الفصل 58 :
ولكن كلوي تذكّرت سريعًا أنّ فيكتور الدونسو هو أكثر مَن أهدر سنواتٍ طويلةً في الحرب مع الممالك الثّلاث.
بسبب طمع الملك، ظلّ الدونسو فيكتور يُكافح طويلًا ضدّ الممالك الثّلاث، إلى أن شارك كيرتيس شان بيرك في الحرب.
والدليل على ذلك أنّ الدونسو فيكتور، رغم أنّه لم يتجاوز الخمسين من عمره، قد شاب رأسه تمامًا.
ولذلك كان من الواضح كم ستبدو تصرّفات الملك مثيرةً للشفقة في نظره، وهو يرى الأخر يعبث بشأن كيرتيس.
تنفّس فيكتور تنهيدةً، ثمّ قال لكيرتيس:
“أتظنّ أنّ مَن يختفي بدل أن يموت هم فقط الشيوخ القدامى؟”
“لا أدري. لستُ واثقًا.”
أجاب كيرتيس بارتياحٍ، لكن بإيجازٍ.
فنظر إليه فيكتور بأسى وقال:
“أما أنا، فأشفق حقًّا على الدوق. كان يجدر بجلالة الملكة ميلدريد أن تعيش عشر سنواتٍ أخرى.”
تأثّرت كلوي قليلًا.
فهو بطلُ حربٍ، لم يملك سندًا غير نفسه، وُلد صدفةً أخًا غير شقيقٍ للملك، وعانى بسبب ذلك.
وها هو عجوزٌ أنهكته الحروب يُبدي أسفًا صادقًا.
“فهناك أمورٌ لا تُكتسب بالتربية العائلية وحدها.”
بسبب ذلك شعرتْ كلوي بالامتنان…
“مثلًا، حين يُعامل المرؤوس قائدَه الذي أنقذه من البحرية بنكران جميل، فلا يلبث أن يختفي دون أثر.”
تبا. كلّ التأثّر تبدّد.
ظلّ الدونسو فيكتور يتذمّر طويلًا بعد ذلك، وخلاصة شكواه أنّه يتألّم بسببهم، ويتعرّض للملامة من الملك.
ما زال الأبرياء يعتقدون أنّ الاثنين تزوّجا بدافع الحب.
لكن معظم الناس –بما فيهم الملك وفيكتور– كانوا يخمّنون أنّ الأمر لم يكن كذلك، وإن لم يتيقّنوا.
“أمّا الملك، فلا يهمّه إن كنتما تحبّان بعضكما أم لا. المهم أنّ الدوق تزوّج مَن أنقذها أنا.”
“أجلًا!”
علّق كيرتيس وكأنّ الأمر لا يعنيه، فحدّق فيه فيكتور وفي كلوي.
أما هي فشعرت بالظلم، إذ ظلّت تتصرّف وكأنها بلا لسان منذ البداية.
“خلاصة القول، إنّ حياتي متعلّقةٌ بكما معًا.”
ورغم أنّ الملك استغلّ فيكتور كما يشاء، فإنّه في نهاية خدمته العسكريّة أُقصي جانبًا.
ومع أنّه قبل زواج كيرتيس كان يعيش أيّامَه الأخيرة بهدوءٍ نسبيّ، فقد أصبح الآن في موضعٍ يتعرّض فيه للسباب من الملك في كلّ صغيرةٍ وكبيرة.
زفر بعمق وسأل الاثنين:
“على ذكر ذلك، ملازم بيرك، هل سبق أن نظّمتِ حفلًا؟ أو على الأقل حضرتِ واحدًا؟”
تردّدت كلوي، وعضّت على شفتيها أمام السؤال المفاجئ، بينما ظلّت عيناها تدوران بلا توقّف.
فابتسم لها فيكتور بلطفٍ، على عكس أسلوبه مع كيرتيس، وقال:
“لا بأس. أعلم أنّكِ لم تعيشي حياة النبلاء الكبار. تكلّمي براحة. إن كانت لديكِ تجربةٌ مشابهة فأخبرني بها.”
“…هل يُعدّ حفلُ تقاعدٍ من البحريّة حفلًا بحقّ؟”
“تبًّا! موتي المبكّر أهون إذن.”
انطلقت ضحكةٌ مكتومة من أحدهم.
التفت فيكتور إلى كيرتيس بوجهٍ غاضبٍ، بعد أن كان يبتسم بوداعة.
عاد كيرتيس إلى جموده كأنّه لم يضحك قط، لكنّ الأوان كان فات.
“يا دوق، كان عليك أن تُعلّمها هذه الأمور.”
“لم أتلقَّ تربيةً عائلية، فكيف أعلم؟ ألقِ اللوم على أمّي الراحلة.”
أحسّت كلوي أنّ كيرتيس قصدها بكلامه ذاك.
أما فيكتور، الذي تلقّى الطعنة من عبارته السابقة، فأجاب بضجر:
“سمعتُ أنّك لا تستقبل الناس في بيتك. صحيح؟”
فأجاب كيرتيس بدلها:
“وما الفائدة من دعوتهم؟”
“كما توقّعت. لكنّ ملازم بيرك لم تكن تعلم أنّكَ تتعمّد ألّا تدعو أحدًا.”
كان على حق.
تردّدت كلوي قليلًا، لا تدري ماذا تقول.
فزفر فيكتور وقال:
“في الأصل، أهل الأسر الحاكمة يُقيمون بعد الزواج حفلًا يعرّفون فيه النّاس بعضو الأسرة الجديد. يتذرّعون مثلًا بدعوتهم لرؤية القصر الجديد.”
“…أتقصد أنّ عليَّ أن أُقيم حفلًا في المنزل؟”
‘يا صاحب السعادة، أترغب في زيارة بيتنا؟ وتفقّد حياتنا الزوجية؟’
بالطبع، لم تقل كلوي ذلك، فهي جنديةٌ بارعة الذكاء. اكتفت بتحريك عينيها فقط.
فتمتم فيكتور وهو يراقبها: “تبًّا.”
“هنيئًا لكِ. لم تُقيمي حفلًا في حياتكِ، وها أنتِ ستتولين إقامة حفلٍ ملكيّ.”
كان كلامه أشبه بلعنةٍ: اخرجي وموتي.
“أنا؟”
“أتريدين أن أرتدي فستانًا وأقيم الحفل أنا؟”
‘حقيقةً سيكون منظرًا مضحكًا… لا، ليس وقت هذا!’
باختصار، المشكلة أنّه ما زال هناك حدثٌ دبلوماسيّ مع غلينترلاند.
الذكرى الثامنة والعشرون لإقامة العلاقات.
وكان من المقرّر أن يكون هذا الحدث ذروة المفاوضات بزواج كيرتيس شان بيرك.
لكنّ ذلك الزواج تمّ بالفعل.
ومع ذلك، لا يمكن لدوقة غلينترلاند التي حضرت أن تقول: “حسنًا، سأعود إذن.”
على الأقل، يجب أن يُقام حفل الذكرى الثامنة والعشرين كما أُعلن.
“الدوق عليه أن يُكمل تحضير العرض العسكري. لكن وضعكِ مختلف، فأنتِ الآن من العائلة الملكية.”
“صحيح، ولكن…”
“إذا كنتِ تكرهين هذا فلماذا تزوّجتِ أصلًا؟ على كلّ حال، لم يعد مُمكنًا التراجع. فاستمعي.”
أساسيات أيّ حدثٍ دبلوماسي ثلاثة:
حفل استقبال يتضمّن عرضًا عسكريًّا، والحدث الرئيسي، والحفل المسائي.
أما باقي الأمور كالتحالفات والاتفاقيات، فتُترك بحسب المصالح المتبادلة، ويمكن إغفالها هنا.
ورغم أنّ دوقة غلينترلاند وصلت منذ فترة، فقد تأخّر الاستقبال بسبب زواج الدوق.
وأمّا ما ستتولّاه كلوي، فهو حفل الاستقبال الرئيسي وما يتبعه من تفاصيل.
في الأصل، كانت مثل هذه الأمور من شأن الملكة أو زوجة وليّ العهد.
لكن الملكة رحلت منذ أعوام، ووليّة العهد، الأميرة بياتريتس، ضعيفة الجسد.
فأمر الملك أن تتولّى زوجة الدوق الجديدة إقامة الحفل.
يا للسخرية!
عروسٌ حديثة لم يمضِ على دخولها القصر سوى عشرة أيّام، بل وزواجها مرفوضٌ من قِبل الملك نفسه، تُكلّف بإقامة حفلٍ دبلوماسيّ؟
لا غرابة إن قيل إنّ الفشل محتوم.
باختصار، بدا أنّ الملك عازمٌ على جلب العار لها أمام الجميع.
“الضعف لا يمنع إقامة حفل، أليس كذلك؟”
سأل كيرتيس، فأجاب فيكتور بفتور:
“سمعتُ أنّ وليّة العهد أصيبت بنزلة بردٍ شديدة.”
“الملك هو مَن دبّر ذلك قطعًا.”
“لا جدوى من الكلام.”
كانت وليّة العهد مشهورةً بضعف جسدها وهشاشة طبعها.
والآن وقد أعلن وليّ العهد فريدريك تأييده لزواج الدوق، فلا بدّ أنّ وليّة العهد اضطُرّت لإظهار الطاعة للملك.
“لكن أليست الماركيزة فلاندر موجودةً؟”
“بلى، لكنّها لم تتزوّج رسميًّا بعد.”
لو كان الملك يريد فعلًا نجاح الحفل، وكان مرض وليّة العهد عذرًا حقيقيًّا، لاختار الماركيزة بدلًا من كلوي.
فالحفل ليس شيئًا جديدًا على أميرةٍ مثلها، وهي فوق ذلك رئيسة مجلس إليونورا.
“ثمّ إنّ الملك كلّفها بأمرٍ آخر.”
“ما هو؟”
“لا أدري. لكنّه ليس خبرًا جيّدًا لكما.”
فتحدّثت كلوي بحذر:
“أعتذر، لكن لديّ سؤال.”
التفت الاثنان إليها.
“فهمتُ كلّ ما تفضّلتم به، لكن ما زلتُ متحيّرة.”
“في ماذا؟”
منذ البداية وهي تتساءل: لِمَ على فيكتور أن يشرح لها هذا كلّه؟
هذه أمورٌ تخصّ الأسرة الملكية، والمفترض أن تخبرها بها وليّة العهد أو وزير الخارجيّة.
ابتسم فيكتور ساخرًا وقال:
“أترغبين في أن يستدعيك الملك إذن؟”
“…أعتذر.”
كان كلامها في غير محلّه.
لكنّ فيكتور لم يكن بذلك القدر من القسوة.
“تبًّا. لم أقصد مضايقتكِ.”
صمت لحظة، ثمّ أطلق تنهيدةً عميقة وقال:
“يا بيرك، حظيتِ بزوجٍ لا يُقدَّر بثمن. حقًّا.”
لكن أسلوبه لم يكن أسلوب مديح، بل بدا وكأنّه يُخرج الكلام من حلقه مُكرهًا.
“ماذا تعني؟”
“لا أرغب في قولها بلساني. ستسمعينها من غيري.”
كان هذا طردًا صريحًا.
فلم يستغرق الأمر طويلًا قبل أن يُخرج فيكتور الاثنين من غرفته.
“ما الأمر؟” سألت كلوي.
فجاءها جوابٌ غريبٌ لا علاقة له بسؤالها.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
أنستا: fofolata1 ✿
التعليقات لهذا الفصل " 58"