كانت مقصدًا دائمًا للقراصنةِ. لذا، تعاهدَ القراصنةُ سرًّا فيما بينَهم بعدم أرتكاب أيَّ جرائمَ هنا.
فلا أحدَ يرغبُ في خسارةِ مكانٍ يمكنُه التجوّلُ فيهِ براحةٍ، خاصةً وأنَّ البحريّةَ تتحيّنُ الفرصَ لطردهم وتطهيرِ المكانِ.
لذا، كان من الأفضلِ عدمُ إعطائِهم أيَّ ذريعةٍ.
لكنَّ هذهِ الاعتباراتِ لم تكن تهمُّ نيريوس أبدًا؛ فهو من النوعِ الذي لا يسامحُ أيَّ شخصٍ يمسُّ أحدَ أفرادِ طاقمِه، حتّى لو أدّى ذلكَ لتوترِ علاقتِه مع بقيةِ القراصنةِ.
بمعنى آخرَ، كان أولئك الأشخاص في المتجرِ على وشكِ الموتِ حقًّا.
‘لكن لم أتوقع أن ينتهيَ الأمرُ هكذا فعلاً.’
كان طلبُ الحصولِ على كلِّ شيءٍ مجرّدَ تهديدٍ في البدايةِ.
في الواقعِ، كان من المفترضِ استعادةُ الأموالِ التي دفعَها نيريوس فقط، مع إضافةِ فائدةٍ تحتَ مسمّى التعويضِ الماليِّ.
لكنَّ القرصانَ يظلُّ قرصانًا. لقد أفرغَ غيلبرت ونيريوس متجر لوناتيك حتّى من الملابسِ التي كانت مخبأةً بعنايةٍ.
‘على أيّةِ حالٍ، الملابسُ أرخصُ من ثمنِ حياتِهم، أجل.’
وبما أنَّهم هم من بدأوا بالخطأِ، فلن يجرؤوا على طلبِ المساعدةِ من أيِّ جهةٍ.
في تلكَ اللحظةِ، تناهى إلى مسمعي حديثُ نيريوس وغيلبرت.
“بالمناسبةِ، يبدو أنَّه كان من المفترضِ وصولُ زبونٍ آخرَ غيرِ أولئك الذين كانوا بالداخلِ.”
“لحسنِ الحظِّ أنَّنا انتهينا قبلَ وصولِه.”
“حقًّا. كنتُ سأقضي على ذلكَ الشخصِ أيضًا لو صادفتُه.”
‘……’
لم أسأل “كيف ستقضي عليه؟” وأنا أستمعُ لحديثِهما.
“آه، توقّفا عن هذا وهيا بنا بسرعةٍ…”
كنتُ أسيرُ أمامَهما بمسافةٍ، ثمَّ التفتُّ لأحثّهما على التوقفِ عن الأحاديثِ التافهةِ والإسراعِ، لكنَّ الكلماتِ انحبست في فمي.
‘هاه؟’
رجلٌ، لا يبدو أنَّه ينتمي لهذا المكانِ أبدًا، كان يقتربُ نحو متجر لوناتيك.
شعرٌ رماديٌّ يميلُ للزرقةِ، وعينانِ بلونِ التربةِ الصفراءِ. ورغمَ أنَّ الرجلَ ذو النظراتِ الحادّةِ كان يبدو أصغرَ سنًّا ممّا في ذاكرتي، إلا أنَّني عرفتُه فورًا.
‘آه، أبي.’
إنَّه دانديل أكيرا، الرجلُ الذي كان والدي.
بمجرّدِ رؤيتِه، تجمّدت قدمايَ في الأرضِ كأنَّهما مِرساةٌ أُلقيت في القاعِ.
“يا صغيرةُ، ماذا تفعلينَ في منتصفِ الطريقِ؟”
“آه، أوه، هـ-هذا…”
هل كان والدي موجودًا هنا في ذلكَ الوقتِ؟ تيبّسَ لساني.
لا يجبُ أن يراهُ نيريوس وغيلبرت خلفي، ماذا أفعلُ؟ لم أتوقع أن يتحدثَ إليَّ.
“سـ-سيادةَ العقيدِ…”
“همم؟”
عندما ناديتُه بلقبِه، بدا مستغربًا تمامًا.
“أنا لستُ عقيدًا. هل خلطتِ بيني وبينَ شخصٍ آخرَ؟ آه، هل تقصدينَ رتبةً في البحريّةِ؟”
“……”
من شدّةِ ارتباكي، نسيتُ أنَّه لم يكن عقيدًا في هذهِ الفترةِ بعدُ.
‘هل كان برتبةِ رائدٍ حينها؟’
لا أعرفُ حقًّا؛ فهو لم يكن يحدّثني أبدًا عن مواعيدِ ترقياتِه.
أصلاً، لم تكن بيننا أحاديثُ شخصيّةٌ كثيرةٌ.
كان يقولُ لي إنَّ تداولَ مثلِ هذهِ الأمورِ معي لا فائدةَ منهُ، وبدلًا من إضاعةِ الوقتِ في الكلامِ، كان يعلّمني واجباتِ جنديِّ البحريّةِ.
يعودُ الفضلُ في كوني أصبحتُ جنديّةً مرموقةً إلى تعليماتِه الصارمةِ.
وهناك حقيقتانِ كنتُ أعرفُهما عنه بكلِّ تأكيدٍ…
“آه~ المعذرةُ. هذهِ ابنتي. كنتُ أحملُ الكثيرَ من المتاعِ ولم أستطع اللحاقَ بها وهيَ تسبقني.”
“أهكذا الأمرُ؟ احذروا، فغالباً ما يُشاهَدُ القراصنةُ في هذهِ الأنحاءِ. إنَّهم حثالةٌ يختطفونَ الصغارَ والكبارَ دونَ تمييزٍ إن سنحت لهم الفرصةُ.”
بينما كنتُ أتقلّبُ قليلًا على الأريكةِ، جلسَ إيثان بسرعةٍ جهةَ قدميَّ، ووضعَ ساقيَّ فوقَ فخذيهِ بحركةٍ طبيعيّةٍ جدًّا.
“بصراحةٍ، أشعرُ وكأنَّهم يسخرونَ مني.”
“يسخرونَ؟ بل ينادونكِ بذلكَ لأنَّ الجميعَ يعزّكِ.”
“……”
حدّقتُ في السقفِ بشرودٍ، ثمَّ سألتُ فجأةً:
“هل تعزّني أنتَ أيضًا يا إيثان؟”
“بالتأكيدِ.”
“حتّى لو كنتُ كثيرةَ المشاكلِ ولا أستطيعُ فعلَ شيءٍ، ولا أعرفُ شيئًا تقريبًا، ولم أكن عندَ حسنِ الظنِّ؟”
“سأظلُّ أعزُّكِ مهما فعلتِ، لكن حبّذا لو كنتِ عندَ حسنِ الظنِّ.”
“وماذا تتوقعُ مني يا إيثان؟”
“بولاريس، أتمنى فقط أن تكوني بخيرٍ وبصحةٍ جيدةٍ.”
كان صوتُ إيثان ناعمًا للغايةِ، وشعرتُ بصدقِ كلماتِه. اهتزَّ شيءٌ ما في أعماقِ قلبي.
حتّى قبلَ عودتي بالزمنِ، كنتُ مقربةً جدًّا من إيثان.
كنتُ أقضي وقتًا طويلاً بجانبِه بسببِ مرضي، ورغُمَ أنَّه لم يكن يعاملني بحميميةٍ كبقيةِ أفرادِ العائلةِ، إلا أنَّه كان شخصًا بالغًا ولطيفًا.
صريييير― بوم―!
في تلكَ اللحظةِ، فُتحَ البابُ بقوةٍ ودخلَ شخصٌ ما بخطواتٍ ثقيلةٍ نحوي.
“……”
“أما زلتِ عابسةً هكذا؟”
“لستُ عابسةً.”
“بلى، أنتِ كذلكَ~!”
كان نيريوس قد عادَ من مكانٍ ما، وقد اختفت ملامحُه الأنيقةُ التي رأيتُها نهارًا.
“إلى أين ذهبتَ بهذا المنظرِ؟”
“انظروا لأسلوبِ حديثِها~ يا إلهي، لا أدري لماذا أراكِ جميلةً بينما أقدّمُ لكِ كلَّ شيءٍ دائمًا~”
“إذًا، هل تكرهني؟”
“لا، بل أحبُّكِ حتّى الموتِ.”
“لقد سحرتِني، هذا هو التفسيرُ الوحيدُ، لابد أنّكِ ساحرة و ليس أميرة.”
تمتمَ نيريوس وهو يضعُ صندوقًا يحملُه فوقَ جسدي. كان ثقيلًا نوعًا ما.
“ما هذا؟”
“هذا لكِ، افتحيهِ~ إن لم ترغبي بهِ فسيأخذُه أبوكِ.”
“كيفَ أقولُ إنَّني لا أريدُه وأنا لا أعرفُ ما بداخلِه أصلاً؟”
ظلَّ نيريوس يبتسمُ باستمرارٍ. في النهايةِ، اعتدلتُ في جلستي وفتحتُ الصندوقَ، ففتحتُ فمي بدهشةٍ كالحمقاءِ.
“……”
“أوه؟ أبوكِ لم ينسَ هذا، بل لأنَّ الأحمالَ كانت كثيرةً لم أشترِهِ حينها. لذا لا تظلي عابسةً وتذكري لي هذا الموقفَ لمدّةِ عشرِ سنواتٍ، اتّفقنا؟”
كان في الصندوقِ نوعانِ من كعكةِ الشوكولاتةِ، وكعكةُ موس مغطاةٌ بكثيرٍ من البرتقالِ، وكعكةُ الفراولةِ، ولفائفُ الكريمةِ، وحتّى علبةُ ماكرون من خمسِ قطعٍ…
التعليقات لهذا الفصل " 23"