الذكرى الثامنة والعشرون لإقامة العلاقات الدبلوماسيّة مع غلينترلاند.
في الحقيقة، لولا الملكة ميلدريد، لَما كان لغلينترلاند وجودٌ يُذكر لدى شعب إيفانيس، فهي دولةٌ صغيرة ضعيفة. فقيرة، وأراضيها وإن كانت واسعةً، إلّا أنّها ليست ذات فائدةٍ تُذكر.
ولشدة ضُعفِها، فقد بدأت علاقاتها الدبلوماسيّة مع إيفانيس أصلًا بزواج الملكة ميلدريد. حتى الذين لا يعرفون شيئًا عن السياسة يُدركون أنّ غلينترلاند ليست دولةً مفيدة لإيفانيس.
لكن رغم ذلك، حضر الكثير من الناس إلى حفلة اليوم. فلم يكن هناك أحدٌ يجهل أنّ الملك أجبر الدوقة على إعداد هذه الحفلة خصيصًا لإذلالها.
“إنها جميلةٌ حقًا!”
“حفلةٌ صيفيّة… كم هي رومانسيّة.”
غير أنّ عيون الضيوف الذين تكلّموا هكذا كانت تتلألأ ببريقٍ من الفضول الدنيء. ففي مجتمع العاصمة، يكاد يكون ذكر الدوق وزوجته موضوعًا يضمن التسلية دومًا.
بعد الزواج مباشرة، لم يدعُ أحدٌ الزوجين الدوقيين. وفيما كان الجميع يثرثرون بأنَّ حبهما محض كذبة، انتشرت شائعةٌ بأنّهما شوهدَا يمسكان بأيدي بعضهما ويتعانقان في حديقة القصر الملكي. بل وقيل إنّ للدوقة رجلًا كانت على علاقةٍ به قبل الزواج، وأنّ سيّدة ذلك البيت أُغمي عليها من الصدمة.
“سمعتُ أن جلالته أرسل السيدة برونغ، رئيسة شؤون القصر، إلى الدوقة؟”
“يا إلهي، تلك السيدة المهيبة… ما هذا الحظ الذي نزل على الدوقة؟”
“حظٌ؟ أم لعنة؟”
انتشر ضحكٌ خافت. أما موظفو القصر، فكانوا يتجاهلون كل من يسأل عن مزاج السيدة برونغ هذه الأيام. ومع ذلك، كان بعض الناس مقتنعين أنّها بالفعل أذلّت الدوقة سرًّا، لذا التزم الجميع الصمت.
“لكنني أشعر ببعض الخيبة.”
“لماذا؟”
“لأن الحفلة مُعدّةٌ بشكلٍ لا بأس به. آه، هل كان عليَّ ألّا أقول إنني أشعرُ بالخيبة؟”
قهقهاتٌ رنّت في الجو، وكأنّ الكلمات التي تبادلوها كانت سكاكين.
“إنّه بفضل سيدات جمعية إليونورا. فحتى إن جلالته قال ما قال، إلا أنّه رحيم حقًا.”
“بمعنى آخر، لا يريد أن يجعلها فضيحةً مدوّية أكثر من اللازم.”
لكن لم يكن بين الحاضرين من يصدّق أنّ الملك تصرّف بدافع الرحمة. فالكل يعرف أنّه لا يملك مثل هذه الخصال. إنهم فقط يتسلّون بالحديث هكذا.
“انظروا… ها هما.”
أشار أحدهم بذقنه نحو مدخل قاعة الحفل المتصل بالحديقة. فاتّجهت الأنظار إلى هناك، حيث كان الدوق بيرك وزوجته يدخلان من الحديقة.
“كيف حالك يا دوق.”
“لم أتوقّع أن أراك هنا، يا صاحب السمو!”
كان الدوق يتلقى التحايا ويرد عليها ببرودٍ روتيني، لكن يده التي ترافق الدوقة كانت أكثر رفقًا مِمّا يوحي به وجهه المتعب. فلا شك أنّه ليس أحمقًا إلى درجة أن يبعدها عن جانبه في أوّل ظهورٍ رسمي بعد زواجهما، كما فعل قديمًا مع إحدى الفتيات.
“تشرفنا برؤيتكِ يا دوقة. كنتُ أتمنّى منذ حفل الزفاف أن أحييكِ.”
“إنكِ رائعة الجمال الليلة!”
كانت الدوقة ترتدي ثوبًا عصريًّا بديعًا. في الحقيقة، كل من رأوها أحسّوا بالشفقة بعض الشيء.
إنها، أيّ كلوي لو دافيد بيرك، لو شوهدت منفردةً لبدت فاتنةً بكل معنى الكلمة. والنساء اللواتي يفقهن في الأناقة أدركن ذلك من فورهن.
طولها البارز، وملامحها الواضحة، وعظام الترقوة البارزة، والكتف المستقيم… كل ما فيها عناصرٌ تبعثُ على الإعجاب.
لكنها وقفت بجوار الدوق بيرك. وبجانب وجههٌ المتألّق، لا يمكن لأيِّ امرأةٍ مهما بلغت من الجمال أن تُوصَف بأكثر من “لا بأس بها.”
‘لعل هذا سبب ارتدائها للزي العسكري يوم الزفاف…’
ظلّ الناس يرمقونهما بطرف أعينهم، لكنهم كانوا يدركون أنّ الثرثرة ستتوقف حين يحضر الملك.
“ما رأيكَ؟”
وسط الجموع، همست الدوقة، أيِّ كلوي، إلى زوجها. فأجاب كيرتيس ببرود:
“أشعرُ بالجوع.”
“… هناك الكثير من الطعام هنا.”
“كنتُ أعنيكِ أنتِ.”
فتحمرّ وجهها خجلًا. فقد كانت تحمل في يدها كأسًا صغيرًا من النبيذ والفواكه المخلّلة على شوكة صغيرة، كانت قد التقطتها عند دخولهم من الحديقة. كانت مجرد وجبةٍ خفيفة، لكنها أكلت منها خمس مراتٍ وهي تتظاهر بأنها تراجع تفاصيل الحفل.
“لم أتناول شيئًا منذ الصباح.”
“أرى ذلك. لكنكِ تأكلين كثيرًا بحجّة التجربة لمعرفة ما إذا كان الطعام يليق بالحفل.”
“ليس من واجب الدوقة أن تحرم نفسها مِن الطعام.”
كان ذلك شعورها الصادق. رفع كيرتيس حاجبه بصمت، فلوّحت هي بالشوكة الصغيرة أمامه كما لو كانت تحتج.
“حين سألتُكَ عن الحفل، كنتُ أتوقّع جوابًا أذكى من نظرةٍ فارغة.”
ضيّق كيرتيس عينيه.
“لن أنكر أنّني تزوّجت آملًا بالراحة، لكن لم أتخيّل أن تتبخّر تلك الآمال بهذه الطريقة.”
“وبأيِّ طريقة؟”
“بات عملي أكثر، بينما أنتِ تتخطّين وجباتكِ باستمرار.”
كحّ أحد الحاضرين خفية إذ سمع الحوار، لكن كلوي لم تكترث. بل التفتت وقالت بصوتٍ مرتفع ليسمع الجميع:
“أيها السادة، تعلمون أنّ الدوق يُرهقني بالعمل، أليس كذلك؟ لقد شاع الخبر على ما يبدو.”
“هاها، أجل، بما أنّ جلالته تطرّق لذلك، فقد انتهى التقرير إلى الصحف.”
وأثناء تركيز الأنظار عليهم، ردّت إحدى سيدات جمعية إليونورا بخجل:
“صحيح، لكن على الأقلّ الطعام في الحرس الملكي دائمًا مضمون. أما كدوقة، فلا وقت لديّ حتى للطعام! أليس هذا ظلمًا؟”
فانفجر الناس بالضحك. ابتسمت كلوي بأناقةٍ وانحنت قليلًا.
“لولا سيدات جمعية إليونورا الأعزّاء، لكانت هذه الحفلة كارثة حقًا. إنني ممتنّة، بل أعتبر هذا بركة من الحاكم العظيم وصانع كل شيء، ومن التنين العظيم إيفانيس.”
كان خطابها بالغ البراعة. إذ أظهرت مكانتها دون أن تذكّر بأصلها المتواضع، وقدّمت شكرًا رقيقًا. ورغم أنّه ليس من المعتاد أن يوجّه المضيف شكره قبل انتهاء الحفل، فقد بدا مقبولًا كونها أول حفلةٍ لها.
“لا شكر على واجب.”
“بل نحن السعيداتٌ بالتقرّب من جلالتكِ أكثر.”
وبين تبادل التحايا، تقدّم بعض المدعوّين لتحية الدوقة.
“نشكر لكِ دعوتنا المشرفة.”
وكان بين الوجوه المألوفة السيدة باسيلور وأختها كاميّو. ابتسمت السيدة باسيلور ابتسامةً عريضة وأثنت بحرارةٍ على العقد الذي تضعه كلوي.
“إنها المورغانايت التي ابتعتها ذاك اليوم! يا لها من لون عميق. إنّها تشبه لون عينيكِ! لم أُخطئ في ذوقي أبدًا، إنكِ رائعة.”
“آه…”
“هذا النوع النادر من المورغانايت نادرٌ للغاية. حتى أفراد العائلات الملكيّة الأجنبية رغبوا فيه لكن لم يتمكّنوا من شرائه لارتفاع ثمنه. إنّ الدوق يملك حقًا جرأةً عظيمة!”
تملّقها الصاخب جعل الآخرين يقتربون واحدًا تلو الآخر ليشاركوا بالتحية. كان ذلك جميلًا من جهة، لكنه جعل كلوي تكاد تفقد السيطرة على ابتسامتها من شدّة الإحراج.
“لم أُرِد توبيخكِ لأنكِ أكلتِ كثيرًا.”
قال كيرتيس بخفوت بينما كانت الدوقة تتبادل التحايا. أجابته وهي تمضغ بلا مبالاة:
“كنتُ أوبّخكَ أنت.”
وقبل أن يرد، فُتحت أبواب المنصّة العليا للقاعة. لقد دخل الملك.
التعليقات لهذا الفصل " 76"