جلس الناس جاثمين على الأرض بشكل غريزي، وطار فوق رؤوسهم مخلوق عملاق يشبه سمك الراي* اللاسع.
*أسماك الراي (Rays) هي نوع من الأسماك الغضروفية القريبة من أسماك القرش، وتنتمي إلى رتبة الوشكيات. تتميّز هذه الأسماك بشكلها المسطح وأجسامها العريضة التي تشبه إلى حد كبير الأجنحة، وغالبًا ما تتحرك في الماء بحركات انسيابية تشبه الطيران، لذلك تُشبَّه أحيانًا بـ”الطائرات” تحت الماء.*
قفزت نينا على البيلاك ولكمته بلكمة قوية.
طاااان-!
لم يكن صوت جسد، بل بدا كصوت طرق على الحديد.
“كواااه!”
ارتطم البيلاك بالأرض، وحاول النهوض وهو يرفرف بجناحين يشبهان الزعانف.
وحين ركلته نينا مرة أخرى، طار حتى ارتطم بالجدار وعلق في شمعدان.
“كيييي…”
رفرف البيلاك عدة مرات لكنه لم يستطع التخلص من الشمعدان العالق فيه.
‘انسلخ جلدي من اللكمة.’
نقرت نينا لسانها بضيق.
قوتها الجسدية لا تتماشى مع جسدها بعد.
أطلق باراديف تأوهاً. كانت هذه أول مرة يرى فيها بيلّاك عن قرب، كونه أميرا.
انكمش جسده من الخوف تلقائيًا، كان ذلك شعورًا بدائيًا يشبه رؤية قرش في أعماق البحر.
“كيل، شارلوت. ابقيا هنا.”
قالت نينا ذلك ثم بدأت بالركض.
“راجا!”
ما إن نادت، حتى ركض راجا مسرعًا حاملاً سلاحه، ووقف إلى جانب نينا.
لم ينسَ أن ينظر إلى شارلوت ويعطيها نظرة “هل أنتِ غيورة؟”.
تناولت نينا سيفًا من يده وألقت الاثنين الآخرين.
تمكن كيل من الإمساك بالسيفين بصعوبة، وسلم واحدًا منهما لشارلوت.
بمهارة معتادة، ربط الاثنان السيوف بأحزمتهما وتبادلا النظرات.
استدار كيل أولًا وقال:
“صاحب السمو، أعذرني، هل يمكن أن تنتقل إلى مكان آخر؟ من الصعب حمايتكَ هنا.”
عندما رأى تنظيم الفرسان وتحركاتهم المنسقة، شعر باراديف بالاطمئنان، واستعاد هدوءه.
“أرجوكم، اهتموا بالأمر حتى يصل فرسان الزنبق.”
ابتسم كيل ابتسامة صغيرة.
“بالطبع، يشرفنا ذلك.”
أما بعض النبلاء الذين بقوا في مكانهم بذهول، فقد كانوا يتلفتون بين هذه الجهة ومدخل القاعة.
كانوا في عجلة من أمرهم لكنهم لا يعرفون ما يفعلونه.
كان مدخل قاعة الحفلة في حالة فوضى تامة بسبب المتزاحمين للهروب.
قال ناف بفزع وهو يتخبط:
“هل هناك بيلّاك آخرون؟ ماذا لو هرب ذلك البيلّاك؟”
ركضت شارلوت بخفة نحو الجدار، وشطرت بيلّاك العالق إلى نصفين، ثم عادت.
“الآن الوضع آمن. لكن اخشى أنهم سيموتون اختناقًا بتزاحمهم هناك.”
أشارت نحو المدخل. التفت باراديف إلى الاثنين وقال:
“هل تساعدانني؟ يجب أن نساعد الناس في الإخلاء.”
“كما ترغب.”
أجاب كيل بأدب، فيما خفضت شارلوت عينيها بخفة.
“ابقوا هادئين! معنا فرسان الظلام ومهارة نينا، سيدة السيف! إن خرجتم بلا نظام، قد يهاجمكم بيلّاك من الخارج!”
صرخ باراديف بكل ما أوتي من صوت. وتوقف الناس الذين كانوا في حالة فوضى عن الحركة فجأة.
أمر باراديف الحراس بتهدئة الناس، وبإخراج المصابين بشكل منفصل.
“انظروا! نينا، سيدة السيف، تقاتل البيلاك!”
صرخ أحدهم من الشرفة، فهرع من بقي في القاعة نحوها.
“وااو!!”
“إنها تطير في السماء!”
“الصقر الفضي!”
“أعظم مبارزة في القارة!”
تعالت الهتافات، فأمسك باراديف جبينه.
زادت شارلوت عبوسًا، وتنهد كيل بصوت خافت.
“أوه! إنهم فرسان الزنبق!”
“الأميرة تقود الفرسان بنفسها!”
“واو، فرسان المعبد!”
“إنها القديسة!”
“القديسة؟ حقًا؟”
كان ناف على وشك الانفجار من الحماس لرؤية الخارج، بينما ظل الشخصان بزيهما الأسود بلا حراك.
وخزه ناف وقال:
“أليست هذه الأخت فيارينتيل؟ ألا يجب أن نخرج لنراها؟”
“لا، لننتظر.”
قال باراديف بثقة، فأغلق ناف فمه ونظر إلى الاثنين الواقفين كأنهما تمثالان.
ظن كيل أن شارلوت لا بد أنها فضولية أيضًا لكنها صابرة، وراوده شعور بالغيرة من راجا.
‘مهمة ميدانية مع القائدة… يا للحظ. متى ستسنح لي الفرصة؟’
لكن راجا، الذي نال الفرصة، كان يتصبب عرقًا من التوتر.
“هؤلاء المجانين؟!”
زمجر، بينما جلست نينا بخفة على الأرض بوجه بارد.
في الحديقة، كانت جثث بيلاك المثقوبة بالسهام متناثرة في كل مكان.
من بين قرابة العشرين طائرًا من الراي الطائر، قضت نينا على نصفهم.
في تلك اللحظة، ظهر فرسان الزنبق وفرسان المعبد، فتنهدت نينا وقالت “أخيرًا.”
ظنت أنه يمكنها ترك البقية لفرسان الزنبق، لكن الأميرة فيارينتيل أمرت بإطلاق نار جماعي.
هجوم لا يفرّق بين صديق وعدو.
بل لم يستخدموا الأقواس، بل الصلب، فشعر راجا أن الدنيا أظلمت في عينيه.
هذا لا يمكن تفاديه.
هكذا ظن، لكن نينا وقفت أمامه وصدت كل السهام باستخدام الأرواح.
المرتبة B لا تُقتل بسهولة بمثل هذه الضربات، لكن بعد الموجة الأولى، ظهرت القديسة.
كانت ترتدي حجابًا أبيض، وغنت ترنيمة قصيرة، فصرخ بيلّاك واختفى..
وعندما شعرت بأن الأنظار عليها، خلعت الحجاب وابتسمت بخفة.
شعر أسود ووجه فاتن.
لم تكن فيونا التي أعرفها.
“هاه؟ هذه القديسة؟”
سقطت نينا في حيرة..
من هذه؟
‘فيونا التي أعرفها، كانت ذات شعر بلاتيني، صغيرة الجسد، تشبه الطائر الصغير…’
حين حدقت نينا في القديسة طويلاً، وقف رجل ضخم البنية بهدوء بينهما.
كان يرتدي خوذة تخفي وجهه، ويُحتمل أنه قائد فرسان المعبد.
‘خنفساء.’
فرسان المعبد يمكن تمييزهم من بعيد بوضوح، فهم الوحيدون الذين يرتدون دروعًا من الصفائح المعدنية.
عادةً ما تكون هذه الدروع ثقيلة ويصعب التحرك بها، وتُعدّ كالكفن الحديدي عند مواجهة خصم قوي وسريع مثل بيلّاك.
غير أن فرسان المعبد يصنعون دروعهم بأسلوب خاص يجعلها خفيفة ومتينة في آنٍ واحد.
‘كما هو الحال مع زيّنا الرسمي، لديهم أسرارهم الخاصة.’
قالت نينا، وما زالت تمسك بسيفها:
“كيف تطلقون الأسهم وهناك أناس في المكان؟”
أجابت الأميرة فيارنتيل بصوت رنان:
“ظننت أن سيدة السيف نينا قادرة على تفاديها بسهولة.”
كانت لا تزال تحتفظ بمظهرها الباهر وزينتها المذهلة.
ردّت نينا بنبرة تتأرجح بين اللباقة والاعتراض:
“ربما لو كنت بمفردي، ولكن رفاقي كانوا معي أيضًا.”
قالت الأميرة:
“كان جلّ ما فكرت به هو القضاء على البيلاك بأسرع ما يمكن لتقليل خسائر المدنيين. كما أن زيّ فرقة الفرسان السوداء معروف بقدرته الدفاعية.”
كان من الواضح أنها لا تنوي الاعتذار.
حقًا، من اعتاد أن يكون في القمة لا يرى في الاعتذار لمن دونه أمرًا لائقًا.
“لقد تأخرتُ في الوصول، أعتذر.”
في تلك اللحظة، تدخلت القديسة بينهما، وما إن مدّت يدها حتى رافقها قائد فرسان المعبد.
سارت بخطى رشيقة، تكاد تنساب كما لو كانت تسبح في الهواء.
كان رداءها الطويل الأبيض مطرزًا بخيوط ذهبية، ويغطي رأسها حجاب من الدانتيل.
‘يا للعجب.’
كان الحجاب طويلًا إلى درجة أنه يجر خلفها على الأرض.
هكذا تظهر في ساحة المعركة؟
ابتسمت نينا ابتسامة ساخرة، ثم هزّت رأسها وأعادت جسدها إلى وضع الاستعداد. لكل مقامٍ مقال.
وبما أنها ما تزال تمسك بسيفها، رفعت نصلها أمام وجهها ثم أنزلته بشكل مائل، مؤديةً تحية شبه رسمية.
“أنا نينا لا ديل، قائدة فرقة فرسان الظلام .”
“أنا القديسة لوكريتسيا.”
أدّت السيدة تحية رشيقة، مضمومة المرفقين إلى خاصرتها، وذراعاها منفرجتان قليلًا.
‘ومن هذه؟’
أين فيونا التي أعرفها؟
مسحت نينا على جبهتها بأصابعها، وكانت أفكارها تتضارب في رأسها.
“لم أكن أعلم أنكِ هنا. سمعت أن دوق لوفرين توجه اليوم إلى منزل دوق بريفان.”
أجابت نينا هي تحني خصرها قليلا ردا على كلمات فيارينتيل:
“المرافقة اليوم أُسندت إلى غيري، وأنا حضرت الحفل بصفة شخصية.”
“فهمت. ليتني علمتُ بذلك من قبل… لعلّ أخي الأمير ظهر بمظهر غير لائق أمامكِ.”
“قضيتُ وقتًا لطيفًا مع الأمير باراديف.”
“آمل أن يأتي يوم نقضي فيه وقتًا لطيفًا معًا.”
أصدرت الأميرة فيارنتيل أوامرها لفرقتها بإنقاذ الناس ورعاية المصابين.
أما القديسة، فقد شرعت في تطهير جثث بيلّاك، وكان فرسان المعبد يسيرون خلفها.
تابعت نينا المشهد بصمت، حتى اقترب منها راجا وهو ممسك بسيفه.
وبما أن القائدة نينا لم تُعد سيفها إلى غمده ولم تعلن انتهاء القتال، لم يكن بوسعه أن يفعل ذلك أيضًا.
“هل أنتِ بخير؟”
“تمامًا.”
أجابت نينا، وهي تتذكر حديثها السابق مع الأمير باراديف بشأن القديسة.
التعليقات لهذا الفصل " 118"