كان كيرتيس يعلم في قرارة نفسه أنّه كلّما تورّط مع هذه المرأة، بدأ يتصرّف على نحوٍ مغاير تمامًا لما اعتاده سابقًا.
اندفاع لا يعرف من أين جاء، كان يدفعه للحركة، للنهوض، وللانقياد إلى اتجاهٍ آخر.
ولم يكن يعرف كيف يقاوم ذلك. فكيف يقاوم الإنسان أمرًا يختبره لأوّل مرّة؟ التجربة هكذا؛ لا تُنال إلا بالمرور والزمن.
لقد كان قائدًا بارعًا، لكنّه لم يكن كذلك منذ البداية. إنّما الخبرة هي التي صنعت منه ما هو عليه، ولهذا كان يدرك بالفطرة أنّه إذا فرّ الآن فسيبقى عاجزًا عن تعلّم طريقة المقاومة إلى الأبد.
لذلك قال لنفسه: فلأتعوّد إذن. إن جعلت هذا الشعور الغريب مألوف، فربما يخفّ الأمر….
…أم لا؟
ربّما بسبب عبقٍ باغته فجأة، أو لسببٍ آخر، إذ وجد كيرتيس نفسه شارِدًا كالأبله.
كلمات كلوي المتدفّقة بين ذراعيه لم تدخل أذنه بوضوح.
وكان من العسير للغاية أن يجيبها متصنّعًا السكينة بينما يلتقط كلّ نفسٍ منها.
كلّما تحرّكت بين ذراعيه، انتشر عبيرها في الهواء.
روائحٌ مألوفة؛ فهي تعيش في قصره بطبيعة الحال.
كان كيرتيس يظنّ أنّه قادرٌ اليوم على أن يخمّن أيّ صابون استعملت صباحًا، وبماذا غسلت يديها، وأيّ ماءٍ عطري مسّت به وجنتيها.
‘اللعنة.’
ضحك بدهشةٍ لم يستطع كبحها.
حين خطّط لذلك الزواج السياسي، كان يتوقّع عددًا من المآسي. لم يكن بحاجةٍ إلى جشع أخيه الكبير ليعرف أنّ دخول أحدٍ غريب إلى مجال حياته أمرٌ بغيض.
أن يضطر لمشاركة المكان مع امرأةٍ يجهلها، وأن يلامسها أحيانًا لمجرّد الظهور أمام الناس.
كان يمقت أن يجد على جسده رائحةً مشابهة لرائحة شخصٍ لم يكن له أيُّ أثرٍ في حياته من قبل.
وكان ينفر من أنّ لحظاته الخاصّة في الظلام ستُقاطع حتمًا.
كلّ ذلك كان يخنقه لمجرّد تخيّله، قبل أن يقع.
لكن لماذا الواقع مختلفٌ هكذا؟
جرّب أن يبدّل وضعيّة العناق، أن يرفعها كفارسٍ يحمي طفلةً ثرثارة، غير أنّه شعر بالخذلان.
أيُّ فارسٍ هذا الذي يرفع بين ذراعيه طفلةً صغيرة….
كان عليه أن يمقت نفسه. هكذا يقول المنطق العام.
غير أنّ ابتسامةً كانت تشقّ طريقها إلى شفتيه رغمًا عنه، كما لو أنّ إرادة أخرى تحرّكه.
هل كان الأمر لأنّها تجرؤ وتكلّمه بوقاحةٍ وتدعوه “أيّها العميد” وتضحك؟
أم لأنّها تثير سخريته؟
كان ممتنًّا على الأقلّ أنّ أحدًا لم يسأله الآن: “ما بالك؟”
فلو فعلوا، لكان كيرتيس بلا شك….
“يا صاحبة السمو الدوقة، أرجوكِ لا تتحرّكي كثيرًا، فإنّ ذلك يحرجني.”
في النهاية، اختار الرجل أن يتشبّه بما كان يزدريه دائمًا: أولئك الأراذل الذين يبرزون ابتذالهم بخفّةٍ جماعية ذكورية.
لكنّه اكتشف أنّه بدوره لا يختلف كثيرًا عنهم. لم يستطع أن ينكر ذلك، فغطّاه بالتظاهر.
ومع ذلك، لم يُخفِ الحقيقة حين وجب أن يكون صريحًا.
“مهما فكّرتِ، لن أترككِ كفريسةٍ لأخي. لو بلغ الأمر ذلك الحدّ، فالذهاب إلى غلينترلاند – كما قلتِ – أفضل.”
“…..”
“أتفهمين؟”
مثلما فعلت أمّه من قبل….
آنذاك أدرك لمَ يفعل ما يفعل.
فلعلّه لم يرد أن يكون الأسوأ من بين البشر.
ذلك الضابط البليد الذي يحمل اسم بيرك لا يعرف شيئًا عن ماضي أمّه، ولن يكون الأمر إلا صدفة. لكنّ شبهها بأمّه كان يثير ضيقه.
مثيرٌ للسخرية.
فليكن تفريغًا للغضب.
وإن تصرّف مثل الحيوان، فهو على الأقل يفهم السبب. لقد تعلّم من أمّه أنّ الغريزة أقرب ما تكون إلى العنف، وعاد فتيقّن من ذلك في ساحات الحرب. فما العجب إذن.
ثمّ إنّه كان لا يزال يرتدي قفّازيه. رغم قربه من كلوي، لم يلامس بشرتَها مباشرةً.
ربما هذا ما جعله يشعر ببعض الارتياح الآن.
“يسرّني أنّ العميد قد وعى أخيرًا.”
“..…”
لم يدرِ كيرتيس إن كانت تدرك ما في صدره أو لا.
لكنّها، وهي بين ذراعيه، قالت بلهجةٍ متكبّرة: “فماذا نفعل الآن؟ إنّهم ما زالوا يحدّقون.”
ذلك خفّف توتّره فجأة، فأطلق ضحكةً قصيرة.
كان يشعر بالدغدغة؛ والمفاجأة أنّه وللحظةٍ وجيزة، شاركها نفس الفكرة: من حُسن الحظ أنّها لا ترى وجهه.
لأنّ ابتسامته الحمقاء، التي لم يستطع منعها، كانت ستُظهره أبلهًا تمامًا.
بل إنّه تمنّى لو نقل وزراء المالية صورته تلك إلى الملك قائلين: “إنّه فقد عقله بالفعل.”
وفي تلك اللحظة، راوده فضول لرؤية وجهها.
أيُّملامحٍ ترسمها المرأة التي أضحكته هكذا؟
لكن حين تحرّك فجأة، شدّت ذراعيها ثم تراخت.
عيناها الورديّتان تهتزّان.
…آه.
غطّى الرجل بسرعة كلّ فكرةٍ خطرت في رأسه بالسواد.
“فماذا ترين يا جلالة الدوقة؟ أيكفي أن يجثو عميدٌ تافه مثلي على ركبتيه أمامكِ من أجل فحص الانضباط؟”
“…في حديقة وزارة المالية؟”
“نعم. سيكون خبرًا رائعًا: العميد بيرك مهووسٌ بدوقته الجديدة.”
“أجل، يبدو أنّك فقدت عقلك حقًّا….”
تمتمت المرأة متذمّرة. أما كيرتيس فابتسم بلطف.
“يُقال إنّ من يتغيّر فجأة يُثير الشك.”
“يبدو أنّ نصائح القائد فيكتور أثّرت فيكَ كثيرًا.”
“لهذا، ما رأيكِ أن نتشابك الأيادي؟”
“آه! لا أريد!”
قفزت محتجّةً، لكن دون جدوى.
سار كيرتيس بخطى واثقة وبابتسامةٍ مشرقة وهو يصرّح بصوتٍ عالٍ: “ألا يعرف الجميع أنّنا متزوّجان؟ فلِمَ الخجل إذن؟”
حاولت كلوي أن تسحب يدها، لكن قوّته غلبتها. كادت تُجرّ جَرًّا.
وعبر الممرّات، كان خدم القصر يلقون عليهم نظراتٍ جانبية.
“أتعلمين؟ أنا أبغض أمساك الأيدي أكثر من الموت.”
كذب.
“لكنّك ترتدي قفّازين!”
وصلت بها الحال أن صاحت بأعلى صوتها، لا تبالي بمن يسمع.
“يا صاحب السمو الدوق، أنت الآن زوجٌ لامرأة! أليس من واجبك الحفاظ على الوقار؟!”
“حسنًا، حين أكون مع سيّدة روحي، فآراء الناس لا قيمة لها.”
سُحبت كلوي مئة متر تقريبًا، وجهها محمرّ، فيما الناس يرمقونها بدهشةٍ أو بشفقة.
في النهاية، بدّلت خطّتها. أمسكت يده بقوّةٍ وسارت بخطواتٍ واسعة بنفسها.
ضحك خلفها ساخرًا: “يبدو أنّكِ تشاطرينني الرأي. سعادتي لا توصف.”
“مِن الآن حتى بلوغ حرس الدوق، لن تفتح فمكَ بكلمة!”
وبما أنّهما طويلان، وخطاها سريعة، وصلا إلى حرس الدوق سريعًا.
لكنّ الجميع في القصر كان لا بدّ أن يلاحظ:
أنّ الدوقة والدوق يسيران معًا، وأنّ الدوق الذي طالما بدا متجهّمًا أو ساخرًا صار يضحك بحرارة ٍوهو منقادٌ طائعًا لامرأة.
ذلك المشهد العجيب لم يكن ليستطيع أحد أن يغفل عنه.
***
بعد انقضاء تلك العاصفة، كان أوّل يوم عملٍ بعد الزواج أقلّ صعوبةً مِمّا توقّعت.
استقبلها الملازم نويل بوجهٍ مشرق، وغاصت في أكوام الأوراق كعادتها.
عملٌ لا ينتهي، متواصل ومملّ.
حتى استدعاءها من القائد الأعلى نسيته بسرعة. وظلّت منهمكةً حتى نهاية الدوام.
ولو كان يومًا عاديًا، لامتدّت ساعاتها إلى العمل الليلي.
لكن الدوق ذكّرها ساخرًا: “ألم تقولي أنتِ بنفسك ألّا أجعلكِ تعملين ليلًا؟” ثم جرّها من ياقة عنقها إلى البيت.
عادا – بطبيعة الحال – إلى قصر الدوق، لا إلى بيتها الصغير في شارع لو مارتين.
تلاشت الغرابة تدريجيًّا، فسلّمت معطفها لجوليا، وسارت معه إلى المائدة.
تناولا عشاءً شهيًّا، ثم غاصا من جديد في أعمال القصر حتى منتصف الليل.
حين تمدّدت على سريرٍ رتّبته جوليا لها، خطرت لها فكرة:
‘التغيّر في حياتي فقط هو مكان النوم، لا أكثر…؟’
رغم الأنظار الموجّهة إليها من الناس، لم تشعر بتغيّرٍ جذري في يومها.
حتى مشاركتها الفراش مع رئيسها المجنون اقتصرت على ليلةٍ أولى.
أما في حديقة وزارة المالية وما أثاراه من ضجّة، فلم يعقبه أيّ شيء.
بعد العشاء، تفرّق كلٌّ منهما إلى غرفته، بلا مفاجآت.
‘العميد التافه قال وهو يودّعني إنّه آن أوان انصرافه مع حلول الليل.’
كلمةٌ أخيرة فيها لمسة سخرية، لكنها لم تزعجها.
حتى بدا لها أنّ الأمر قابل للاحتمال ما دام يسير على هذا النحو….
لكن بالطبع لم يكن ليظلّ كذلك.
***
فالملك لم يبقَ ساكنًا.
في صباح اليوم التالي، وصلت ثالثة طلبات عزل.
كيرتيس شان بيرك رفضها بلا تردّد وهو يتهيّأ للعمل، إذ وُضعت على مكتبه.
“تضيعون ثمن الورق.”
قال ذلك وهو يختمها بختم “مرفوض”، ثم ناولها للخادم الواقِف.
تنفّس الخادم بعمق: “ليتك تراعي حالي يا صاحب السمو الدوق.”
فأجاب كيرتيس: “إن كان الملك سيعيد الكرّة، فقل له أن يستدعيني مباشرةً بدل إضاعة الورق.”
ومضى الخادم حزينًا، وقد لمحت كلوي الدموع في عينيه.
فكّرت: هل يحوي دم الملوك في إيفانيس قسوةً متوارثة ضدّ الخدم؟
لكن على أيّ حال، لم يكتفِ الملك هذه المرّة بالورق، بل استدعاه بنفسه.
“حقًا استدعاني الآن؟ إذن من هو الملك؟”
سخريته جعلت الموظفين المساكين يصرخون: “آآآآه! لم نسمع شيئًا!”
ومشى كيرتيس شان بيرك ببطء نحو قاعة العرش، تاركًا خلفه موظفين يتوسّلون للخدم: “أرجوك، قُل إنّكَ لم تسمع شيئًا!”
التعليقات لهذا الفصل " 63"