عندها لزم إيزرا الصّمت، وإن كان لا يزال يبدو غير راضٍ.
لكن كيرتيس لم يترك الأمر يمرّ.
-‘سأُعطي الملازم دوبوا مهمّةً جديدة. أظنّ أنّ أخوات زوجتي العزيزات في حاجةٍ ماسّة إلى التّرفيه. ليقم بمرافقة الآنستين ليا وآيريس. آنسة ليا.’
-‘نعم؟’
-‘سأجعل الملازم دوبوا يُرافقكِ، فاذهبي واقتني ما ترغبين به اليوم.’
-‘ماذا؟ أنـا… أنا بخير….’
ارتبكت ليا، الّتي كانت تحمل آيريس بين ذراعيها.
ابتسم كيرتيس.
-‘بسبب فوضى شؤون منزلي وضعف ترتيبي، صار وقتٌ كان يجب أن يكون مبهجًا خانقًا بدلًا من ذلك.’
كانت كلمات قاسية، لكنّها صادقة.
فمنذ دخولهنّ إلى باسيلور، بالكاد استطاعت ليا أن تتفرّج قليلًا على الجواهر، لكنّ الأمر انقلب حين اقتحمت الآنسة مونفيس المكان، ثمّ أعقب ذلك ظهور المركيز فلاندر والدّوق، فلم تتمكّن ليا من التّنفّس بارتياح، وهذا ما كانت كلوي تعلمه أيضًا.
-‘أنا بخير….’
-‘سأُعطيكِ سيّارتي الخاصّة.’
‘ماذا؟ حقًّا؟!’
سيّارةٌ تعمل بالأحجار السّحريّة لا يملكها سوى قلّةٌ في العاصمة!
تهلّلت ليا فرحًا، وأمسكت بيد آيريس وركضت مسرعة.
كما خرجت جوليا أيضًا، بحجّة أنّها ستساعد أخوات الدّوقة في اختيار المشتريات.
غير أنّ إيزرا بدا متردّدًا لسببٍ ما.
فأصدر كيرتيس أمرًا صارمًا ببرود.
-‘الملازم دوبوا، ما الّذي تنتظره؟’
-‘…عذرًا.’
وذلك كان ما حصل قبل قليل فقط.
التهمت كلوي قضمةً من المثلّجات بطعم التّوت الذّهبي وسألت فورًا:
“ما قصّة جمعية إيلينورا؟ أليست تلك تجمّعًا للنّساء المحاربات في الجيش؟”
“أوه، دعيني ألتقط أنفاسي قليلًا.”
قال كيرتيس مبتسمًا وهو يرفع فنجان الشّاي.
-‘لكن لديّ طلبٌ آخر.’
ما طلبه كيرتيس من الماركيزة فلاندر هو أن تُصبح مُعلّمة آدابٍ لكلوي.
وبالطّبع يمكن إيجاد مُعلّمات آداب في أيّ مكان، لكنّه قصد من وراء ذلك أن تقوم بدور المرافقة الاجتماعيّة أيضًا.
-‘لقد رأيتِ الآنسة مونفيس، أليس كذلك؟ ستواجه الدّوقة الكثير من المواقف المماثلة. وإن شعرتِ بالأسى، فأتمنّى أن تُساعدي زوجتي.’
لكنّ الماركيز رفضت مباشرة:
-‘أتدري لِمَ أرسلتُ مندوبًا فقط إلى زفافكَ؟’
لقد كانت تُعاني أصلًا من مراقبة الملك، ولم ترغب في إثارة مزيد من غضبه.
لكنّها أضافت:
-‘مع ذلك، فهمتُ قصدك. سأخبرك بأمر: ربّما سيُعقد اجتماع جمعية إيلينورا بعد غيابٍ طويل.’
-‘جمعية إيلينورا؟ بالفعل، إن افتتحتِها بنفسكِ فالأمر مختلف.’
-‘لا. لن أكون أنا.’
ارتجف بصر كيرتيس قليلًا عند سماعه ذلك.
-‘ثمّ…. ‘
أطلقت الماركيزة تنهيدة، ثمّ أومأت له بيدها:
-‘بما أنّ الأمور أصبحت هكذا، فلتُجهّز زوجتكَ لمراسم التّعريف.’
-‘مراسم التّعريف؟’
-‘نعم. لا أستطيع قول المزيد. بل إنّني ما كنتُ لأُخبركَ حتّى هذا لو لم يكن عليّ دينٌ لك اليوم.’
لم تفهم كلوي شيئًا، لكنّها أيقنت أنّ الكلام له علاقةٌ بها مباشرةً، فسألت مرّة أخرى:
“لا يبدو أنّ الأمر مجرّد اجتماع عادي للنّساء المحاربات، أليس كذلك؟”
“قولي ما تعرفينه عن جمعية إيلينورا.”
“أهذا زواجٌ أم التحقتُ بأكاديميّة عسكريّة؟”
تمتمت كلوي متذمّرة، لكنّها شرحت:
“إنّها جمعيةٌ أُنشئت باسم أوّل سيّدة ضابط في البحريّة، إيلينورا. وكان لها تأثيرٌ كبير على قانون المبارزات في الإمبراطوريّة.”
“جيّد. يبدو أنّ مستقبل إيفانيس مشرق.”
قال ذلك الرّجل نفسُه الّذي جعل كلوي تقلق على مستقبل إيفانيس، فبدا الأمر بلا ضمير.
ومع ذلك، راح كيرتيس يُمعن النّظر إليها ويُقيّمها سريعًا:
“وضعكِ يُثير الإعجاب.”
“آه، إنّه مُجرّد عادة….”
كانت كلوي جالسةً في ثوبها وهي تُباعد بين ساقيها كما اعتادت في زيّها العسكري.
ثمّ جمعت ساقيها مرتبكة.
فقد عاشت دائمًا في بنطالٍ عسكري، أمّا فستانها فكان يلتصق بساقيها على نحوٍ ضايقها.
“لو تصرّفتِ كدوقةٍ مثاليّة منذ اليوم الأوّل لكان ذلك أغرب.”
“أشكرك على سعة صدرك. والحقّ أنّ المقاس لا يُناسبني.”
كان الثّوب الخارجي قد جرى تعديله سريعًا بفضل جوليا والخادمات.
لم يكن فيه دعاماتٌ تُعيق الحركة، لكنّ طيّاته الملتفّة كانت مزعجة.
سألها كيرتيس:
“ألستِ قد حضرتِ اجتماعات جمعية إيلينورا من قبل؟”
“هل يُعقل ذلك؟ فذلك محصور بنساءٍ من طبقاتٍ رفيعة.”
عندها تنبّهت كلوي فجأة إلى ما يُخفيه اجتماع إيلينورا وما يعنيه “مراسم التّعريف”.
ورأى كيرتيس ملامحها فأطلق ضحكة قصيرة.
“جيّد. يكفي أنّكِ أدركتِ.”
آه… طعم المرارة في فمها.
لكن ما العمل؟ لم يكن لديها حلّ، سوى أن تُكمل المثلّجات.
“أوه.”
لقد بدأت المثلّجات تذوب قليلًا مُشكّلًا قوسًا.
وكانت غاليةً، فلا بدّ من التهامه بسرعة.
فأسرعت تأكله، لكنّها شعرت بنظراتٍ مُسلّطة عليها.
رفعت رأسها مجدّدًا، فإذا بكيرتيس ما يزال يبتسم وهو يحدّق بها.
“…إنّه ليس أوّل مرّةٍ آكل فيها مثلجات.”
“…أنا لم أقل شيئًا.”
“لكنّ نظراتك تسخر منّي كأنّني جائعة.”
“كنتُ أضحك… لا، بل أتراني في عينيكِ شخصًا مجنونًا بالانتقاد؟”
همّت أن تُجيب: “أليس كذلك؟” لكنّها ابتلعت الكلمات.
كان كيرتيس يُدلّك خدّيه بإصبعيه ثمّ يهزّ رأسه. يبدو أنّه اعتاد التبسّم ساخرًا حتّى نسي نفسه.
التعليقات لهذا الفصل " 51"