الفصل 128
الحر. الحر.
شمس حارة تطعن الجلد كما السيف، وأرض تغلي تحت الأقدام.
على التراب جثث متناثرة…
جثة أختها و أخيها.
عند جرّهما، كان اللحم يتساقط عن العظام، ومع ذلك كان لا بد من نقلهما إلى الظل.
لم يكن ممكنًا الإمساك بأطرافهما، فقد صارت لينة كالعجين، فكانت تمسك بحافة الثياب وتجرّ الجسد.
لم يكن الحر وحده من يتربص بجثتي اخويها، بل كانت رائحة الموت تجذب إليها الزوار الأوائل، الحشرات.
خنافس الجيف، وذباب يسعى جاهدًا لوضع بيضه.
كانت نينا تطردها بجنون، لكن بلا جدوى.
وفوق كل ذلك… الحر.
الحر الذي يطلق في الجو تلك الرائحة… رائحة الموت…
رائحة التحلل.
“لا… لا… لا… أرجوك… أرجوك…”
فتحت نينا عينيها فجأة.
“تبا”
تمتمت وهي تغطي وجهها بكلتا يديها.
صباح بائس بكل المقاييس.
كان جسدها لزجًا من العرق، والحرارة تملأ الهواء.
طعم المرارة من الغضب والضيق يلسع طرف لسانها.
تذكرت ذلك اليوم… يوم تعاقدت مع ريح الشمال والصقيع.
يوم جمدت أختها وأخاها، ودفنتهما في الأرض بجهد يائس.
تكورت على سريرها كأنها تحاول الاحتماء من شيء ما.
***
كان جان قد خرج لتدريبات الفجر، فوجد مكان نينا خاليًا، مما أثار استغرابه.
هل أذهب لإيقاظها؟
ضيّق جان عينيه. كان الفجر بالكاد قد بدأ، لكن الحر كان خانقًا بالفعل.
“لقد جن الطقس حقًا” تمتم.
لم يجرؤ على تخيل كيف سيكون الوضع عند الظهيرة.
‘سنُسلق أحياء بهذا الشكل.’
“جان.”
التفت جان إلى مصدر الصوت، فكان أدريان.
“سيدي.”
انحنى بجسده الضخم تحية، فقال أدريان
“أين نينا؟”
“لم تأت. أفكر في أن أذهب لإيقاظها”
“الأفضل ألا تفعل.”
“الحر اليوم لا يطاق فعلًا.”
“لقد أصيبت مؤخرًا بحمى الريح الشمالية.”
“ها؟ آه… فهمت… إذًا لهذا السبب لم تخرج. مزاجها… حسنًا، مزاجها في هذه الأوقات… رائع كما تعلم.”
ثم نظر جان إلى أدريان نظرة جانبية وقال.
“ألن تحتاج إلى درع بشريّ لايقاظها؟”
“ستندم لاحقًا.”
“هي دائمًا تندم بعد أن تفرغ من الصراخ.”
كان ذلك نادر الحدوث، لكنه إن حدث، سرعان ما تعود نينا نادمة بوجه حزين.
أدريان لم يكن يرغب بحدوث ذلك من الأساس.
ابتسم جان وهو يعقد ذراعيه.
“إذًا سأتولى التدريب اليوم. احذر أنت أيضًا، سيدي.”
“أنا بخير.”
قال أدريان ذلك، ثم صعد إلى غرفة نينا.
“نينا.”
طرق الباب، لكن لا رد.
“نينا، سأدخل.”
ظل الصمت سيد الموقف.
فتح الباب، فإذا بحرارة خانقة تلفحه.
كانت النوافذ كلها مغلقة بإحكام حتى الإطارات الإضافية، والستائر مسدلة، بل حتى ستائر السرير نفسه كانت مغلقة، فصار الجو خانقًا.
كانت حرارة الغرفة أعلى من الخارج بكثير، بدرجة غير طبيعية.
“سأفتح النوافذ.”
قال أدريان ذلك، ثم أزاح الستائر وفتح النافذة، فتسللت نسمة ألطف بكثير مما في الداخل.
تحركت ستائر السرير برفق.
“نينا.”
ناداها، فإذا بوسادة تُقذف من الداخل، التقطها بيده.
“هل ستبقين في السرير طوال اليوم؟”
“اذهب من هنا.”
صوتها كان حادًا.
انتظر أدريان قليلًا ثم قال.
“الجو حار.”
“قلت اذهب!”
رفع أدريان عينيه نحو السقف لوهلة، ثم سحب ستائر السرير بسرعة، فاندفعت نحوه قبضتها.
تفاداها، ودفع ذراعها قليلًا. لم يخطر بباله أبدًا أن يتلقى ضربتها مباشرة، فهذا جنون.
لو أصابه الأذى، فسوف تتفاقم الحالة.
لا ينبغي صدّ هجومها مواجهةً، بل تمرير كل ضربة وتفاديها.
حين حرّف أدريان ضرباتها كلها ليمررها، انقضّت عليه نينا فجأة، مثل قطةٍ تتوثّب من وضعية القرفصاء.
تلألأت عيناها الذهبيتان بحدة.
أمسك أدريان بذراعيها اللتين انغرستا في كتفيه، ثم تراجع إلى الخلف فسقط على الأرض.
كانت نينا فوقه، تكشف أسنانها، وخداها متوردان، وجسدها كله مبتل بالعرق.
على باطن ركبتيها ظهرت بقع حمراء كأنها طفح جلدي، وعلى معصمها الأيمن كان ختم الروح يومض كأنه فقد السيطرة.
نظر أدريان إلى يده التي تمسك ذراعها، فوجد حرارتها غير طبيعية.
لهاثها كان متقطعًا قصيرًا، كسمكة ذهبية تُنتزع من الماء.
من الواضح أن حالتها ليست سليمة.
فجأة جذبها أدريان نحوه، وبخلاف عادتها فقدت توازنها
ومالت إلى جانبها، ليجد نفسه في لحظةٍ فوقها.
استغلّ اندفاعها لتدفعه بعيدًا، فرفعها بين ذراعيه بخفة، وهي تتلوّى في محاولة للهرب.
“لا… لا تلمسني… الجو حااار!”
“لكن بشرتي الآن أبرد منكِ بكثير.”
كان جسدها ساخنًا كمن يعاني من حُمّى شديدة، ومع ذلك تقول إنها تشعر بالحرّ، لا بالبرد.
أدرك أدريان أن الأمر غير طبيعي، فحملها وخرج من غرفتها متجهًا إلى الحمّام الكبير المُعدّ مسبقًا.
كان الحمّام خاليًا من الناس، وماؤه البارد يملأ الحوض الواسع.
تشبب… تشبب…
خلع أدريان حذاءه ودخل الماء مباشرة.
في البداية، كانت نينا تصرخ وتقاوم مثل قطة تكره البلل، لكن ما إن غمرها الماء حتى هدأت.
وبعد صمتٍ طويل، تكلمت بنبرة حادة طويلة.
“لماذا تجرّني بالقوة رغم أنني رفضت؟ هل لا تستطيع الاستغناء عني؟ ألا يمكنك تركي وشأني؟ فيمَ ستستخدمُني إذن؟ هل أنا بلا فائدة ما دمت لا أعمل؟”
كانت تعرف أن كلماتها جارحة، لكنها لم تستطع منع نفسها من قولها.
“نينا.”
ناداها أدريان.
“إن أردتِ البقاء في السرير، فسأدعك تفعلين ذلك. أما قولك إنكِ بلا فائدة إذا لم تعملي… نينا.”
ابتسم أدريان وقال.
“مجرد وجودك يكفيني. أنا سعيد لأنكِ هنا فحسب.”
رفعت نينا رأسها ببطء، وما زالت حمرة وجنتيها مشتعلة.
“إذن لماذا؟”
“لأنك أنتِ لا تحبين ذلك.”
اتسعت عيناها دهشة، فأمسك أدريان بخدها الحار براحة يده المبتلة وقال.
“أنتِ تكرهين أن تري نفسك هكذا، وتلومينها… كيف أتركك وأنتِ تؤذين نفسك بهذه الطريقة؟”
اتسعت عينا نينا الذهبيتان، ثم سرعان ما انكمش وجهها بالألم.
كان رأسها يبرد، والحرارة تنحسر عن جسدها.
ساد الصمت في الحمّام، والماء البارد من النبع الجوفي يهدئ الجلد المحترق من الحمى.
عندها فقط، وصل إلى أنفها عبير الأعشاب الذي تحبه.
بدأ الحزن الذي كانت تحبسه تحت الغضب والانزعاج يصعد إلى السطح.
أحاطت أدريان بذراعيها المبللتين، تعانقه بشدة.
“أدريان… أنا… حلمتُ حلمًا فظيعًا… عن أختي وأخي… هُهك…!”
سالت دموعها وهي تروي.
لقد ماتا وتركاها وحدها، ولو كانت تعاقدت مع روح الشمال والصقيع في وقت أبكر، ربما كان بإمكانها إنقاذهما… لكنهما رحلا، في صورة مروّعة.
لم يكن هناك من يدفنهما، ورائحة العفن تسود القرية كلها، مع ذلك الحرّ الخانق، والتحلل البطيء لجسديهما، والحشرات التي كانت تزحف كجيشٍ لا ينتهي، والعرق الذي يسيل مثل المطر، والرائحة التي لا تطاق…
الحر… الحر… الحر…
الخوف… الرعب… اليأس…
ظل أدريان يربّت على ظهرها بينما هي تبكي في حضنه.
دموعها انحدرت على وجنتيها الملتهبتين، حارة كأنها تحمل حرارة جسدها.
بلا أي حرج، بكت بصوتٍ عالٍ كطفلة صغيرة، حتى أفرغت ما في صدرها من ألم، ثم خارت قواها.
زفرت طويلًا، وأسندت خدها إلى كتفه.
شعرت بخفة في قلبها، وأغمضت عينيها وهي تستند إليه في الماء البارد.
مع برودة جسدها، بدأ ذهنها يستعيد صفاءه.
بعد فترة من الصمت، همست.
“أريد أن أتذكر الأشياء الجميلة فقط… لكن لماذا أتذكر تلك الأمور أيضًا؟ أشعر أنه لو نسيتها، سأنسى أشياء أخرى معها.”
لو كان بالإمكان اختيار الذكريات…
“صدقتِ.”
همس أدريان موافقًا.
“لكن تذكّري… أنا هنا دائمًا.”
التعليقات لهذا الفصل " 128"