عندما يحلّ الظلم في أيّ مملكة، وتنشر جيوش الأعداء الفساد والخراب في الأرض، تشعر العنقاء بحزنٍ شديد يجعلها تبكي، فتتحوّل إلى رمادٍ أسود؛ لأن الشرّ في العالم آذى روحها النقيّة.
لكنّ العنقاء تولد من جديد، من بين رمادها، وتكون أقوى من ذي قبل، يقودها غضبٌ متأجّج كجمر نارها.
بمجرد أن تعود إلى الحياة، تقودها أجنحتها إلى حيث يسود الظلم والفساد، لتحرق بنارها كل شرّ وأذى في هذا العالم.
ثم تعود العنقاء إلى الجبال، موطنها.
لكنّ أبناء النار (شعب العنقاء)، استغلّوا هذا الكائن الأسطوري في نشر الظلم، لم يصونوا إرثها وأحرقوا كل من يعترض طريقهم.
لقد حوّلوا رمز العدالة إلى أداةٍ للبطش ، و علامة تثير الخوف.
**********
كانت هذه الكلمات مكتوبة في الصفحة الأخيرة من دفتر قديم، كأنها نبوءة منسية أو على الأرجح، آخر ورقة لم تُمزّق مع الصفحات المجهولة الأخرى.
انتاب نهيدة شعورٌ بالخيبة حين توقّف الدفتر عند هذا الحد.
“هذا ليس عدلًا!” صاحت متذمّرة، ثم رمت الدفتر على سريرها.
جلست على الكرسي، عاقدة ذراعيها حول صدرها، وتمتمت:
“ماذا حدث لاحقًا؟ أريد أن أعرف… لكن أين أجد الإجابة؟”
منذ أن عادت إلى بيتها، لم تفعل شيئًا سوى قراءة تلك الصفحات القديمة.
لم تأكل، لم تغيّر ثيابها. كانت كل كلمة تجرّها إلى الأخرى، وكل صفحة تترك وراءها لغزًا أو معلومة لم تسمع بها من قبل.
كان عقلها جائعًا.
يتوق لهذه الأمور أكثر من أي شيءٍ آخر.
حين أدركت أن الظلام قد حلّ، تنبّهت إلى أنها لم تأكل شيئًا.
بدأت بطنها تصدر أصواتًا مزعجة تشير إلى الجوع.
ذهبت إلى المطبخ لتسدّ رمقها.
وأثناء مضغها للطعام، همّت أن تنادي “هامد” ليتناول العشاء معها، لكنها تذكّرت أنه قد مات… وعليها أن تعتاد على غيابه.
جلست على الكرسي تحاول تخيّل ما كان ليفعله هامد لو ظلّ على قيد الحياة، لو كان يتناول الطعام بجانبها.
هزّت رأسها، محاوِلةً طرد هذه الأفكار.
لا رغبة لها في أن تتذكّر شيئًا يحزنها طويلاً.
عمرها أقصر من أن تبكي رجلًا رحل، رجلًا اعتبرها خياره الثاني، ووجودها مجرّد محاولة للمضيّ قدمًا.
كان له زوجة وأطفال، وماتوا جميعًا.
وحاول أن ينجب منها طفلًا قبل أن يموت.
“لكن… ماذا لو لم يكن هذا السبب الحقيقي؟”
خطر لها هذا السؤال، وشعرت أنه منطقي إلى حدٍّ ما.
ربما تزوّجها بدافع الشفقة، لا أكثر.
فهي يتيمة، وحيدة، حتى شقيقها تخلّى عنها.
ربما أراد فقط إسكات صوت ضميره، ذلك الصوت الذي يلومه على موت أسرته.
تأفّفت نهيدة وهي تسترجع هذه الأفكار.
شعرت برغبة عارمة في البكاء.
كانت حياتها، في نظرها، بلا معنى.
مجرّد عبءٍ على الآخرين.
حتى الرجل الذي تزوّجها بدافع الشفقة… تركها ورحل.
أعادت ما تبقى من طعامها إلى الحافظة الحجرية ، كانت حافظة حجرية كبيرة، مصنوعة من الطين والأحجار، صمّمها أبناء القبيلة لحفظ الطعام لأطول مدة ممكنة.
بعد أن أعادت بقايا الطعام ، ذهبت إلى غرفتها ، استلقت على فراشها و أبعدت الدفتر القديم . ساد المكان هدوءٌ تام ، مما جعلها تشعر بالنعاس ، تثاقل جفنيها و لم يعد بإمكانها أن تظل يقظة لوقتٍ أطول.
اغمضت عينيها و غرقت في ظلام النوم المريح .
في أحلامها، كانت تحلق في السماء المبلدة بالغيوم ، لكن ليس مثل المرة الماضية .
كانت تركب كائنًا هائل الحجم ذو حراشف داكنة ملمسها ناعم ، على عكس ما توقعت .
صرخاته الحزينة ملأت السماء و آلمت قلبها ، و كأنه ينادي من أجل رفاقٍ رحلوا إلى الأبد .
احست بوجود شخص يجلس خلفها ، لكنها لم تخف منه بل على العكس ؛ أَحست ان روحها تعرفه ، و تسللت الطمأنينة إلى صدرها عندما بدأ يلمس يديها .
فجأة أمسك ذلك المجهول بذراعيها و جعلها تفردهما و كأنها طائر يحلق .
كانت سعيدة و تضحك . و ايضًا حُرة ، على عكس واقعها .
لكن هذا لم يَدُمْ طويلًا.
صرخةٌ حادّة للغاية، غير آدمية، جعلت نهيدة تستيقظ من حلمها الجميل فَزعة وخائفة. بدأ قلبها يخفق بسرعة جنونية، وشعرت وكأنه على وشك أن يخرج من صدرها.
أشعلت إحدى الشموع في غرفتها، وخرجت من المنزل بعد أن غطّت ذراعيها المكشوفتين بوشاحٍ مصنوع من صوف الخراف.
كان معظم سكان القرية قد استيقظوا، وخرجوا من منازلهم خائفين ومذعورين، يحاولون معرفة مصدر ذلك الصوت المرعب الذي أقلق منامهم.
لكن لم يكن هناك شيء غير طبيعي. بدا كل شيء هادئًا للغاية، على نحوٍ يتناقض مع الرعب الذي شعروا به قبل قليل.
أتى أحد الواعظين، كان يسير في الطريق وهو يقول: “لا تقلقوا أيها الناس، إن القرية محمية ببركة الواعظين، ولن يحل بها أي أذى.”
انتاب نهيدة غضب شديد لم تستطع كبحه، اقتربت منه وتحدثت، وقد ثارت أعصابها ثورة عارمة: “ماذا تقول أيها الأحمق؟ لقد سمعنا جميعًا تلك الصرخة المفزعة، من بينهم أنت! كيف تريد منا أن نهدأ؟!”
رد عليها بلهجة فيها شيء من التعالي: “عودي إلى منزلك، يا امرأة.”
فاحتدم الغضب في صدرها، واستفحل حتى انفجرت قائلة: “لن أعود، أتسمعني جيدًا؟! لن أعود!”
شعرت بيد تمسك بها، وقد كان واعظًا آخر. قال بنبرة هادئة: “أنا أعتذر نيابةً عنها، أيها الأخ. آمل أن تعذرها على تصرفها هذا، فأنت تعلم جيدًا ماذا يفعل الخوف بالنفس البشرية.”
كان صوته مناقضًا تمامًا للخوف والغضب الذي اجتاح قلب نهيدة. كما أنها تعرفت عليه، لقد كان شقيقها سهيل.
ذهب الواعظ الآخر ليُكمل طريقه، يطلب من الآخرين العودة إلى منازلهم. أما سهيل، فأمسك بذراع أخته وأعادها إلى البيت، ثم أغلق الباب وقال: “إياكِ أن تكرري ما فعلته قبل قليل.”
أخرجت نهيدة نفسًا طويلًا قبل أن تتحدث بصوت واهن: “أنا لم أفعل شيئًا خاطئًا، ذلك الرجل لا يقول الحقيقة، وأنت كذلك. أنا متأكدة أنكما تعرفان جيدًا ما حدث، ومن أين أتى ذلك الصوت المرعب.”
ثم أدار وجهه المغطى بذلك الغطاء الذي يخفي ملامحه وقال: “نحن لا نعرف مصدر الصوت. لكن على الأغلب، يكون قد صدر من أحد وحوش الغابة. لا تفكّري في الأمر كثيرًا ونامي؛ القلق ليس جيدًا لصحتك.”
أخذت تنظر إليه بدهشة يمازجها ريبة؛ كانت تظن أن شقيقها لم يعد يهتم لأمرها، لكن كلامه وقلقه الواضح من نبرة صوته جعلاها تأمل أن جزءًا من سهيل القديم لا يزال موجودًا في قلبه.
وعندما كان على وشك أن يرحل، أوقفته وسألته مُرتاعة: “ألن تبقى هنا الليلة؟”
أجابها ببرود: “ما الذي يجعلك تعتقدين أنني قد أنام في منزلك؟”
أرادت أن تجيبه، لكن الكلمات ماتت على طرف لسانها. ماذا ستجيبه؟ أمالها السخيفة حول مشاعره التي ما زالت موجودة؟ أم مجرد حجة تافهة وكاذبة؟
جلست على الكرسي، وشعرت وكأن القلق والخوف قد أرهقاها. أجابته بعد أن شربت الماء من الوعاء الفخاري الموضوع على الطاولة:
“أنا خائفة… لن أتمكن من النوم.”
ساد الهدوء للحظات، قبل أن يُخرج سهيل قارورة زجاجية صغيرة من الكيس الصوفي المتدلي من الحزام المعدني حول خصره.
وضع القارورة على الطاولة وقال:
“هذا العقار سيساعدك على النوم.”
أخذت نهيدة الزجاجة، وقبل أن تنطق بأي كلمة، استدار سهيل على عقبيه ورحل، تاركًا أخته الصغيرة وحدها من دون أن يقول لها أي كلمة أخرى.
لكنها لم تتفاجأ؛ فهذا ما يفعله الجميع معها… يبقون لبعض الوقت، ثم يرحلون، ويتركونها وحيدة في كل مرة.
—
♤♤♤♤
كان مفعول العقار قويًا، فغرقت في نوم عميق بلا أحلام. وعندما استيقظت، لاحظت أن الشمس قد توسطت كبد السماء، مما يعني أنها فوّتت عمل اليوم مع باهر.
نهضت بتثاقل، وبعد أن نظّفت جسدها ورتّبت البيت، بدأت تُعد الطعام الذي ستأخذه إلى بيت يمامة: برغل متبّل بالبهارات في صحن عميق، وفوقه قطع لحم مقطعة على شكل مكعبات.
لم تفكر في ما حدث البارحة، بل أدّت أعمالها اليومية وكأنها جسد بلا روح… لكنه يتحرك.
بعد نضوج الطعام، ارتدت ثيابها وأخذت الصحن متجهة إلى منزل يمامة.
طرقت الباب، ففتحه باهر، ويبدو أنه عاد من العمل للتو. مدت نهيدة الصحن نحوه وقالت معتذرة:
“أعتذر عن عدم حضوري اليوم، لقد غرقت في نومٍ عميق ولم أستيقظ إلا بعد أن حلّت الظهيرة.”
ابتسم باهر وأخذ الصحن منها، ثم رد:
“لا بأس، أعلم أنك لن تغيبي إلا إذا كنتِ مريضة أو حدث شيء ما.”
وأشار لها بالدخول وتابع:
“تفضلي بالدخول، سيسرّ يمامة أن تراكِ.”
دخلت نهيدة، فاستقبلتها يمامة مبتسمة وهي تحمل طفلها قائلة:
“آه نهيدة! ظننت أنني لن أراكِ هذه الفترة.”
ليس لدي أحد غيرك، فكرت نهيدة في سرّها. أظهرت ابتسامة خافتة وقالت:
“أردت أن أعتذر لباهر، لأني تركت العمل كله على عاتقه اليوم.”
ضحكت يمامة، ثم وضعت الطفل على الأرض وتأبطت ذراع نهيدة بلطف:
“لا بأس، عزيزتي. إنه معتاد على الأعمال الشاقة، لن يصيبه شيء إن طحن الأعشاب لوحده لبضع ساعات.”
وختمت جملتها بشخير ساخر، قبل أن تجلسا معًا قرب المفرش الأرضي المفروش عليه الطعام.
انضمت نهيدة إلى هذه العائلة الصغيرة في تناول الطعام، وتلقى طبقها مديحًا من باهر ويمامة. بدا كل شيء عاديًا للغاية، كما يحدث في كل اجتماع دافئ بين مقربين، حيث يمتزج الطعام بالأحاديث العشوائية.
بالطبع، لم يتوقفوا عن الحديث عن تلك الصرخة؛ فهي الحدث الوحيد الغريب الذي كسر رتابة هذه القرية الهادئة.
بعد الغداء، جلسوا لاحتساء الشاي. كانت يمامة تتحدث والضحكة لا تفارقها، تسرد ما يفعله ابنها كلما حاولت تنظيفه، بينما باهر يضحك هو الآخر ويقبّل ابنه.
لكن نهيدة، رغم ابتسامتها، كانت تشعر أن ضحكتها لا تُشبه ضحكاتهم. كانت خفيفة، مفرغة، وكأنها صدى بعيد لفرح لم تعد تعرفه.
بعد انتهاء الجلسة، ساعدت نهيدة يمامة في تنظيف الأطباق، وأثناء العمل لاحظت التعب على وجه صديقتها، فسألتها:
“تبدين مرهقة للغاية.”
أومأت يمامة وأجابت:
“أجل، أنا في فترة حيضي. لكن هناك أمر غير طبيعي يشغل بالي.”
عقدت نهيدة حاجبيها، ووجهت انتباهها الكامل إلى صديقتها، ثم سألتها:
“ما الأمر؟ ما الذي حدث؟”
قالت يمامة وهي ترتب الأطباق:
“حيضي هذه المرة غزير جدًا، والآلام في خاصرتي لا تُحتمل… لم أتمكن من النوم البارحة.”
ثم تابعت بنبرة أكثر هدوءًا:
“لحسن الحظ، كان أحد الواعظين قريبًا من منزلنا. أظن أنه شقيقك، سهيل، إن لم تخني ذاكرتي. أعطاني قارورة فيها شراب للنوم، وسائل أحمر لتخفيف الألم.”
عندما سمعت نهيدة تلك الكلمات، شعرت وكأن قلبها سقط في معدتها. كانت تعرف هذه الأعراض جيدًا… لقد اقترب أجل يمامة.
تابعت تنظيف الأطباق بصمت، وعقلها يدور في دوامة من الأسئلة والقلق. كيف يكون أجلها قريبًا وهي أصغر مني؟ تساءلت في سرها.
وبعد الانتهاء من التنظيف، اعتذرت عن البقاء لوقت أطول، ثم خرجت مسرعة، تتعثر أثناء مشيها كما لو أنها تائهة… أو خائفة.
وقد كانت كذلك فعلًا.
فكرة موت أحد أفراد القبيلة قبل سن الثلاثين كانت مرعبة.
إن حدث هذا مرة… فقد يتكرر.
وقد يكون هذا بداية لانقراض قبيلة الوهج.
حين وصلت إلى منزل الواعظين، توقفت لوهلة تنظر إليه. كان بيتًا من الحجر الصلب والطين، أكبر من معظم بيوت القرية، وطُليت جدرانه باللون الأبيض.
خرج أحد الواعظين، وعندما لمحها، سألها بصوت عال:
“ماذا تفعلين هنا يا امرأة؟”
تجاهلت نهيدة السؤال وتقدمت لفتح باب المنزل.
استنفر من في الداخل ما إن دخلت، وسارعوا إلى تغطية وجوههم على الفور.
نظرت نهيدة حولها وقالت:
“أنا أبحث عن أخي، سهيل.”
فُتِح باب إحدى الغرف، وخرج منها سهيل وقد كان يغطي وجهه هو الآخر، وقال بصوتٍ هادئ:
“اعذروا تصرف أختي غير المسؤول، لقد فقدت زوجها منذ أيام قليلة. آمل ألّا تغضبوا.”
أشار لها بأن تتوجه معه إلى الخارج. وعندما صارا بمفردهما، بعيدين عن معظم الناس، بدأت نهيدة تتحدث:
“البارحة كنتَ في منزل يمامة… أنت تعرف جيدًا ماذا تعني تلك الأعراض، يا سهيل.”
تنهد سهيل، وأعاد ذراعيه خلف ظهره، وقال:
“أجل، للأسف. لا يمكننا مساعدتها… لكن ربما أستطيع تأخير أجلها قليلًا من خلال بعض المسكنات.”
احتقن وجهها، وشعرت برغبة عارمة في البكاء، لكنها قاومتها؛ لا تريد أن تُنزل دموعها أمام شخصٍ أشبه بالتمثال.
أخرجت نفسًا طويلًا، وردّت بصوتٍ مرتجف:
“أهذا كل ما لديك؟ ألا تدرك حجم الكارثة التي قد تحلّ على القبيلة؟”
ظلّ سهيل هادئًا ولم يقل شيئًا، لكنها تعرفه جيدًا.
كان يصمت عندما يدرك أنه عاجز عن فعل أي شيء… أو عندما يحزن.
وضعت كلتا يديها على رأسها، وقالت:
“أنا أكره هذا المكان… لا أريد أن أعيش كالمواشي.”
اقترب سهيل منها وأمرها بصوتٍ متهدّج:
“اتركي القرية.”
وقبل أن تتمكن نهيدة من التعليق على نبرة صوته، التي أوحت بأنه على وشك البكاء، استدار ورحل دون أن يقول شيئًا آخر، عائدًا إلى المنزل.
لم تفكر كثيرًا في نبرة أخيها الحزينة؛ بل أدركت أمرًا كان يجب أن تفعله منذ زمن:
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات