“إيه، لَعَلَّكِ خُدِعتِ طوال حياتِك؟ أقول لكِ إنّه حقيقي. من بين كلّ الحالات الّتي رأيتُ فيها السيّد، فهذه أكثر مرّة بدا فيها ناعِمًا… ومنتفشًا في الوقت نفسه، فما الّذي تقولينه؟”
“ما هذا الكلام الّذي لا معنى له؟”
إن كان ناعمًا فليكن ناعمًا فقط، فما علاقة الِانتفاش بالأمر؟ ثمّ إنّ سيروليان رجل نادرٌ للغاية في إظهار عواطفه، فبأيّ معيار تقول إنّه واقعٌ في الحبّ رأسًا على عقب؟ أنا أعرف أنّ سيروليان أصلًا ليس من النوع الّذي قد يقع لـ شخصٍ ما!
وضعت كاليما كلتا يديها على الغطاء استعدادًا لفتحه وهي تُضيّق عينيها.
“مريب، أليس كذلك؟”
“مريبٌ جدًّا.”
“حسنًا، سأفتحه أنا أولًا.”
رفعت كاليما الغطاء، فأنا خطرت في بالي صورة الصندوق وهو ينفجر بوجهينا، أو ظهور قفّازٍ أحمر يطير من داخله.
لكنّ ما كان في الصندوق لم يكن سوى فستانٍ عادي.
‘أوه، إنّه يبدو فعلاً عريقًا.’
الفستان كان من طراز “بَل لايْن” واسع، مزدانٍ بزهورٍ كبيرة، وبصدرٍ مفتوحٍ على نحوٍ واسع. كان من موضة الأجيال السابقة، لكنّه بدا أنيقًا وعريقًا لدرجةٍ لا تجعله غريبًا حتّى لو لُبِس اليوم.
‘كما توقّعت، فستانٌ من القصر الإمبراطوري!’
كان جميلًا للغاية لدرجة أنّه لا يبدو شيئًا مُعدًّا للإيقاع بي أو السخرية منّي. وبعد أن فحصته كاليما بحرص، هزّت كتفيها.
“لا مشكلة ظاهرة فيه. لا توجد إبر مخبّأة أو شيء من هذا القبيل.”
“أوه…”
إبر؟ لم أفكّر في ذلك أصلًا.
‘هل عليّ أن أعيش قلِقة من مثل هذه الأمور أيضًا؟!’
لكنّ الأمر ممكن جدًّا في الواقع. ابتسمت كاليما وقالت:
“إذًا، هل نجرّبه؟”
وبما أنّه فستانٌ سأرتديه في حفل الزفاف، فلا بدّ من التجربة. أدخلتُ ذراعي في الأكمام.
لم يكن الفستان سيّئًا. بل في الحقيقة كان جميلاً… لكن…
ما إن خرجتُ بالفستان حتّى تجعّد وجه كاليما كأنّه حبّة كوسة مَسلوقة.
“…قالوا إنّ عليكِ ارتداء هذا تحديدًا؟”
“نعم.”
ازداد وجه كاليما كآبة.
“هذه… هذه سُخرية متقنة.”
“سعدتُ لأنّها ليست مجرّد خيالاتٍ في رأسي.”
حين ارتديتُ الفستان ونظرتُ إلى المرآة للمرّة الأولى ظننتُ أنّه شكلٌ من أشكال التّنمر الجديد.
ومع إدراكي أنّه تنمّر، فقد شعرتُ بالارتباك أيضًا. إذ كيف يسعهم إيذاء أحدٍ بهذه الدرجة من العناية والجهد؟!
الفستان كان يُذكّر بجنيّةِ زهور مرحة. المشكلة أنّه لم يُشبهني على الإطلاق.
كان واسعًا على صدري الضعيف، وبتصميمٍ يكشف كامل الذراعين وفوقهما زهورٌ كثيرة تجعل كتفيّ يبدوان أعرض بلا نهاية.
لكنّ أكبر كارثة كانت في الطول.
“الطول الغريب يجعله… كأنّه ناقص.”
“لأنّكِ طويلة يا سيّدتي.”
يبدو أنّ بارينين كانت أقصر منّي بأكثر من عشرة سنتيمترات. فالفستان الّذي كان يجب أن يغطي القدمين بالكامل، أصبح بالكاد يلامس كاحليّ.
قالت كاليما وهي تضع يدها تحت ذقنها:
“كيف وجدوا فستانًا بهذا السوء عليكِ؟ هذه موهبةٌ بحدّ ذاتها.”
“حقًّا.”
ابتسمتُ بخفوت، فلم يكن لديّ ردّ أفضل.
نظرتُ إلى الفستان مجددًا وزفرتُ تنهيدة عميقة.
ثمّ خلعته بقوّة، وارتديت ملابسي العادية من جديد وأنا أقول:
“مهما فعلنا اليوم لن نجد حلًا، فلنأكل شيئًا لذيذًا ونرتح. أشتهي كريمة الشاي في مقهى الحيّ.”
“فكرة ممتازة!”
فالسكر دواءٌ لكلّ مشكلة. تابعتني كاليما مسرعة.
***
المقهى الّذي نرتاده عادة صغيرٌ وقديم، لكنّه ما يزال يحتفظ بطعمه اللذيذ. بعد أن أنهينا الشاي والصّكون الساخن، جلسنا في الحديقة القريبة. كانت الحمائم الكسولة الّتي لم تنَم بعد تقترب من أقدامنا.
قالت كاليما وهي تنظر بدهشة إلى الحمامة قربها:
“المنطقة هادئة جدًّا.”
“أجل، أليس كذلك؟”
هذه هي البلدة الّتي وُلدتُ فيها ونشأت ولم أغادرها يومًا.
حدّقتُ إلى الطريق المتّصل بالحديقة وقلتُ بشيءٍ من الشوق.
“حين كانت أمّي على قيد الحياة، كنتُ أرى هذا المنظر مملًا قليلًا. كلّ صباح أحد، كنّا نأكل الفطور المتأخّر في ذاك المقهى، ثم نجلس على المقعد ونرمي الخبز للحمام.”
“كانت أمًّا طيّبة.”
“نعم.”
هززتُ رأسي بقوة. أمّي كانت إنسانةً رائعة. لطيفةُ الطبع، جميلةُ الملامح، وكان الخطّاب لا ينقطعون عنها.
حين كنتُ أتذكّرها بصمت، نظرت إليّ كاليما وهمست:
“والطفلة الّتي تربّت على يد أمٍّ صالحة… تتمكّن من أسرِ قلب سيروليان لوك…”
“آه! ليس كذلك!”
لماذا تعودين إلى سيروليان لوك الآن بالذات؟! صرختُ وأنا أسدّ أذنيّ، لكن كاليما رفعت حاجبها وبدأت تُلقي عليّ محاضرةً بنبرةٍ صارمة:
“كيف لعروسٍ ستتزوّج قريبًا أن تتلوّن هكذا حين يُذكر زوجها؟ هذا لا يليق أبدًا بالكاتبة إيديل أزيان، الّتي كتبت مقالاتٍ جريئة عن العلاقات الزوجية.”
“أوه، بدا كلامكِ الآن وكأنّه صوت رئيس التحرير نفسه.”
مع أنّ ذلك المقال لم أكن لأكتبه لو لم يُردّد رئيس التحرير يوميًّا: اكتبيه، اكتبيه!
أمالت كاليما رأسها.
“ومع ذلك، رغم نفوركِ هذا، تمكّنتِ من أن تصبحي صحفيّة في قسم الفضائح… بل مشهورةً أيضًا.”
“لا أظنّ أنّي مشهورةٌ لهذا الحد.”
“بل أنتِ كذلك. هناك أشخاصٌ يشتركون في صحيفة <نيوكاسل تايمز> فقط لأجل مقالات إيديل أزيان.”
“شكرًا لكِ يا قارئتي العزيزة.”
أومأتُ لها ممتنّة لأنّها قارئتي.
“يقولون إنّ الهواية تختلف عن العمل، لكنّني تلقيتُ تدريبًا جيدًا بفضل أمّي. كانت تُحدّثني كثيرًا عن أبي.”
“أكان والدُكِ من النوع المناسب لأخبار الفضائح؟”
“للأسف نعم.”
حككتُ خدّي بخجل. باختصار…
“ذاك الّذي قال لأمّي إنّه يريد الانفصال عندما أخبرته بأنّها حامل؟”
“يا إلهي…”
“ثمّ عندما سألته إن كان لا يريد الاحتفاظ بنا أصلًا، قال إنّه لا يريد ذلك بتاتًا.”
هذا كان أبي.
أطلقت كاليما شهقةً مذهولة.
“حقًّا نموذجٌ يُكتب عنه في مقالات العلاقات الزوجية.”
وهذا كان رأيي أيضًا. أومأتُ وأنا أضيف:
“لذا، قالت أمّي إنّه من الأفضل ألّا يكبر طفلها مع أبٍ كهذا، وانفصلت عنه.”
“يا لها من قصّة…”
مع أنّي أرويها ببساطة، إلّا أنّها ثقيلة. هززتُ كتفيّ.
“ومع ذلك، ما يزال الفضول يراودني. أتساءل كيف كان أبي حقًّا. ربّما يكون قريبًا مني الآن دون أن أعرف.”
لم تُخبرني أمّي باسمه، ولا شكله، ولا أيّ شيء يسمح لي بمعرفته. لدرجة أنّه لو كان جارنا لما تعرفتُ عليه.
بعد لحظاتٍ من الشرود، ابتسمتُ مجددًا.
“لو كان أبي موجودًا، ما كنتُ لأستطيع عقد زواجٍ مع سيروليان أصلًا. وعلى هذا، فمشكلتي الآن هي: ماذا سأفعل بالفستان الجميل الغالي الّذي لا يليق بي مطلقًا؟”
“آه، عدنا للواقع…”
غطّت كاليما وجهها براحتَيها، ثم ضحكت بخفة.
“بصراحة، كنتُ مُتردّدة. هل يا ترى ستُحاول دوقة لوك فعل أيّ شيء لمنع زواج السيّد؟”
“أتفهّم شعوركِ.”
فالصورة العامّة لبارينين كانت مثالية. ولو لم أتورّط في ذلك الموقف، لما عرفت حقيقتها أبدًا.
قالت كاليما وهي تفرك ذقنها بجدية:
“لكنّني تأكّدت من ذلك الآن بسبب الفستان. خصمُكِ ليس امرأةً عاديّة… بل شريرةٌ حقيقيّة.”
الفستان كان بالفعل سيئًا عليّ لدرجةٍ تصدم أيّ شخص. ثمّ إنّه فستان من القصر الإمبراطوري، فلا مجال لرفضه.
‘ظننتُ حين جاءت إلى محلّ الأزياء أنّها مستعجلة فقط، لكنّ الآن يبدو أنّ كلّ شيء محسوب. لقد تحدّثت عمدًا أمام الجميع لتجعلني عاجزةً عن الرفض.’
شعرتُ بدوار. مسحتُ وجهي بتوتّر.
“الوضع مُحرج، ولا أستطيع نشر شيءٍ عنه. أشعر أنّني دائمًا الطرف الّذي يُفاجَأ أولًا. ولا أعرف ما الّذي ستفعله بارينين يوم الزفاف.”
“أفضل شيء هو أن أظلّ ملتصقةً بكِ أربعًا وعشرين ساعة.”
لكنّ كاليما تنهدت.
“هذا صعب. فعند دخول قصر لوك عليّ أن أتنكّر.”
“ها؟ لماذا؟ كاليما، هل أنتِ… هاربة؟”
هل هي مجرمةٌ مطلوبة؟ سألتُها مذعورة، فقهقهت.
“لا يا سيّدتي. قلتُ لكِ إنّي مرتزقةٌ فقط. لكنّي كنتُ مشهورة جدًّا خلال فترة عملي كفارس. قد يتعرّف عليّ أحد.”
“لأنّكِ قويةُ المهارة…؟”
“لا. لأنّي… رأسُ حربةٍ مُشاغبة.”
“….”
إذًا مشهورة كمُشاكِسة. يبدو الأمر منطقيًّا جدًّا.
تنهدت كاليما مجددًا:
“ولو كان الفستان طويلًا لقصصناه بسهولة، لكنّه قصير، ويجب إطالة الفساتين بإضافة قماشٍ آخر، وهذا مهما كان الصانع ماهرًا فسيظهر أثره. حقًّا نيّة سيّئة للغاية.”
التعليقات لهذا الفصل " 29"