كان الأشخاص القريبون من جمعية إليونورا قد بدوا متوترين على الفور.
“يا إلهي الجلالة الملك.”
مَن كسرت الأجواء المتصلّبة كانت إيزابيلا. إذ نادت الملك بهذا الشكل وهي تربّت بخفةٍ على الذراع التي كانت تمسك بها. وقد بدت في أطراف أصابعها دلالٌ يقطر قطرًا، ليس بالأمر العادي.
“في يومٍ جميلٍّ كهذا، ما الذي تقوله يا جلالة الملك؟ إيزابيلا ممتنّةٌ حقًا لجلالة ملك إيفانيس العظيم. حتى لو كان الأمر مزاحًا، فإنّ قولك هذا يُحرجني، فلا تفعل ذلك رجاءً.”
ثمّ أدارت رأسها نحو كلوي لتبتسم لها ابتسامةً فاتنة.
“أين هو الدوق الاكبر؟ أودّ حقًا أن أقدّم له تحيّتي.”
‘نعم. توقّعتُ أنّكِ ستفعلين ذلك، ذهب لمكان آخر.’
أجابت كلوي بابتسامة.
“سيعود قريبًا. لقد ذهب ليتبادل أطراف الحديث مع اللورد أوسلو، سفير غلينترلاند.”
“أفهم. كنتُ أتمنّى أن أراكما معًا في مكانٍّ واحد، لأنكما تبدوان منسجمَين للغاية…”
أمالت إيزابيلا رأسها قليلاً في حركة دلال. وبينما كانت كلوي تنظر إليها، راودها حقًا شعور بأنها امرأة في غاية الجمال.
وبينما راحت كلوي تتأمّل وجهها من غير قصد، خطرت ببالها فكرة: ‘لو أنّ الدوق كيرتيس عاد ورأى هذا الوجه، هل سيقول لي: “لا بُدّ أن نُبطل هذا الزواج”؟’
“أظنّ أنّكِ قد رأيتِه بالفعل في حفل الزفاف.”
لكن، بغضّ النظر عن ذلك، أجابت كلوي بهذا الشكل. فابتسمت إيزابيلا ابتسامةً عريضة.
“طبعًا. لقد كان حقًا زفافًا رائعًا!”
‘يا لها من كذبةٍ تُقال من دون أن يبتلّ فمها.’
لكن مهما يكن، فقد ألقت إيزابيلا التحية أيضًا على أفراد الحراسة الواقفين خلفها. وكانت من بينهم ثيودورا.
“يُقال إنّ السيدة تورنيا ساهمتِ كثيرًا في هذا الحفل أيضًا، صحيح؟ شكرًا لكِ، من أجلي…”
قبل الحفل، كانت ثيودورا قد اعتذرت قائلة: “إنني في نوبة الحراسة.” والآن، ها هي ترتدي زيّها العسكري. رفعت نظارتها وأجابت بجفافٍ على إطراء إيزابيلا:
“لقد كان ذلك من أجل مجد إيفانيس. أشكركِ.”
“أما أنا فكان من أجل الدوقة غلينترلاند!”
في تلك اللحظة، قاطعهم صوتٌ فجائي. فالتفتت الأنظار كلّها نحو الجانب. لقد كانت لورا.
ومع أنّ وجود الملك في المكان يجعل مقاطعة الحديث بهذا الشكل أمرًا في غاية الوقاحة، إلا أنّ لورا لم تأبه وشاركت الحديث بمرح:
“أنا لورا لو غوتيا! لقد اخترتُ أدوات الطعام التي تليق بهيئة الدوقة النبيلة! بل إنّ ستائر قاعة الحفل، وحتى السجادة التي تقفون عليها الآن، كلّها من اختياري!”
لقد كان مبالغةً كبيرة. بعض الفتيات الشابّات القريبات عضضن شفاههنّ. بدا وكأنّهنّ يوددن الاعتراض: “أأنتِ من فعل كلّ هذا حقًا؟” لكن إن قُلن ذلك أمام الملك، لاعتُبر سلوكًا مشينًا. لذا صمت الجميع.
وحدها إيزابيلا كانت تبتسم بوجهٍ مشرق.
“يا للعجب، رائع.”
ازدادت ملامح لورا إشراقًا، وكادت تواصل الحديث، لولا أنّ إيزابيلا صارت تنظر خلفها مباشرة ًوقالت مؤكّدة:
“تبدو وسيمًا أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، يا صاحب السموّ الدوق بيرك.”
فتوجّهت الأنظار كلّها إلى خلف لورا. وعندما التفتت هي نفسها، احمرّ وجهها بشدّة وتراجعت خطوةً إلى الوراء. لقد عاد كيرتيس شان بيرك الذي كان قد ذهب للحديث مع سفير غلينترلاند. وما زال وجهه باردًا جامدًا.
“دوقة غلينترلاند. إنكِ تخاطبيني كما لو كنّا نعرف بعضنا من قبل. لكنني ألتقي بكِ اليوم للمرّة الأولى.”
عادةً ما يتراجع المرء عند تلقّي كلامٍ بهذا الحدّ. لكن إيزابيلا كانت خصمًا عنيدًا.
“أوه، طبعًا. لكن…”
غطّت وجهها بالمروحة، وكأنها لا تطيق كتمان الأمر أكثر، وقالت:
“هل تعلم؟ إنّ صورة الدوق بيرك شديدة الرواج حتى في غلينترلاند.”
“بالضبط. كلّ فتاةٍ شابّة لا بدّ أن تحتفظ بصورةٍ مقصوصة من الصحف للدوق بيرك.”
“وماذا عن الدوقة غلينترلاند؟”
سأل الملك وكأنّ الأمر استثار فضوله. فأمالت إيزابيلا وجنتيها بحمرة، ورفعت يديها لتغطّي وجهها بخجلٍّ مصطنع.
“أما أنا، فقد كنتُ في الأصل صاحبة الشأن في أحاديث الزواج…”
وكان معنى كلامها: ما دامت هناك لوحاتٌ وصور صحفية، فما الفرق؟ ثمّ رمقت كيرتيس بنظراتٍ رطبة متألّقة، وكأنها حقًا مولعةٌ به.
لأيّ شخصٍ لا يعرف الحقيقة، كانت إيزابيلا لا غلينترلاند تبدو وكأنها قد وقعت في حبّ الدوق كيرتيس بيرك.
“إذن، لا بُدّ أن يلتقي بطل اليوم بالدوقة ولو مرّة واحدة!”
صرخ الملك أخيرًا.
‘ما الذي يقوله هذا؟’
نظر كيرتيس إلى الملك بعينين حادّتين، لكن الملك، وكأنه رجلٌ ودود، ربّت على كتفه وقال بصوتٍ عالٍ:
“ماذا نفعل إذن؟ أتنازل أنا عن رقصتي للدوق مع دوقة غلينترلاند!”
“حتى لو غضضنا الطرف عن كون جلالتك لست في موقع للتنازل، فما زلتُ لم أرقص بعدُ حتى مع زوجتي.”
ردّ كيرتيس على الفور.
فالعادة بين الأزواج في مثل هذه الحفلات، أن يبدؤوا أولاً بالرقص مع زوجاتهم. لكن كيرتيس شان بيرك لم يرقص مع كلوي حتى الآن.
-‘ألن ترقص؟’
-‘أتودّين الرقص معي؟’
-‘لا، لكن إن رقصتَ معي، يمكنكَ الرقص مع الأخريات بعدها.’
قالت كلوي مستنكرةً، فأجابها كيرتيس ببرود:
-‘لهذا السبب لن أرقص.’
بمعنى آخر، إن رقص مع كلوي أولاً، فسيتوجّب عليه مجاملة الفتيات الأخريات بالرقص أيضًا. لذلك تعمّد ألّا يبدأ أصلاً.
-‘إذًا، لماذا ألبستني هذا الفستان المرهق الطويل؟ ولماذا تدربنا على الرقص معًا؟’
أرادت كلوي الاحتجاج، لكن بما أنّها كانت في الحفل فقد أجّلت الأمر. ومع ذلك، لم تستطع إلا أن تهمس ساخرة:
-‘وهكذا، متى ستعشق ومتى ستتزوّج ثانيةً؟’
حين همست بهذا، رمقها بنظرةٍ مرعبة. فاكتفت كلوي بشتمه في سرّها.
-‘ألَم أخبرك؟ لا تحلم بعلاقة حب. دوق بيرك يقع في الغرام؟ أصلاً، كان شرط “عدم التدخّل في شؤونه” أمرًا غير منطقي. التدخّل يفترض أن تكون هناك علاقة ليُتدخّل فيها!’
لكن، سواء فكّرت هي أم لا، فقد أطلق الملك ضحكةً ساخرةً أمامهما.
“الدوق لا يحبّ زوجته بلا شك!”
‘اكتشفتَ هذا الآن فقط؟’
لكنها كبحت نفسها عن قولها جهارًا، فيما سأل كيرتيس ببرود:
“ما الذي تعنيه جلالتك؟”
“أليس هذا الحفل هو نفسه أشبه بحفل الظهور الأول للدوقة التي أعدّته بنفسها؟”
‘حفل الظهور الأوّل؟ أهو ذاك الذي تحضره الصغيرات ذوات الاثنتي عشرة سنة وهنّ يضعن الشرائط في شعرهنّ ويأتين ممسكاتٍ بأيدي أمّهاتهنّ ليفتخرن بأنهنّ يمشين بخطى متزنة؟’
فكّرت كلوي في نفسها، فقد كان هذا ثاني حفل في حياتها. والأوّل كان حين أصبحت فجأةً “حبيبة” كيرتيس. فتذكّرت ذلك وأحسّت بالاشمئزاز.
‘أظنّ أنني سأكره كلّ ما يُسمّى حفلاً من الآن فصاعدًا…’
مع ذلك، لم يكن التشبيه بعيدًا كلّ البعد عن الواقع. إذ لم يسبق لكلوي أن ظهرت في المجتمع، وهذا الحفل كان في الواقع أوّل ظهورٍ لها كـ “الدوقة بيرك”.
لذلك، ومنذ بداية الحفل وحتى الآن، لم تكفّ عن التجوّل بين الضيوف لتبادل التحايا، حتى خُيّل إليها أنها ستفنى وهي تكرّر الانحناءات.
لكنها كانت متأكّدةً من شيءٍ واحد: أنّ كيرتيس لن يرقص أبدًا.
فالغاية من هذا الحفل واضحة. الملك يريد أن يُذلّ كلوي. وبالعكس، فلن ينتهي الحفل إلا بعد أن تتعرّض هي للإهانة.
“إن تجاهل الدوقُ دوقةَ غلينترلاند في هذا الحفل، فسيُعتبر حفل الدوقة فاشلاً أيضًا، أليس كذلك؟”
‘أحقًّا؟’
بدأت كلوي تشعر أنّ حياتها كنصف نبيلة كانت أسهل بكثير. فما الذي سيحدث لو لم يرقص؟ لن تختفي الأواني الفضية أو الضيوف فجأة!
ثمّ لتنظر إلى الدوق بيرك هذا! ذلك الوجه المتبرّم، كأنه يقول: “فلتفشلي كما تشائين، أمّا أنا فلستُ معنيًّة بكِ ولا بالملك.”
“كلوي.”
رمشت كلوي بعينيها. وإذا بكيرتيس شان بيرك يتنهّد ويمرّر أصابعه في شعره، ثمّ يمدّ يده نحوها.
“ما رأيكِ؟”
‘ما رأيي؟ إنّه أمرٌ يثير العجب!’
لكن بالطبع لم تستطع قول ذلك. وبعد لحظة تفكير، لم يكن الجواب إلا واحدًا.
التعليقات لهذا الفصل " 78"