الفصل 17
“هيك.”
أُصيب هيبيريون، الذي سمع هراء نيريوس، بالفواق بينما احمرّ وجهه خجلًا.
أرأيت؟ من شدّة ما كان كلامه غير متوقّع ومحض هراء، ارتبك الصبيُّ بهذا الشكل.
“أبي.”
“نعم يا ابنتي.”
“أنا أيضًا أرى أنه جميلٌ حقًّا، لكن ليس لديّ أيّ نيّة في الدخول في علاقةٍ عاطفية. هذا موضوعٌ سابقٌ لأوانه بالنسبة لي.”
“هيك، هيك! هيك!”
هذا سابقٌ لأوانه بنحو… 100 عام تقريبًا. فالدخول في علاقة يعني التفكير في الزواج، والزواج يعني اعتزال الإبحار ومغادرة السفينة، أليس كذلك؟ وهذا أمرٌ لا يمكنني قبوله أبدًا.
بقدر ما انفصلتُ عن كايلوم رغما عني في حياتي السابقة، سأبقى هنا هذه المرّة حتى يبلَى علم ‘جولي روجر’ ويختفي.
لينا: علم جولي روجر هو راية القراصنة الشهيرة (جمجمة وعظمتان)
“كما أنه لا يزال في الثامنة من عمره فقط، وأنا لا أشعرُ بمشاعر عاطفية تجاه الأطفال.”
“……”
أيُّ شخصٍ عاقلٍ سيشعرُ بخفقان قلبه تجاه طفلٍ صغير؟ سيكون مجنونًا بلا شكّ.
“يا لارا، كم كان عمركِ مجددًا؟”
“هاه؟ أوه…”
عجزتُ عن الردّ أمام ملحوظة نيريوس. صحيح، أنا الآن في السادسة من عمري، تذكرتُ ذلك.
“أنا ذوقي في الرجال يميلُ لمن هم أكبر سنًّا.”
“قلتِ إنه في الثامنة.”
“أجل.”
“بما أنكِ في السادسة، أليس هو أكبر سنًّا منكِ بالفعل؟”
“……”
بدا نيريوس ذكيًّا للغاية اليوم على غير العادة.
“آه، لا أعرف، لا أعرف! ابنة السادسة لا تفهمُ هذه الأمور المعقّدة!”
ما الفائدة من خوض مثل هذا النقاش العقيم؟
على أيّ حال، أنا لا أحبُّ هيبيريون وهو كذلك، وسيبقى الأمرُ هكذا إلى الأبد.
‘لم يكن ريون يحبني قبل العودة بالزمن، لذا لن يتغيّر شيء.’
مشاعر الحبّ بالنسبة لرجال البحرية هي نوعٌ من الترف.
فهي تشكّل عائقًا كبيرًا أمام حماية العدالة، لدرجة أنه كان هناك تنبيهٌ في المناهج التعليمية يحثُّ على عدم تكوين علاقاتٍ غرامية دون داعٍ.
بمعنى آخر، هيبيريون الذي سيعودُ ليكون رجل بحرية في المستقبل لن يحبني أبدًا.
بل عليّ الآن أن أبذلَ قصارى جهدي حتى لا يكرهني عندما يكتشفُ أنني قرصانة، وليس لديّ رفاهيةُ مسايرة هراء نيريوس.
أمسكتُ بيد هيبيريون وتوجّهتُ نحو طاولة الطعام.
وعلى عكس ما كان عليه الحال منذ قليل، كان الجميعُ يجلسون بهدوءٍ ويتناولون طعامهم، لكن الطعام كان لا يزال مكدّسًا بوفرة.
للأسف، يبدو أنه لم يكن هناك أحدٌ في كايلوم يشعرُ بغرابة تجاه تكدّس الطعام كالجبال بهذا الشكل.
دون حاجةٍ للبحث، كان هناك مقعدٌ خالٍ ومرتّب.
“فلنجلس هنا.”
تفحّصتُ بعنايةٍ أنواع الأطباق المكدّسة في كلّ وعاء، واخترتُ القليل منها ووضعتها أمام هيبيريون.
“…!”
ما إن قضم هيبيريون، الذي كان يتفحّصُ كلّ صنفٍ بدقّة، لقمةً واحدةً حتى اتسعت عيناه وتحرّكت وجنتاه ببهجة.
كان ذلك طبيعيًّا؛ فأنا أتذكّرُ تمامًا المذاقات التي كان يفضّلها ريون.
وبما أنه كان نادرًا ما يُظهر تفضيلاته، فقد كان تذكّرُ تلك الأشياء القليلة أمرًا سهلًا للغاية.
“لذيذٌ، أليس كذلك؟ مهارة أبي غيلبرت في الطبخ هي الأفضلُ في العالم، وليس في سفينتنا فقط.”
“بالتأكيد، بمجرد أن تتذوّق طعام غيل، ستدمنُ عليه. لقد ظننتُ حقًّا أنه يضعُ فيه مواد مخدرة غير قانونية! يا صاح، هناك سببٌ لعدم تعاطي بحّارتنا للمخدرات.”
“بل السببُ هو أنك قلتَ إنك ستلقي بنا في البحر إذا تعاطينا ولو القليل من المخدرات!”
“صحيح، صحيح!”
“اصمتوا أيها الأوغاد! فلتغرقوا في برميل خمرٍ وتموتوا لكن لا تلمسوا المخدرات!”
ألقى نيريوس دعابةً من نوع دعابات القراصنة السمجة، ثم سحب كرسيًّا وجلس بيني وبين هيبيريون.
“كُلي أنتِ أيضًا، مَن يراكِ يظنُّ أننا نجوعكِ، وأنتِ نحيلةٌ هكذا.”
وهكذا، وُضعت أمامي كميّةٌ من الطعام تكفي لرجلين قويين.
“أبي، لا يمكنني أكل كلّ هذا.”
“ماذا؟ عما تتحدثين؟ عندما كنتُ في مثل عمركِ، لو تسنّى لي أكل وجبةٍ كهذه لمرّةٍ واحدةٍ لكانت أعظم أمنياتي.”
“وهل أنا وأنتَ سواء؟”
عندما نطقتُ بكلماتي بحدّةٍ دون إخفاء شعوري بالاستياء، بدأ نيريوس يأكلُ من طبقي بملامح حزينة قليلًا.
“أميرتنا متطلبةٌ جدًّا…”
“أنتَ هو المتساهلُ أكثر من اللازم!”
بينما كنتُ أدفعُ نيريوس الذي يصرُّ على وضع الأومليت في فمي، شعرتُ بنظرةٍ حادّةٍ من بعيد.
كان غيلبرت يحدّقُ بشدةٍ في قفا نيريوس من خلال شقّ باب المطبخ المفتوح قليلًا.
‘واو، نظراته تكفي لقتل شخصٍ ما.’
“لماذا تنظرين هكذا–، يا إلهي!”
أدرك نيريوس أنّ نظراتي تتجهُ خلف ظهره، فالتفتَ وأطلق تنهيدةً ثقيلة. لقد كان مشهدًا نادرًا أن يرتعب قبطان قراصنة من نائبه.
“سأذهبُ للمطبخ للحظة يا لارا.”
هكذا توجّه نيريوس نحو المطبخ، وتبع ذلك فورًا صوتٌ رنانٌ يشبهُ ضربَ الرأسِ بمقلاةٍ حديدية.
“أوه.”
“يا ساتر.”
لينا: الأصول هي يا إلهي بس حبيت الأختلاف✨
“هذه المرّة الخطأ على القبطان، يحقُّ للنائب أن يغضب.”
“بالتأكيد.”
“ولكن في الأصل، الخطأ دائمًا ما يرتكبه القبطان، والنائب يغضبُ مهما فعل.”
كان ردُّ فعل الجميع هادئًا رغم الضجيج الهائل، والوحيدُ الذي ارتبك في هذه الأثناء ولم يعرف ماذا يفعلُ هو هيبيريون.
“ريون، ما بك؟”
“ألم… ألم يُضرب ذلك السيد قبل قليل؟”
“بلى، هذا ما حدث. لكن توبيخ أبي من قِبل نائب القبطان غيلبرت أمرٌ يتكررُ يوميًّا.”
“تـ-توبيخ؟”
“نعم، أقصد… ليس من النادر أن يتلقّى التوبيخ كهذا.”
“تـ-توبيخ؟ لا يبدو لي مجرد توبيخٍ بسيط.”
لماذا يندهشُ من شيءٍ كهذا؟ فالحياةُ في البحرية تشهدُ مواقفَ أسوأ.
أصلًا، مهما بلغت درجة توبيخ غيلبرت لنيريوس، لم يكن ذلك يشكل مشكلةً كبيرةً بيننا.
قد يبدو الأمرُ للوهلة الأولى تمرّدًا من المرؤوس على رئيسه، لكن لا يوجد أحدٌ على سفينتنا لا يعرفُ أنّ غيلبرت لا يملكُ أيّ نيّةٍ لذلك.
فكلُّ ذلك في النهاية لا يحدثُ إلا لوجود المودّة والثقة.
“أبي يتمتعُ بصحّةٍ وقوةٍ أكبر من الآخرين، لذا لا تقلق. لن يموتَ من شيءٍ كهذا.”
“حقًّا؟”
“آه، ولكن إذا واجهتَ موقفًا مشابهًا في مكانٍ آخر، فمن المحتمل ألا يكون الوضعُ مثل وضعنا، فلا تتقبّله بنفس الطريقة.”
“فـ-فهمت….”
قلتُ ذلك من باب الاحتياط، وكان حدسي في محله.
فهو قد تربّى منذ الصغر على الاضطهاد في منزله، وقد يسيءُ فهم تصرّف غيلبرت تجاه نيريوس ويظنُّ أنّ كلّ المعاملة غير العادلة التي تلقّاها سابقًا كانت مجرد نوعٍ من المودّة.
“يا إلهي.”
تنهّدتُ بعمق.
لا أصدّقُ أنني في هذا العمر أضطرُّ للعناية بالاطفال وبالكبار أيضًا.
حسنًا، لا بأس… هذا أفضلُ من الأيام التي لم يكن لديّ فيها عائلة.
وضعتُ كأسًا من عصير التوت البري في يد هيبيريون وتوجّهتُ نحو المطبخ.
“أبي.”
كان غيلبرت يمسكُ نيريوس من ياقته بيدٍ واحدة، بينما يحملُ قدرًا كبيرًا للمعكرونة باليد الأخرى.
“……”
“لـ-لارا، هل أتيتِ؟”
“بولاريس، هذا مشهدٌ غير لائقٍ لتشاهِديه، عودي لمكانكِ وتناولي طعامكِ.”
“أيها النائب، أرجوكَ اترك أبي.”
بما أنني رأيتُ أنّ من الأفضل التزام الأدب مع غيلبرت، تكلّمتُ بتهذيبٍ متعمّد، فظهرت على وجهه ملامحُ عدم الرضا.
وفي المقابل، ارتسمت على وجه نيريوس، الممسوك من ياقته، ابتسامةٌ مستفزة.
‘واو، إنه مستفزٌّ حقًّا.’
-كانغ!
ضرب غيلبرت رأس نيريوس بالقدر.
“ألم تقل إنه مشهدٌ غير لائقٍ للطفلة؟”
“…هذا تعليمٌ مبكر.”
كان من المدهش رؤية غيلبرت، الذي كان في ذاكرتي دائمًا شخصًا عنيفًا أو ساخرًا، يتحدّثُ بهذا الشكل.
كنتُ أظنه سابقًا نقيض نيريوس تمامًا، لكنني الآن أرى فيهما جوانبَ متشابهةً كثيرة.
‘ربما لأنهما كانا صديقين قبل أن يصبحا قرصانين؟’
“الآن هو وقتُ الطعام وليس وقت الدرس. لماذا توبّخ أبي هكذا؟ حتى أنه لا يستطيعُ الأكل.”
لم يردّ غيلبرت على سؤالي، بل اكتفى بالنظر إليّ بنظرةٍ باردة.
كنتُ أهابُ نيريوس وغيلبرت بشكلٍ خاص عندما كنتُ صغيرة؛ لا أتذكرُ سبب خوفي من نيريوس، لكن بالنسبة لغيلبرت فالسببُ كان واضحًا.
أجل، تلك النظرةُ الباردةُ كانت مخيفةً ومهيبة.
ورغم أنه كان نحيلًا كأغصان الشتاء، إلا أنه كان الشخصَ الأكثر عنفًا على سفينتنا.
‘بما أنهم قالوا إن نيريوس هو من أحضرني للسفينة دون تمهيد، فمن الطبيعي ألّا يعجبَ ذلك غيلبرت بصفته نائب القبطان.’
دائمًا ما كان نيريوس يفتعلُ المشاكل وغيلبرت يصلحها، أو نيريوس يرتكبُ الحماقات وغيلبرت يغضب؛ لذا كان من البديهي ألا يروق لغيلبرت وجودي وأنا التي كنتُ مجرد عبءٍ قبل العودة بالزمن.
هذا ما كنتُ أظنه بديهيًّا.
“و أنتِ لماذا لا تنادينني بـ ‘أبي’ أيضًا؟”
…حتى سمعتُ هذه الكلمات.
“هاه؟”
“بو، بوهاهاهاك!”
بصراحة، لم يكن أمامي سوى الردّ بذهولٍ على سؤال غيلبرت.
أما نيريوس، الذي كان لا يزال ممسوكًا من ياقته، فقد انفجر ضاحكًا بشدة.
“هل يريدُ… نائب القبطان أيضًا أن أناديه بـ ‘أبي’؟”
“أشعرُ أنني الوحيدُ الذي تضعين بيني وبينه مسافة. هذا لا يعجبني أبدًا.”
مهما كنتُ ناضجةً من الداخل وقد عدتُ بالزمن، كان من الصعبِ تقبّل مثل هذه الأمور بهدوء. كان هذا أكثر صدمةً من إدراكي لحقيقة أنّ آيزاك رجلٌ ثرثارٌ بعض الشيء.
“أ-أبي غيلبرت؟”
“همم.”
توقف غيلبرت للحظة بعد أن ناديتُه بأبي، ثم ألقى بنيريوس في زاوية المطبخ.
سُمع دويُّ اصطدامٍ وتحطم! أصواتٌ متداخلةٌ ملأت المكان.
“آخ، آخ…”
“رغم أنني لستُ راضيًا تمامًا عن كون هذا المدعو نير هو ‘أبي’ فقط وأنا ‘أبي غيلبرت’، إلا أن هذا القدر كافٍ.”
بدأتُ أتقبّلُ الأمر تدريجيًّا. حقيقةُ أنّ أفراد طاقم قراصنة كايلوم هم مجرد حمقى يتصرفون كالأطفال رغم كبر سنّهم.
“إذًا، أبي غيلبرت. ما الذي يجعلك غاضبًا إلى هذه الدرجة؟”
“لأنه أحضر طفلًا مجددًا دون إذن، وكأنه يجمعُ الكلاب الضالّة.”
“لكنه كان سيموتُ لو لم يفعل ذلك…”
“كان عليه أن يأخذه ويسلّمه للأمن أو لفرع البحرية أو لأيّ مكان، لا أن يحضره هنا. وهو ليس مجرد طفلٍ عادي، بل طفلٌ من عائلة فاروس.”
لقد علمتُ أنه سيصبحُ عضوًا في البحرية.
من خلال كلمات غيلبرت، استطعتُ أخيرًا فهم سبب غضبه.
حتى لو كان في الثامنة فقط، فعضو البحرية يبقى عضو بحرية، وبالنسبة لطاقم قراصنة كايلوم الذي بدأت شهرته السيئة تزداد، فإنه يعتبرُ وجودًا مزعجًا بلا شكّ.
“لكنّ أبي لم يكن يعرفُ ذلك في البداية.”
“أجل، قد لا يكون عرف في البداية. لكنه عرف لاحقًا. كان عليه أن يبلغني فورًا، لكنه لم يفعل، بل جلس يأكل بابتسامةٍ عريضة وكأن شيئًا لم يكن.”
“أمم…”
هذا الكلامُ كان صحيحًا أيضًا، لذا اكتفيتُ بالإيماء برأسي.
“إذًا، هل تريدُ طرد الطفل؟ الآن فورًا؟”
لكن أمام هذا السؤال، ظهرت ملامحُ التردد على وجه غيلبرت.
فمهما كان من البحرية ومن عائلة فاروس، بدا أنّ هذا الخيار مزعجٌ أيضًا.
فمن المؤكد أنّ غيلبرت قد سمع تفاصيل الموقف الذي تعرّض له هيبيريون، لذا كان من الواضح أنّ طرد الطفل الآن سيعرّضه لمعاملةٍ غير عادلةٍ في الخارج.
“…بمناسبة هذا الأمر.”
قرّرتُ أن أرمي طُعمًا صغيرًا لغيلبرت.
“أنا لارا، ابنة آبائي، لديّ فكرةٌ فكّرتُ بها.”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 17"