الفصل 14 :
انطباعٌ ودود ومحبّ. شعرٌ بنيّ فاتح يميل إلى الورديّ.
كلّ مَن رأى إيزابيل لا غلينتراند ولو لمرة واحدة، سيصفها دون تردّد بأنّها جميلة ذات طابع طيّب.
لكن، إيزابيل لا غلينتراند لَمِ تكُن أبدًا كذلك.
ولو كانت كذَلك منذ البداية، لما استطاعت أنْ تتسلّق حتى تصل إلى هَذا الحدّ.
“لقد وصلتُ بالكاد إلى إيفانيس.”
بدأت تقضم أطراف أظافرها المُشذّبة بعناية.
‘إيزابيل. السبب في أنّي جعلتُ مِن فتاةٍ وضِيعة كانت تتعفّن في ركن مِن أركان قرية صيد دوقةً، هو لأنّكِ يجب أن تكوني أفضل مهرٍ مُمكن.’
هَذا ما قاله ملك غلينتراند، الذي انتشلها مِن القاع حين كانت قد فقدت كلّ شيء، العائلة والمكانة، وداسَت في الوحل.
‘إذا تزوّجتِ مِن كيرتيس شان بيرك، وأسّستِ عائلةً في سوليريا، فستتحقّق أمنيتكِ أيضًا.’
حينها، أومأت برأسها دوّن تردّد.
ظاهريًّا، كانت بعثةً دبلوماسيّة أُرسلت لتعزيز الروابط بين البلدين، لكن في الحقيقة، كانت رحلة زواج قائمة على التقاء المصالح بين الطرفين.
ولو سُئل أحدهم مَن كان الأشدّ رغبةً في هَذا الزواج، لكان الجواب دوّن شكّ: إيزابيل لا غلينتراند.
“مع ذَلك، لا يُمكنني الاستسلام.”
بالطبع، لَمْ تكُن تظنّ أنَّ كيرتيس شان بيرك سيقعُ في حبّها مِن الوهلة الأولى.
لو كان ينوي القدوم إلى غلينتراند، لكان قد تخلّى عن لقب الدوق منذُ زمنٍ طويل بدلاً مِن أنْ يُصبح جنديًّا.
كانت تعلم منذ البداية أنَّ هَذا الطريق لَن يكون سهلًا.
ولذَلك، اختار ملك غلينتراند إيزابيل بعنايةٍ فائقة.
جمالٌ يُفتن أيِّ رجل، وحركات راقية.
امرأةٌ تُطلق مِن لسانها كلماتّ حلوة كما لو كانت مغموسةً في السكّر.
لكن، مهما كانت المرأة محبّبة، لا يُمكنها إغواء رجل لَمْ تره قطّ.
في نهاية المطاف، لَمْ يحضر الدوق حفل الاستقبال الدبلوماسي.
فبعد أنْ قلب قاعة المُقابلة رأسًا على عقب، لَمْ يكُن مِن المُمكن أنْ يحضر الحفل بسلاسة.
مَن كان يظنّ أنّه سينسحبُ بهَذهِ السرعة قبل أنْ أتمكّن مِن فعل أيِّ شيء؟
تناولت إيزابيل حبّة برقوقٍ ورديّة اللون كانت موضوعة على طاولة الغرفة، وفركتها بإبهامها. صدر صوتٌ حادّ يدلّ على توتّرها.
‘قالوا إنّه متحفّظٌ في علاقاتهِ مع النساء…’
لم تكُن حياته خالية تمامًا مِن الشائعات. قبل عامين، أُثيرت حوله فضيحة مع ابنة أحد النبلاء.
لكن سُرعان ما تبيّن أنَّ تلك النبيلة كانت تكنّ له عشقًا مفرطًا تجاوز الحدود، الأمر الذي أكسب الدوق تعاطف الناس بدلًا مِن لومه.
ولكن فجأةً، يظهرُ له شريكة زواج؟
لا شكّ أنّه خطّط مُسبقًا وأعدّ شخصًا ما.
‘قالوا إنّه بطل حرب، لكن يبدو أنّه بارعٌ في التخطيط أيضًا.’
كانت إيزابيل واثقةً مِن معرفتها بالرجال. فَمِن بين أولئكَ الذين قابلتهم، كان هناك الأقوياء وأصحاب الحكمة،
لكن حتّى أولئكَ، ما إنْ يقابلوا إيزابيل، كانوا يقعون في سحرها رغم حذرهم.
لذا، كانت واثقة. لكنّها لم تتوقّع أنْ تسوء الأمور بهَذهِ السرعة فور وصولها إلى إيفانيس.
الوقت لا ينتظر أحدًا. فقد سبقها الدوق بإثارة الرأي العام وإفشال الزواج السياسي قبل حتّى أنْ تصل.
بات مِن المستحيل اختراق الوضع الحالي.
رأت صورة “مرشّحة الدوقة” في إحدى الصحف، ذات عينين ورديّتين مثل قلبّ فاكهة برقوق غير ناضجة.
قالوا إنّها مساعدةُ الدوق. جمالها لا يُقارن بجمال إيزابيل.
لو كان هناك بعض الوقت قبل الزفاف، لما ادّخرت جهدًا في محاولة لقاء كيرتيس شان بيرك وإغرائه، أو على الأقلّ فتح باب المفاوضات.
لكن بهَذا الشكل، لَمْ يبقَ لها أيُّ خيار.
أو ربّما…
ضغطت إيزابيل على حبّة البرقوق بطرف ظفرها. فتدفّق منها عصيرٌ أحمر كأنّه دم.
“…هل يجبُ أنْ أُزيحها؟”
المنصب الإداري في سوليريا. ربّما لا يهمّ الدوق، لكنّه غاية في الأهميّة بالنسبة لإيزابيل. فهَذا هو الجسر الوحيد المتبقّي لها.
هَذهِ إيفانيس. بلدٌ لا تملك فيه حتّى صديقًا واحدًا.
كانت تُدرك تمامًا أنَّ أيِّ تصرّفٍ طائش في أرضٍ غريبة كهَذهِ سيؤدّي بها إلى الهلاك. لكن، لا يُمكنها البقاء مكتوفة الأيدي.
‘ليس أمامي سوى نثر الرماد على الأقلّ.’
أغمضت عينيها بقوّة ثمّ فتحتهما مِن جديد. ثمّ قرعت الجرس لاستدعاء الخادمة التي جاءت معها مِن غلينتراند.
“أحضري كلّ الهدايا التي جلبناها مِن غلينتراند.”
“كلّها؟”
تردّدت الخادمة بخوف، فما جلبته إيزابيل مِن غلينتراند كان عبارة عن كنوزٍ فاخرة.
أدقّ وصفٍ لها هو أنّها جُلبت لتكون مهر زواجها.
“كلّها.”
سرعان ما امتلأت الغرفة المخصّصة للضيوف.
سارت إيزابيل بخطى بطيئة بين التماثيل والمزهريّات،
ثمّ اختارت إحدى المزهريّات.
كانت مزهريةً خضراء جميلة جدًّا.
“أرسلي هَذا إلى مكتب كبير الخدم في القصر الملكي لإيفانيس، واخبريهم إنّها هديةُ تهنئةٍ بالزواج إلى دوقية بيرك. وقولي أيضًا إنّه مزهريةٌ منحوتة من حجر البيريل الأخضر بالكامل، وهي مناسبةٌ لتُوضع في غرفة زفاف الدوق.”
لَمْ تكُن تنوي التراجع. كانت عينا إيزابيل تتألّقان وهي ترفع المزهرية وتنظر إليّها مِن زوايا مختلفة.
“ثمّ، هل يُمكنكِ جمع كلّ الصحف التي كتبت عن زواج الدوق وعن عائلة أمبرويز؟”
“نعم.”
قالت الخادمة ذَلك، وأخذت الصندوق الذي فيه المزهرية مِن يد إيزابيل، ثمّ انحنت برأسها. وكانت على وشك النهوض عندما رأت شيئًا أربكها. فقد كان هناك صندوقٌ آخر عند قدمي إيزابيل، يُشبه ما تحمله في يدها من حيث الشكل والمحتوى.
‘…هل أخطأت؟’
لكن إيزابيل وجّهت إليّها سؤالًا وهي تتردّد.
“ما الذي تفعلينه؟”
كان ذَلك بمثابة أمرٍ صريح بالمُغادرة. فزعت الخادمة وأزاحت بصرها عن الصندوق الآخر.
“لا، لا شيء.”
ثمّ انكمشت كتفيها وتراجعت إلى الخلف وهي تحمل الصندوق. وبعد أنْ خرجت مِن الغرفة، تنفّست الصعداء.
إيزابيل لا غلينتراند. المرأة التي تبنّاها ملك غلينتراند ومنحها لقبًا. لَمْ تكُن عنها سوى الشائعات. منهم مَن يقول إنّها كانت فتاة مِن الشوارع، وآخرون يدّعون أنّها آخر وريثة لعائلةٍ منهارة…
لكن بالنسبة إلى خادمة متواضعة مِن غرفة الغسيل، لَمْ تكن تلكَ إلا امرأةً رفيعة ومرعبة للغاية.
‘ أنّها ليست مِن النبلاء أصلًا. فكيف يُمكن لواحدةٍ مثلها أنْ ترافق دوقةً في رحلتها؟’
هَكذا كانت زميلاتها في غرفة الغسيل يتحدثن، وهنّ يملؤهنّ الحسد بسبب ترقّيها المُفاجئ. قالوا أيضًا إنّه مِن غير المعقول أنْ يدّعي ملك غلينتراند أنّها مَن فروع العائلة الملكيّة.
لكن كلّ ذَلك لَمْ يكُن يهمّ. كانت إيزابيل لا غلينتراند سيّدةً صارمة وباردة أحيانًا، كما حصل قبل قليل، لكنّها لَمْ تكُن مِن النوع الصعب إرضاؤه. لذا، لَمْ تُعر الخادمة ما رأته أيِّ اهتمام، ونظرت إلى الصندوق الذي تحمله.
“جميلةٌ جدًا.”
ابتسمت وهي تنظر إلى المزهرية. في البداية، كانت مرعوبةً مِن اختيارها للمشاركة في هَذهِ الرحلة، لكنّها أصبحت سعيدةً بذَلك الآن. صحيح أنَّ الخطبة قد فُسخت ويبدو على السيّدة الحزن، لكن بالنسبة لشخصٍ مثلها، كانت تلكَ فرصةً لرؤية أشياء لَن تراها في حياتها أبدًا.
بل، وقد حصلت أيضًا على عدّة ثيابٍ جميلة، إذ مُنحت لها مِن قصر غلينتراند الملكي. وقال كبير الخدم المخيف في القصر إنَّ بإمكانها بيعها بعد العودة مِن هَذهِ الرحلة. وكان الأجر أيضًا مجزيًا.
أنْ تزور قصرًا ملكيًا أجنبي، وأنْ تلمس مزهريّةً ثمينة… ما أسعدها!
صرّ الباب المُغلق وبدأ يُفتح ببطء. لكن الخادمة المتحمّسة لَمْ تلاحظ شيئًا.
لَمْ تدرك أنَّ عيني إيزابيل لا غلينتراند الباردتين ما زالتا تلاحقانها مِن خلفها.
***
وفي تلكَ الأثناء، فيما يتعلّق بعائلة أمبرويز.
كان الوضع يجري كما توقّعتهُ كلوي تقريبًا.
فقد بدأ الناس يُبدون اهتمامًا كبيرًا بعائلة أمبرويز، العائلة التي لَمْ يكونوا يعلمون بوجودها أصلًا حتى وقتٍ قريب.
أين تقع عائلة أمبرويز؟ مَن هم أفرادها؟ تلكَ الأسئلة بدأت تنتشر في كلّ الصحف.
كُتب أنَّ الوالدين يعملان في مجال البحث العلمي، وأنّهما لَمْ يدخلا العاصمة إيفانيس منذُ عدّة سنوات، وأنَّ لديهم ثلاثة أبناء، وأنَّ كلوي أمبرويز هي المسؤولة الفعليّة عن العائلة، أمّا شقيقها إيريك أمبرويز، فيدرسُ في أكاديميّةٍ عسكريّة داخلية.
لكن أكثر مَن لفت الأنظار كانت الابنة الثالثة في العائلة: ليا أمبرويز.
لأنّها كانت تدرس في جامعةٍ للفتيات في العاصمة، فقد كانت، بمحض الصدفة، أقرب واحدةٍ إلى أختها الكبرى.
ولذا، حاولت جميعُ الصحف إجراء مُقابلاتٍ مع ليا أمبرويز. لكنّها لَمْ تكن موجودةً في أيِّ مكان.
تحديدًا، كلّ الصحفيّين الذين زاروا منزل عائلة أمبرويز الصغير في شارع لو مارتين، عادوا خالي الوفاض. لَمْ يكُن هُناك أحد.
<عائلة أمبرويز، مفقودةٌ مِن العاصفة؟>
نُشر حتّى مقالٌ بهَذا العنوان.
لكنّهم لَمْ يكونوا مفقودين فعلًا.
بل في وسط تلكَ العاصفة، في هَذهِ اللحظة بالذات.
كانت ليا أمبرويز، شقيقة كلوي، تُتمتم بذهن شارد، في وسط دوقية بيرك.
“…أجل، يبدو أنّني قد تورّطتُ فعلاً…”
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 14"