[العربةُ الآليّةُ الجديدةُ التي أطلقها برجُ السحر،
هل ستُحدث نسمةً من التغيير؟]
العربةُ الآليّة، التي تتميّز بسرعةٍ أعلى بكثيرٍ واستقرارٍ أفضلَ من العرباتِ التقليديّة، كانت أشبه بالسيّارات، إذ يمكنها التحرّك بذاتها دون أيّ قوّةٍ خارجيّة.
وعلى الرغم من أنّه لم يمضِ وقتٌ طويلٌ على إطلاقها، إلّا أنّ بعض الناس بدأوا بالفعل باستخدامها. ومن المؤكّد أنّها لم تكن رخيصة…
“أيتها الآنسة، يبدو أنّكِ تعرفين شيئًا أو اثنين. عائلتنا—!”
“أيها العجوز، كفى، أليس أنت من قال إنّ الصمت يمنح الرجل وقاره؟ لماذا تبدو خفيفًا إلى هذا الحدّ اليوم؟”
ارتبك الجدّ للحظةٍ كمن تلقّى صفعة، فتحوّل تعبيره سريعًا إلى العبوس. ومع ذلك، لم يُلقِ رون له بالًا، بل ظلّ يُحدّق ببرودٍ من النافذة.
ساد جوٌّ من البرودة داخل العربة في لحظة.
أمّا فينديا، العالقة بينهما، فقد شعرت وكأنّها تجلس على وسادةٍ من المسامير.
هاهاها… أرجوكم، دعوني أنزل…
・ 。゚ ✧ : * . ☽ . * : ✧ ゚。 ・
“سيدي الدوق.”
اقترب أحد الفرسان من دينروس، الذي كان يتفحّص المكان من حوله.
“هنا أيضًا… أوه! أعتذر… لقد حملناهم.”
كان الفارس يتحدّث باحترامٍ وهو يقدّم تقريره، لكن فجأةً شحب وجهه وازرّقت ملامحه. بدا أنّه لم يعُد قادرًا على احتمال الرائحة الخانقة التي ملأت المكان، فانحنى وهو يتقيّأ بصعوبة.
بل إنّ تحمّله حتى هذه اللحظة أمرٌ يستحقّ الإعجاب.
“أكف… كحّ كحّ… الرائحة… لا تُطاق…”
“لا… لا أستطيع تحمّلها… أوه!”
أكثر من نصف الفرسان المحيطين كانوا قد انحنوا بالفعل، يسعلون ويتقيّأون بشدّة، وبعضهم تقيّأ حتى فرغت معدته بالكامل.
وبجوار جزيرةِ سانت في الشمال، كانت هناك جزيرةٌ صغيرةٌ غير مأهولة.
الجزيرةُ التي كانت خضراءَ زاهيةً من قبل، لم يبقَ منها الآن سوى صحراءَ يغطيها الرماد، دون عشبٍ واحدٍ باقٍ.
وفي قلب الجزيرة، ارتفع دخانٌ خانقٌ حادٌّ بما يكفي لإحراق العيون، يملأ الأرجاء ويغطّي السماء بأكملها.
طقطقة… طقطقة.
أصواتُ النيرانِ المشتعلةِ المتواصلةِ منذ ساعاتٍ حلّت محلَّ صريرِ الحشرات التي ماتت جميعُها، لتُسمع في أرجاء الغابة.
والنارُ، وكأنّها تتغذّى على كُتَلٍ سوداءَ متفحّمة، لم تكن تنطفئ بل ازدادت اشتعالًا.
الدخانُ والرائحةُ الكريهةُ المنبعثةُ من ألسنةِ اللهب كبّلت حتى أقوى الفرسان.
“السير كلاين! السير كلاين، تماسَك!”
اخترق صوتٌ يائسٌ الدخانَ الخانق.
أدار دينروس نظراتِه الهادئةَ الثابتة نحو مصدر الصوت.
لقد سقط فارسٌ آخر على الأرض؛ وكان هذا الثالث بالفعل.
الأوّلان قد انهارا بعد أن اشتكيا من صداعٍ بسبب الدخان والرائحة.
لكن هذه الحالة كانت مختلفة.
كلاين سقط فجأةً من غير أيّ أعراضٍ مسبقة، ثم بدأ يرتجف بتشنّجاتٍ عنيفة.
“تراجعوا جميعًا.”
وبذعرٍ وخوف، أسرع الفرسان بفتح الطريق.
انحنى دينروس بجانب كلاين ليتفقّد حالته.
“أغخ… كخّ…”
بسبب استمرار النوبة، كان تنفّسه مضطربًا وكأنّه على وشك أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
“انزعوا سترته العسكريّة حالًا.”
“ماذا؟ آه، نعم، يا سيدي!”
أسرع فارسان كانا الأقرب إليه، ومزّقا سترته الضيّقة التي كانت تضغط على جسده.
أخرج دينروس من الجيب الداخلي لسترته قارورةً صغيرة.
كان سائلًا أزرقَ يتلألأ داخل الزجاج الشفّاف.
“افتحوا فمه.”
“أمرك، يا سيدي!”
أمسك الفارس فمَ كلاين بكلتا يديه وفتحه.
“أه… كخّخ…”
لكن جسد كلاين كان يتلوّى بقوّة، فاضطرّ الفارس الآخر إلى تثبيت كتفيه بقسوة ليمنعه من الحركة.
وبينما كان الفارسان يُمسكان به، صبّ دينروس محتوى القارورة في حلقه.
ورغم أن نصفه انسكب إلى الخارج مبلِّلًا الأرض، فإنّ النصف الآخر انحدر عبر حنجرته لحسن الحظ.
بعد أن تأكّد دينروس من ابتلاعه، أبعد الفارسين بإحدى يديه، وأمال كلاين على جانبه.
وسرعان ما عاد اللون إلى وجه كلاين الشاحب، وبدأت أنفاسه التي كانت متقطّعة، وجسده الذي كان يرتجف، يستعيدان استقرارهما تدريجيًّا.
وبعد دقائق قليلة، كان قد عاد إلى طبيعته تمامًا، يلهث بهدوء وهو يلتقط أنفاسه.
“خذوه إلى المعسكر.”
“أمرك، يا دوق. لقد بذلتَ جهدًا كبيرًا.”
ثم حمل الفرسان كلاين المترنّح وأخذوه نحو الخيام.
اعتدل دينروس واقفًا.
“إن… إن استمرّ الأمر على هذه الحال، قد نفقد أرواحنا!”
“كُفَّ عن التفوّه بكلماتٍ مشؤومةٍ كهذه!”
“اللعنة! افتح عينيك! كم رجلٌ أُصيب بالفعل؟ في أيّ لحظة قد يسقط أحدُنا ميتًا، وهذا ليس بالأمر المستبعد!”
“اصمت! لن أموت هنا! زوجتي وأطفالي ينتظرونني بلهفة.”
“وهل تظنّ أنّك الوحيد الذي لديه عائلة؟! أنا أيضًا لن أترك زوجتي أرملة! لكن انظر حولك… هذا هو الواقع!”
أثارت مشادّة الفارسين اضطرابًا بين الجميع، وبدأ الخوفُ والقلقُ، اللذان كانا كالجمر تحت الرماد، ينتشران سريعًا بين الصفوف.
ظاهرةُ الظلال.
ذلك هو الاسم الذي أُطلق على تلك الكُتَل السوداء البشعة، الطينيةِ القوام، التي لم تكن سائلةً ولا صلبةً، والتي زحفت لِتُغطّي الأرض.
تلك الكُتَل كانت تُميت كلّ ما تلامسه من مظاهر الطبيعة:
زهور، أعشاب، أشجار، حشرات، بل وحتى الحيوانات.
وما بقي خلفها لم يكن سوى ظلام، وكأنّ الظلال ابتلعت الأرض.
المفارقة أنّ البشر وحدهم كانوا استثناءً. حتى لو لامست تلك الكتلُ جسدَ الإنسان، فلن تقتله.
لكن إن لم تُوقَف، فستستمرّ بالانتشار، تزحف بلا توقّف كالدود.
وما إن تلتقي الكُتَل الصغيرة ببعضها حتى تذوب في بعضها البعض، لتتجمّع وتُشكّل كُتَلًا أكبر حجمًا وأكثرَ خطورة.
كلّما ازداد حجم الكتلة، ازدادت شراستها في قتل الطبيعة.
وحتى اللحظة، لم تكن هناك وسيلةٌ للقضاء عليها سوى حرقها.
لكنّ الحرق كان له عيوبٌ كثيرة،
فالدخانُ الخانقُ والرائحةُ الكريهةُ المنبعثةُ عند إحراق الظلال، تسبّبا في انهيار الفرسان واحدًا تلو الآخر، كما يحدث الآن.
كان دينروس يحقّق في هذه الظاهرة برفقةِ فرسان الإمبراطورية، مركزًا جهوده على الجزر الشمالية في محاولةٍ لكشف حقيقتها.
وخلال أكثر من ثلاثة أسابيع من البحث عن الظاهرة وإحراقها، توصّل إلى نتيجةٍ واحدة: أنّ أغلبها يخرج من البحر ثم يمتدّ إلى اليابسة.
وبفعل التيّارات المائية، أخذت تلك الظلال تتجاوز حدود الجزر وتزحف حتى وصلت إلى أراضي الشمال الداخلية.
تلوّى… تلوّى.
في تلك اللحظة، وأثناء تفقّد دينروس لما تبقّى، خشيةَ أن يكون هناك ظلّ لم يُحرَق بعد، شعر بشيءٍ يلمس حذاءه.
كتلةٌ بحجم قبضة اليد كانت تزحف متعرّجةً، حتى اصطدمت بقدمه.
وما إن أدركت أن الطريق مسدود، حتى بدأت تتحرّك نحو الجانب الآخر محاولةً الالتفاف حوله.
بووم.
لكن دينروس لم يُبدِ أيّ رحمة،
فقد غرس سيفه المسلول مباشرةً في قلب الظلّ.
حاولت الكتلة اللزجة أن تتسلّق النصل مثل الوحل، لكن سرعان ما طرحها في ألسنة النار المشتعلة.
“سيدي الدوق، أعلم أنّ حديثي قد يكون جُرأةً، لكن أرجو أن تُصغي إليّ.”
اقترب لويـرون، نائبُ قائد فرسان الإمبراطورية، من دينروس الذي كان واقفًا وحيدًا، وأدّى التحيّة باحترام.
“تكلّم.”
“إنّ قلقَ الجنود لن يتبدّد بسبب الإصابات المتتالية. لقد تراجعت معنوياتهم كثيرًا، وكثيرٌ منهم يتوقون إلى رؤية عائلاتهم. ألا ترى أنّه من الحكمة إيقاف البحث لبضعة أيامٍ ومنحهم إجازة؟ فقد يُعيد ذلك إليهم بعض العزيمة.”
العائلة… العائلة…
فجأةً تبادَرَت إلى ذهنه صورةُ وجهٍ ما.
ظلّ يحدّق بصمتٍ في لويـرون، الذي توسّل إليه بصدق، قبل أن يفتح فمه أخيرًا:
“سنعود إلى العاصمة.”
“آه، حقًا؟! إذن سأباشر فورًا بتجهيز السفن والعربات.”
“لويـرون.”
“أعتذر، يا سيدي.”
أخمد لويـرون تعابير السرور التي علت وجهه سريعًا، وانحنى برأسه.
فالعجز عن كبح انفعالاته أمام قائده أمرٌ لا يُغتفر، ولا عذرَ له إن عُوقِب.
لكن ما تلاه لم يكن توبيخًا، بل سؤالًا غير متوقَّع:
“هل تعلم كم يستغرق السفر من الشمال إلى الجنوب؟”
“مِن هنا، تقصد؟”
رفع رأسه متفاجئًا، ليجد دينروس يحدّق فيه بعينين ثاقبتين، مترقّبًا إجابته.
“الأمر يختلف من إقطاعيةٍ إلى أخرى، لكن للوصول إلى الجنوب برًّا، نحتاج على الأقل إلى أربعة أيامٍ بالعربة.”
عند جوابه، خفَت بريقُ العينين الزرقاوين كأنّه
ما غاصتا في تفكيرٍ عميق، ثم ارتفع صوته من جديد، متزنًا دون نبرة انفعال:
“عُد أنت إلى العاصمة أولًا. أمّا أنا… فثمّة مكانٌ لا بدّ أن أزوره قبل ذلك.”
التعليقات لهذا الفصل " 34"