمكنني قول المزيد.”
“تُثيرين فضولي فقط!”
“هناك أمورٌ لا يمكن قولها.”
وضعت يديها على خصرها مبتسمةً بخجل.
“أنا نفسي لا أعرف كل التفاصيل. لا يُسمَح بالاقتراب من اللوار إلا لعددٍ قليل من الصيّادين أثناء المهمّات. لذلك إن كنتِ حقًا فضولية… اسألي القائد.”
“سيروليان لا يُخبرني بأيّ شيء.”
برّمتُ شفتيّ.
أعرف أنّني أتدلّل كطفلة، لكن المشاعر خرجت رغمًا عني.
نفختُ خدّي قليلًا ثم تمتمتُ:
“وليس بيني وبين سيروليان أيُّ علاقةٍ من هذا النوع أصلًا.”
نحن متزوّجان فقط لأنّ كُلًّا منّا يريد شيئًا من الآخر.
علاقةُ عقد، لا علاقةُ مشاعر.
أنا التي طلبتُ العقد… وهذه العلاقة كانت ما أريده.
فلماذا أشعرُ بالمرارة؟
لقد وجدتُ الجواب سابقًا. لكنّي كنت أتجاهله.
وضعتُ وجهي بين كفّي.
‘كيف وصل الأمر إلى هذا الحد؟’
هناك مشكلةٌ واحدة.
قلبي.
‘استفيقي… عودي إلى رشدكِ.’
وبينما كنتُ أُردّد ذلك في داخلي، شعرتُ بيدٍ لطيفةٍ تمسح رأسي برفق.
رفعتُ وجهي الشاحب ونظرت إلى كاليما التي كانت تبتسم كأختٍ كبرى.
“لسنواتٍ طويلة لم يستطع أحدٌ في المملكة أن يدعو سيروليان لوك باسمه الأوّل. لا تقلقي يا سيّدتي.”
عند سماع ذلك… لم أستطع سوى تشويه ملامح وجهي بتعاسة.
***
بعدها، طُفنا أنا وكاليما جولةً إضافية في الحديقة ثم عدنا إلى المنزل.
كانت الشوارع هادئة، ولم تكن سوى مصابيح الغاز تُبعد الظلام.
‘لو كنتُ وحدي لما جرؤت على السير هنا في هذا الوقت.’
لكن وجود كاليما جعلني لا أخاف.
وعند اقترابنا من المنزل بقليل، قالت كاليما:
“انتظري هنا قليلًا. سأجول حول المنزل وأعود. ادخلي واستريحي.”
“حسنًا. الوقت تأخّر، عودي بسرعة.”
فهمتُ أنها ستنام أولًا في خيمتها في ساحة المنزل، فأومأت.
ثم عبرتُ الحديقة الصغيرة، وبحثتُ في جيبي عن المفتاح وأنا أقف أمام الباب… وهناك لاحظتُ شيئًا متأخرًا بخطوة.
كان رجلٌ بشعرٍ ذهبيٍّ لامعٍ يستند إلى الحائط.
رمشتُ بدهشة.
لم يكن هناك سوى شخصٍ واحد أعرفُه يملك شعرًا ذهبيًّا يسطع حتى في الظلام.
“سيروليان؟”
“إيديل.”
لم تكن هلاوِس، فقد أجابني.
اتسعت عيناي.
“لماذا تقف هنا؟ يا إلهي، وجهك بارد! منذ متى وأنت هكذا؟”
“هكذا؟”
وضعتُ دون وعيّ يديّ الاثنتين على خديه الباردين.
دار بصرُه قليلًا وكأنه ينظر إلى يديّ… ثم تأمّلني.
وبالرغم من فعلٍّ غريب لم يعتد عليه، كان صوته كالمعتاد باردًا.
“لم أشعر بالبرد.”
ما الذي يُخطّط له هذا الرجل؟
تنهدتُ واعتدلتُ.
“……ادخل. عليك أن تُدفّئ نفسك.”
لكن حين حاولتُ سحب يدي، أمسك سيروليان بهما فجأة.
نظرتُ إليه باستغراب، فقال بنبرةٍ مُصمَّمة:
“هذا ليس أنا.”
“ماذا؟”
“أن أكون ضعيفًا هكذا… مُرتبكًا… عاجزًا عن السيطرة… هذا ليس أنا.”
جاء فجأة ليقول هذا؟
‘هل شرب الخمر؟’
من الواضح أنه ليس سيروليان المعتاد.
أومأتُ ببطء.
“……أنا أيضًا أرى ذلك.”
سيروليان لم يكن يومًا كهذا.
هو رجلٌ ثابت، عقلاني، لا يهتز.
عند كلماتي، أظلمَت ملامحه قليلًا.
وتنهّدتُ قائلة:
“لكن… لو كان هناك ارتباكٌ في داخلك، ولو أدركتَه، فليس عليك رفضه. فهو أيضًا جزءٌ منك.”
“……”
ظلّ صامتًا بعناد.
فأشفقتُ عليه، وربّتُّ على كتفه وسألتُ:
“هل ضايقتْكِ الدوقة؟ أم أنّ صيد اللوار أتعبك؟”
“لا هذا ولا ذاك.”
رفع رأسه وأخذ يُحدّق بي.
كانَت عيناه الياقوتيّتان تلمعان في الظلام كالجواهر.
وقال بصوتٍ هادئ:
“فقط… اشتقتُ إليكِ. لذلك جئت.”
وفي تلك اللحظة دقّ شيءٌ ما…
كأنه طَبلٌ يرتجّ.
وكان الصوت… من داخلي.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
《 قناة التيلجرام مثبتة في التعليقات 》
حسابي ✿ 《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 30"