كانت شاردة الفكر، ويبدو أنّها مشت كثيرًا بلا وعي، فالمنظر من حولها بدا غريبًا عنها. مختلفًا تمامًا عن شارع بابيتين المشرق والنظيف.
‘مع أنّني لم أبتعد كثيرًا عن شارع بابيتين.’
لو أنّ أغات قامت بواجبها في دوريات الحرس الملكي بإخلاصٍ أكبر، لكانت أدركت أين وصلت. إنّه القسم الخلفي من شارع بابيتين. حيث تُباع سلعٌ باهظة الثمن، لكن غالبًا ذات استخداماتٍ مشبوهة، أو بضائع مسروقة من القراصنة. مكانٌ لم يكن من الممكن أن يأتيه نبلاءٌ رفيعو المقام مثلها بمفردهم.
“أين أنا بحقّ….”
تمتمت بقلق وهي تدور بعينيها في الأرجاء. ولحسن الحظ، حين عادت أدراجها قليلًا، لاح لها ممرٌّ جانبي يؤدّي إلى الشارع العام. كان ضيّقًا وقذرًا بعض الشيء، لكن بدا أنّه مخرجٌ مناسب. أغمضت أغات عينيها بإحكام، ثمّ رفعت فستانها بحذر.
“تبًّا… كان عليّ ارتداء حذاءٍ طويل العنق على الأقل….”
ركام النفايات، الذي عادةً ما يتراكم في الأزقّة المظلمة، أخذ يصطدم بقدميها. وما إن التفتت بضيق، حتى لاحظت شيئًا غير عادي.
‘هاه؟’
إنّه متجرٌ عتيق، عادي في الظاهر، لكنّه مكانٌ لم يكن يخطر لأغات أن تدخله يومًا. غير أنّ شيئًا ما في الداخل لفت نظرها. فتوقّفت لتتأمّله، وسرعان ما أدركت سبب غرابته.
على الأرجح أنّ صاحب المتجر أهمل إسدال الستائر، فشعاع الشمس المتسلّل من النافذة أضاء ما بداخل المكان. وهناك، وسط ذلك الضوء، شخصٌ لا يتناسب وجوده أبدًا مع هذا الحيّ، تمامًا مثل أغات نفسها.
‘مَن تلك المرأة…؟’
امرأة تبدو للعيان بوضوح أنّها من النبلاء، كانت تتحدث مع خادمتها داخل المتجر. رداؤها الطويل العريض أخفى تفاصيل ملابسها، لكن شعرها، الذي لمع في أشعة الشمس، بدا بالغ النعومة. أهو زهري؟ أم بنّي؟
في تلك اللحظة، مدّ صاحب المتجر يده ليُسدل الستائر، فتزامن ذلك مع التفات المرأة إلى الخلف.
تجمّدت أغات من المفاجأة، ثمّ أدارت جسدها على عجل وغادرت مسرعة.
‘…إيزابيلا لا غلينترلاند؟’
نعم. في اللحظة التي انزلق فيها الرداء قليلًا عن كتفها، انكشف وجهٌ مألوف لديها.
إنّها المرأة التي جاءت إلى هنا بسبب خطبةٍ مع كيرتيس شان بيرك. في الظروف العاديّة، لما اهتمّت أغات بسبب قدوم مبعوثةٍ دبلوماسية، لكن بما أنّ الأمر يتعلّق بتلك الخطبة تحديدًا، فقد عرفت ملامح وجهها جيدًا.
لكن… ماذا تفعل مثل تلك المرأة في مكانٍّ كهذا؟
‘…أهي جاسوسة؟’
صحيح أنّ أغات دخلت الحرس الملكي بدافعٍ غير نقيّ متعلّق بكيرتيس شان بيرك، لكنّها، في النهاية، ضابطةٌ في حرس المملكة. وهذا يعني أنّها تدرك تمامًا أنّ وجود دبلوماسيةٍ في أزقّة العاصمة الخلفيّة أمر يثير الريبة إلى حدٍّ بعيد.
غير أنّها فكّرت:
‘ليس من شأني.’
امرأةٌ جاءت تستهدف كيرتيس شان بيرك، فما شأنها إذا تجوّلت في أزقّةٍ قذرة لا علاقة لها بها؟ لعلّها جاءت لشراء بعض الأواني الرخيصة، إذ إنّ بلدها فقيرٌ على كلّ حال.
الأهم من ذلك الآن هو أن تعود أغات إلى عربة النقل….
“اللعنة عليك يا أخي. لم تعد حتى تلاحقني؟”
حينها فقط أدركت أنّ نويل لم يعد يتبعها. قطّبت جبينها، ثمّ غادرت المكان. وقد عقدت العزم أن تسأل أخاها عمّا قصده كيرتيس حين قال لها آنفًا: “أجعلك مرشّحة لدوقة كبرى…”
***
منذ عودتها من باسيلور، مرّت الأيّام بلا أحداثٍ تُذكر. والحقّ أنّها كانت مشغولةً بالتأقلم مع قصر الدوق، فلا وقت للفراغ أصلًا.
‘عليّ أن أجد معلّمة آدابٍ بسرعة.’
إلى حين ذلك، ساعدت جوليا كلوي مؤقّتًا، غير أنّ جوليا، وإن كانت خادمةً سابقة للملكة ميلدريد، فإنّها لم تكن مؤهلةً بما يكفي لتعليم آداب كبار النبلاء. لكن هذا لا يعني أنّه لا يمكنها تعليم أيّ شيء، لذا اجتهدت كلوي على قدر استطاعتها.
أما كبير الخدم فظلّ متردّدًا في التعامل مع كلوي، والخادمات لم يكنّ مختلفاتٍ كثيرًا عنه، لذا لم تشعر بالحرج. وقد علّق كيرتيس قائلًا بجفاء: “صحيح أنّ مقولة: الضربة الاستباقية مفتاح النصر، سوقيّة، لكنها ليست خطأ.”
وأفضل ما في الأمر أنّها حظيت بغرفتها الخاصة. وإن كان ما يزعجها أنّها تقع مباشرةً تحت غرفة كيرتيس. لكن ما الضير؟ فالدوق لن يخترق السقف ليهبط عليها.
لأوّل مرّةٍ تملك كلوي مساحةً تخصّها. وكانت في غاية السعادة. وجباتٌ لذيذة، غرفةٌ فسيحة، نومٌ مريح. غرفة نومٍ مستقلة، وغرفة استقبال، وحجرةٌ للزينة، وحمّامٌ منفصل.
وكانت سرًّا تتدحرج من غرفة النوم إلى غرفة الاستقبال، وهي تضحك وحدها. إذ كان المكان واسعًا ونظيفًا لدرجة أنّها لم تلتقط ذرّة غبار طوال تلك المدّة.
لكن لم يكن التكيّف مع مقرّ الدوق وحده ما يشغلها. فقد حمّلها الدوق بمهامّ تخصّ إدارة القصر. ومع أنّها لم تختلف كثيرًا عن أعمالها السابقة في الحرس الملكي، إلّا أنّها كثيرة. كانت تراجع أوضاع الميزانية، وتفرز ما يلزم وما لا يلزم بعد استشارة كيرتيس.
واكتشفت خلال ذلك أنّ كبير الخدم كان يمنح بعض الخادمات رواتب إضافية حسب مزاجه. ومع مرور الوقت، أخذت مكانة فيليب تتضاءل، ووجهه يزداد عبوسًا يومًا بعد يوم.
وعندما تشعر بالجوع، كانت تسحب الجرس، فتأتي الخادمات بالأطعمة الشهية.
لكن كان ثمة أمرٌ غريب: كلوي تأكل كل شيء بلا استثناء، لكن دائمًا ما تترك طبقًا واحدًا للنهاية. وفي الوجبة التالية، يُقدَّم لها ذلك الطبق مضاعف الكمية. على ما يبدو، كان الخدم يظنّون أنّها تكره ذلك الطعام، فأرادوا “معاقبتها” بإجبارها على المزيد منه.
غير أنّهم لم يدركوا أنّ كلوي من النوع الذي يترك أفضل الأطعمة إلى آخر لحظة ليستمتع بها.
لذلك انتهى بها الأمر أن تتناول يخنة المحار بالزبدة لثلاث وجباتٍ متتالية.
وحين صارت الكمية أكثر من قدرتها، قالت للطاهي مبتسمة: “لو أضفت بعض المعكرونة الجنوبية المسلوقة إلى ما تبقّى، أستطيع أن أنهي الطبق.” فأصيبت الخادمات بالذهول.
ضحكت ليا في الجناح المنفصل حين سمعت القصة.
“وماذا قدّموا لك في الوجبة التالية؟”
“لم يقدّموا يخنة المحار مجددًا….”
كانت أيّامًا هادئة وسعيدة. وكان تمضية الوقت على هذا النحو أمرًا يسيرًا للغاية.
وهذا معناه….
“انهضي يا سيّدتي الدوق.”
اقترب بسرعة اليوم الذي ستعود فيه كلوي إلى العمل، بعدما قضت عطلةً قصيرة بحجّة الزواج وشهر العسل.
صحيح. لم تنتبه لذلك لأنّ الاستيقاظ في الأيّام الأخيرة كان ممتعًا. لكنها نسيت أنّ الصباح في الأصل قاسٍ ومزعج. ورغم لمسات جوليا اللطيفة، لم تستطع النهوض بسهولة.
“جوليا…”
“نعم، يا سيدتي.”
ابتسمت جوليا بعطفٍ وهي تقترب. رفعت كلوي عينيها إليها بوجه متوسّل. كانت تفضّل عندما توقظها ليا. أمّا الآن، فالخدم يقفون مصطفّين بجوار سريرها، كلّ شيء مهيأ لها، من ماء الغسل إلى زيّ العمل المكويّ.
فلم يكن لديها وجهٌ لتقول: “خمس دقائق أخرى فقط….”
“لا بأس…”
“أجل. إلى الجهة اليسرى، سيدتي.”
وضعت جوليا النعال المخمليّ عند قدميها كالمعتاد. تنهدت كلوي، وارتدته.
“لا يمكنني التغيّب، أليس كذلك….”
قالتها على مائدة الإفطار كأنّها شكوى طفولية.
مرّ حوالي عشرة أيّام منذ الزواج. ورغم أنّ الدوق وزوجته ينامان في غرفٍ منفصلة، إلا أنّ الإفطار دائمًا ما كان مشتركًا.
مع أنّ كيرتيس لا يتناول سوى فنجان شاي، ويصعب تسميته إفطارًا حقًا.
“إن كنتِ لا تريدين العمل، فلماذا تأكلين بنهمٍ إذًا؟”
سألها كيرتيس ببرودٍ وهو يضع فنجانه.
تجنّبت نظراته بينما أنهت طبق الحساء.
“لن أتهرّب حقًّا…”
“إذن ستعملين في النهاية. فلماذا ترمين بكلامٍ فارغ كهذا؟”
‘يا لوقاحته.’ نظرت إليه بامتعاضٍ. لكنّه ظلّ منشغلًا بجريدته.
“ولماذا يغنّي الجنود الأناشيد في الحرب؟ أذلك يضمن لهم النصر؟”
“تحاولين أن تُظهري نفسكِ كابنة البحرية؟ الأناشيد تُرفع بها المعنويات.”
“يا صاحب السموّ الدوق.”
“ماذا.”
“أليس لديك أصدقاء؟”
كتم الخدم ضحكاتهم. عندها فقط رفع كيرتيس عينيه نحوها. رفعت كلوي بسكويت الشوفان من الطبق، وقضمت قطعةً وهي تقول:
“إن كانت الأناشيد لرفع المعنويات، فما فائدة تذمّر الزوجة على مائدة الطعام؟”
“…ليست شكوى رسمية.”
علمًا أنّ مسؤول الشكاوى في الحرس الملكي هو الجنرال كيرتيس شان بيرك نفسه. فزفرت كلوي بضيق.
“لو كانت شكوى رسمية، لقلت إنّني أريد الاستقالة. لكن هذه مجرّد تبادُل عاطفي.”
“تبادُل عاطفي؟”
في نبرته سخريةٌ صريحة، كأنّه يقول: ‘معي؟ أنتِ؟’
أدركت كلوي أنّ الأمر مضحكٌ بالفعل، إذ إنّها اعتادت أن تبوح لـ ليا برغبتها في التغيّب عن العمل كل صباح. أما الآن، فالجالس أمامها هو كيرتيس شان بيرك، زوجها، ورئيس عملها.
لكنّها، رغم ذلك، رفعت رأسها بعناد.
“أجل. تبادُل بين زوجةٍ محبّة و… سيّدها العزيز.”
“سيّدها.”
ردّد عبارتها وهو يثبت نظره عليها. لم تتراجع هي بدورها، وقد تذكّرت بنود العقد بينهما.
أمّا الخدم من حولهما، ففسّروا تبادل النظرات بطريقة أخرى: أنّه مشهدٌ حميمي بين زوجين حديثي الزواج.
-‘الدوق، الذي لم يعرف قلبه الحبّ، أصبح يتلقّى التأنيب من زوجته التي تحدّى من أجلها اعتراض البلاط…’
-‘الوقح وجد من يضعه عند حدّه…’
-‘يا للروعة! يجب أن أنقل القصة للطهاة لأحصل على بعض البرقوق…’
-‘ألا يمكنهما أن يتشاجرا على انفراد؟’
أمّا كيرتيس، الذي ظلّ يحدّق بها، فقد ارتسمت على وجهه ابتسامةٌ رقيقة. وقال:
“ألا تستمعين إذًا إلى شعوري أنا أيضًا؟”
ارتجفت كلوي، إذ ساورها إحساسٌ سيّئ بما قد ينطق به. فسألته بحذر:
“وماذا… تقصد؟”
ابتسم كيرتيس.
“أودّ أن أترك زوجتي تستمتع بفطورها، لكن إن أكلتِ أكثر، ستتأخّرين عن العمل.”
“..….”
“فإن كنتِ ستذهبين في النهاية، يا سيّدتي، فالأفضل أن تنهضي الآن.”
انتهى بها الأمر إلى خسارة الجولة. حتى أنّها لم تُنهِ بسكويتها.
ولم تزد الطين بِلّة سوى السيارة التي وُضعت بدل العربة التقليدية، لتسرّع من وصولها.
ولو لم تكن جوليا قد جهّزت لها سلةً من الحلويات لتأخذها معها، لشعرت كلوي بالأسى.
لكن ما إن رأت محتوياتها الفاخرة، حتّى أشرقت ابتسامة على وجهها.
‘سأتناولها في مكتب المساعدين. يا ترى، هل تناول الملازم نويل إفطاره؟’
لكن لسوء حظّها، لم تتمكّن من ذلك.
فما إن وصلت إلى مقرّ عملها، حتّى استُدعيت مباشرةً لمقابلة شخصيةٍ أعلى شأنًا من كيرتيس نفسه.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
أنستا: fofolata1 ✿
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 54"