‘تماسكي بولاريس كاليوم.”
لم يكن هناك داعٍ لأن أُخبِر نيريوس بالحقيقة.
ليس فقط عن عودتي بالزمن، بل إنْ عَلِمَ بنهاية طاقم قراصنة كايلوم، فكم سيكون وقع الصدمة عليه؟
كانت معلوماتٍ غير ضروريّة، وسيكون من الأنفع ألّا أقولها حتّى أموت.
هززتُ رأسي بخفّة.
‘وما الفائدة من قول شيء كهذا أصلًا.’
كان مالك البستان يتمايل وهو يجمع الموادّ معًا، بينما حمل نيريوس الحِمل المربوط بإحكام بكلّ سهولة.
“هيّاااه، أميرتنا الصغيرة ستُوسّخ حذاءها بالطين في طريق العودة~ مؤسف، أليس كذلك~؟”
“لقد اتّسخ فعلًا لأنّ أبي أنزلني على الأرض.”
“……”
“ومن قال لي أن أرتدي حذاءً أبيض اليوم أصلًا؟ ومن الذي اختار ملابسي؟ هذا اختيارٌ كارثيّ فعلًا.”
“أسلوبكِ في الكلام… لماذا أنتِ غير لطيفة إلى هذا الحدّ؟”
“…نيريوس، هل تكرهني إن لم أكن لطيفة؟”
عند سؤالي، تغيّر تعبير نيريوس على نحوٍ غريب.
‘ما هذا الوجه؟ لو رآه طفلٌ لبكى خوفًا.’
عقد حاجبيه قليلًا، وظلّ ينظر إليّ دون أن يقول شيئًا لثوانٍ، ثمّ فُتِحَ فمه المغلق.
“هل تسألين بجدّية؟”
“مستحيل. أنتِ ابنتي. مهما فعلتِ، أنا… بل نحن، لن نكرهكِ أبدًا.”
“و طبعًا. وفوق ذلك، أنتِ ألطف بكثير ممّا كنتُ عليه عندما كنتُ في السادسة، فلا تقلقي.”
نيريوس في سنّ السادسة؟
لم أستطع تخيّل الأمر، فظللتُ أتفحّص وجهه بدقّة ثمّ أومأتُ برأسي.
يبدو أنّه كان يملك هذه الشخصيّة وهذا الجوّ منذ لحظة ولادته.
“هذا منطقيّ فعلًا.”
“هاه، أيتها المشاغبة!”
“مع ذلك لا تقلق. أبي يبدو مخيفًا جدًّا، لكنّي مع ذلك أحبّه كثيرًا~”
قلتُ ذلك بقصد المزاح، لكنّ نيريوس أجاب بهدوء.
“ليست حقيقةً مفاجئة.”
“هاه؟”
“لأنّك الوحيدة التي لم تبكِ أو تتجمّد رعبًا عند رؤيتي.”
ابتسم نيريوس ابتسامةً خفيفة وأشار إليّ برأسه.
“هيا، لنذهب بسرعة.”
كانت ابتسامته، ولو للحظةٍ خاطفة، تشبه ابتسامة شرير.
دعوتُ في سرّي ألّا يكون هناك حرّاس قريبون.
لكن في الحقيقة، سواء ابتسم نيريوس أم لا، فمظهره شريرٌ بما فيه الكفاية، ولو رآه أحدُ الحرّاس فسيحاول بالتأكيد القبض عليه واستجوابه.
ونيريوس ليس رجلًا يمرّ على هذا النوع من المعاملة مرور الكرام.
لا بدّ أنّه، بحجّةٍ فظّة مفادها أنّه تعرّض للظلم ويجب أن يردّ الصاع صاعين، سيقضي عليهم.
فهو يكره الضيق والتعقيد إلى أبعد حدّ.
‘أرجوك يا إلهي، دعنا نمرّ بسلام.’
لم يكن نيريوس على علمٍ بهذه النوايا النبيلة، وكان يبتعد فحسب.
سارعتُ أنا أيضًا وأتبعتُه.
لا، كنتُ على وشك أن أفعل.
مع إحساسٍ قاسٍ وعاجل، اهتزّ مجال رؤيتي بعنف، وغثى معدتي.
ثمّ ارتفع جسدي في الهواء، وشعرتُ بملمسٍ حادّ عند عنقي.
“أيّها القرصان المجنون!”
“……”
“XX! أيّها الوغد، تتظاهر بأنّك إنسان! القراصنة قد يموتون على السفن، أليس كذلك؟ أليس موتهم نافعًا للعالم أصلًا؟! ثمّ إنّك حيّ! فلماذا XX بي؟!”
“هه…”
في لحظة، أُمسِكتُ وصرتُ رهينة، وكان نيريوس ينظر إلى مالك البستان الذي أمسك بي، بوجهٍ يعبّر عن الذهول.
‘ألم يكن قد توسع بهذا الحجم يفضل نيريوس؟’
كان هذا البستان في مكانٍ ناءٍ نسبيًّا، فلم يكن يحظى بحمايةٍ حقيقيّة.
لكنّ توظيف حرّاس خاصّين كان مكلفًا، لذلك كان من يريدون توفير المال يعقدون صفقاتٍ سرّيّة مع القراصنة.
فالقراصنة يحتاجون إلى الإمدادات في وقتها، وكان هناك عرفٌ غير مكتوب بأنّ من يؤذي أحد متعامليهم الدائمين يُلاحَق إلى أقاصي البحر ويُقضى عليه.
وبما أنّهم أشرار، كان كسب الولاء أمرًا بالغ الصعوبة، لذا إن اعتبروا شخصًا من جماعتهم، بذلوا كلّ ما في وسعهم لحمايته.
بمعنى آخر، فإنّ فتح خطّ تجارة دوريّ مع القراصنة كان أشبه بالمقامرة، لكن مقابل تخفيضٍ بسيط في الأسعار، كان المرء ينال الحماية ويجني المال.
‘ومع ذلك، بعد هذه الخيانة، لا عجب أن يغضب نيريوس.’
ظللتُ رهينة، أراقب الوضع بهدوء.
كان وجه نيريوس جامدًا، لكنّه لم يبدُ قلقًا على الإطلاق.
“لارا، أغمضي عينيك.”
“حسنًا.”
لم أطرح أيّ سؤال، وأغمضتُ عينيّ فورًا.
عندها دوّى صوت إطلاق نار.
تانغ—!
بدا أنّ الطلقة أُطلِقت من مسافةٍ ما.
“آااااه!!”
تتابعت صرخات رجلٍ متألّم تؤلم الأذن، وبدأ جسدي يسقط نحو الأرض.
لكنّي شعرتُ بذراعين كبيرتين تلتقطانني بثبات.
‘هذا يشبه الديجافو.’
“يا للعجب، سقطت كلّ الأعشاب الطبيّة على الأرض.”
ابتسم نيريوس ابتسامةً خفيفة وهو ينظر إليّ بين ذراعيه.
“ماذا سنفعل؟ الآن لن يتّسخ حذاؤكِ فقط، بل ملابسكِ أيضًا.”
كان يحمل موادّ ملوّثة بالطين، لذا كانت ذراعه متّسخة، وبالطبع اتّسختُ قليلًا وأنا بين ذراعيه.
“إنّ هذا خطأك أبي.”
“هاه؟ تلقين اللوم على الآخرين؟”
لم أُجِب على سؤاله المازح، ووجّهتُ نظري نحو المكان الذي سقط فيه مالك البستان، لكنّ يد نيريوس غطّت مجال رؤيتي.
“أوه… آه…”
تردّد أنينٌ مليء بالألم من الأسفل.
شدّني نيريوس إلى صدره بإحكام، حتّى كدتُ أختنق، وبدأ يمشي بخطواتٍ ثابتة.
“سيّئ، سيّئ. لنذهب بعيدًا.”
“أبي، وماذا عن الموادّ؟”
“لا تقلقي. سيأتي حمّالٌ بعد قليل.”
‘كما توقّعت.’
كان قد وضع قنّاصًا في مكانٍ بعيد.
تساءلتُ لماذا تركني بسهولةٍ في مكانٍ كهذا، لكنّ الحقيقة أنّ أحدًا كان يراقبه أصلًا.
“بالمناسبة، ألم تخافي؟”
“لم أخف، لأنّي كنتُ أعرف أنّك ستنقذني.”
“من أين أتى هذا القلب الجريء؟”
كان يوبّخني بنبرةٍ كلاميّة، لكنّه بدا مسرورًا.
وبعد أن ابتعدنا قليلًا، أزال كلّ ما كان يحجب رؤيتي.
حينها رأيتُ من بعيد شابًّا نحيلًا بشعرٍ أسود يركض نحونا.
“آه.”
“هاه… هاه… أعتذر لتأخّري.”
“أين راميس؟”
“قال إنّه سيلحق بنا على مهل، وأمرني أن أسبق.”
“أيّها الوغد… أيّ بحّارٍ يتثاقل في المشي عندما يستدعيه القبطان؟”
هل يحاول هذا الرجل استخدام ألفاظٍ مهذّبةً الآن؟
فهو في العادة يتمتم بالشتائم دون أيّ حرج.
‘إنّه ببساطة لا يُدرك الأمر.’
لكن ما لفت انتباهي أكثر من تصرّفات نيريوس كان شيئًا آخر.
شعرٌ أسود، جسدٌ نحيل، عينان مائلتان إلى الأعلى، لكن بدلًا من أن يبدو قويّ الهيبة، كان أضعف من قنديل بحرٍ يطفو على سطح البحر.
“ديكستر؟”
“هاه؟ لماذا تنادينني، لارا؟”
كان ديكستر يحمل بندقيّةً طويلة لا تتناسب إطلاقًا مع بنيته الهزيلة.
‘لم أكن أعلم ماذا كان يفعل ديكستر…’
ظننتُ أنّني أعرف عائلتي جيّدًا، لكنّي، حتّى قبل عودتي بالزمن، لم أكن أعلم أنّه قنّاص.
!
كنتُ أظنّه عاملَ مهامّ بسيطة، لكنّه كان قنّاصًا بارعًا يثق به نيريوس ليحمي ظهره.
ذلك البكّاء الذي يبدو وكأنّه سيسقط لمجرّد رؤية قطرة دم، كان تلميذ راميس، أمهر رماة كايلوم!
‘كنتُ أراه أحيانًا ينظّف بندقيّته أو يدخل مخزن البارود، لكن لم أتخيّل هذا أبدًا، ولو في الحلم.’
انفتح فمي دهشةً.
ضغط نيريوس بيده على فمي المفتوح ليغلقه، وأمر ديكستر بحمل الأمتعة.
تطوّع ديكستر ليكون حمّالًا، وسأل نيريوس بحذر:
“سـ-سيّدي القبطان. فماذا سنفعل بذلك… ذاك اللقـ-، أعني الإنسان؟”
كنتَ على وشك أن تقول ‘لقيط’، أليس كذلك؟
كنتُ قد اعتدتُ على ألفاظ نيريوس الفجّة، لكن سماعها من ديكستر كان جديدًا تمامًا.
فهو أمامي كان دائمًا يتحدّث بلطفٍ يلامس الروح.
“راميس سيتكفّل به. رجلٌ برصاصةٍ في ساقه، هل تتوقّع أن يمشي جيّدًا؟”
“صحيح… هل نطلق النار على الساق الأخرى أيضًا؟”
ارتعش جسدي قليلًا عند هذا الحوار الدمويّ.
“لارا، هل تشعرين بالبرد؟ هل أضع عليك معطفي؟”
كان ديكستر، الذي كان يسأل نيريوس بصوتٍ جافّ قبل لحظات، يقلق عليّ الآن بنبرةٍ ناعمة بلا حدّ.
“لا، أنا بخير.”
“إن شعرتِ بالبرد فأخبريني. الإصابة بالزكام ستكون مشكلة.”
رفع ديكستر طرف فمه وهو ينظر إليّ، ثمّ فجأةً رفع رأسه وحدّق في اتّجاهٍ ما.
“سيّدي القبطان.”
“نعم، أشعر به.”
“بماذا؟”
لماذا يتحدّثان من دوني؟
نظرتُ إليهما بالتناوب بفضول، فقرأ نيريوس نظرتي.
“لا شيء مهمّ، فقط هناك حركة قريبة.”
“حركة؟ أليس هذا خطيرًا؟”
“لا~ الصوت صغير جدًّا. بالكاد… طفل في الثامنة أو التاسعة، ربّما.”
ابتسم نيريوس ابتسامةً عريضة، وسار بخطواتٍ واسعة نحو الجهة التي كان ديكستر ينظر إليها.
“أوه.”
“…!”
كان هناك صبيّ جميلٌ جدًّا.
‘هذا ثاني أجمل شخص أراه في حياتي.’
رأيتُ الكثير من الجميلين والوسيمين، لكن هذا الصبيّ، رغم صغر سنّه، كان يملك جمالًا يتجاوز حدود البشر.
‘وهو مغمض العينين بهذا الجمال، فكيف سيكون شكله عندما يفتحهما؟’
تنهدتُ بإعجاب، ثمّ أدركتُ أمرًا.
“…إنّه ممدّد على الأرض؟”
نعم.
كان الصبيّ مغمىً عليه.
وجهه محمّر قليلًا، يتنفّس بصعوبة، و كان مريضًا بلا شكٍ.
كان شكله كطفل أسدٍ من لوحةٍ فنيّة، لدرجة أنّني فشلتُ في استيعاب الموقف للحظة.
يا له من خطأٍ بدائيّ.
‘طبعًا، فالصوت الذي شعر به ديكستر كان صوت سقوطه.’
“أبي؟! إنّه طفلٌ مغمىً عليه، لماذا أنت هادئ إلى هذا الحدّ؟!”
صرختُ غاضبةً وجذبتُ شعر نيريوس بقوّة.
تألّم نيريوس بشكلٍ مبالغٍ به وأبعد يدي عن شعره.
“لأنّنا سنأخذه معنا!”
“الكلام الذي تمتمتَ به عند وصولنا إلى البستان كان هذا، أليس كذلك؟”
“هاه~ أنتِ طفلةٌ سريعة الفطنة، لا بأس بها.”
ضحك نيريوس، وحملني بذراعٍ واحدة، ثمّ حمل الصبيّ الأشقر الجميل على كتفه.
تأوّه الصبيّ قليلًا، كأنّ الوضع غير مريح.
“لكن لماذا يوجد طفلٌ صغير ومريض كهذا وحده هنا؟”
كنتُ قد انشغلتُ بالغضب ونسيتُ الأمر، لكن طفلًا في هذا العمر يجب أن يكون مع وصيّ.
أجاب نيريوس وكأنّي أسأله عن أمرٍ بديهيّ.
“لأنّه مهجور.”
“هاه؟”
“آثار عجلات العربة، رأيتِها، أليس كذلك؟”
“نعم.”
“تلك عربة جاءت لتتخلّص منه.”
“يا للجنون.”
“احرصي على ألفاظكِ يا ابنتي. إن استمررتِ هكذا، سأموت على يد غيل أو آيزاك.”
“أيُّ أبناء كلبٍ سيحضرون طفلًا هنا.”
“كلامكِ ليس خاطئًا، لكن الغريب أنّه يبدو موجّهًا لي، وهذا يجعلني متوتّرًا قليلًا.”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 12"