من بين كلِّ الصور العالقة في ذهنها، كانت آخر صورةٍ له وهو ينهار متألّمًا — ولهذا، كلّما شعرت ليلي بالمرض أو الإرهاق، أو اصطدمت بشيءٍ ولو كان بسيطًا، لم تستطع منع نفسها من التفكير. هل تعافى آيدن الآن؟
“لقد مضت ثلاثة أسابيع… أليس من المفترض أن تتلاشى هذه المشاعر؟ إلى متى سأبقى هكذا؟ ماذا لو لم أتجاوز ذلك أبدًا؟“
فكّرت بيأس. وبصراحة، بدا نسيان آيدن أمرًا ميؤوسًا منه
كانت ليلي نفسها قد قالت يومًا إنّ حتى أعتى المشاعر تتبدّل بمرور الزمن.
لكن… هل يمكن حقًّا لمشاعرٍ بهذه الحدّة أن تتغيّر؟
مجرد تخيّل أن تبقى أسيرةً لهذا الإحساس لبقيّة حياتها جعل رأسها يدور.
فبمثل هذه الحال، كيف ستستطيع حتى التفكير في الارتباط بغيره — فضلًا عن الزواج؟
أرادت أن تمحو آيدن كاشيمير من رأسها محوًا تامًّا.
إلا أنّه لم يمنحها حتى قدرًا يسيرًا من السلام.
كان صوته ينهض في أفكارها بلا انقطاع، كأنه يسألها.
“ليلي، هل هذا السلام الذي اخترتِه أهمّ منّي؟“
وفي كلّ مرّة، كانت لا تملك إلا أن تتساءل إنْ كان بقاؤها معه سيكون أفضل…
“يا للشفقة! أنتِ من أنهى كلّ شيءٍ بيدكِ، فما الذي تفعلينه الآن؟!”
شتمت نفسها بحرقة.
“ما كان عليكِ أن تتركي تلك الرسالة الغبيّة! ما كان عليكِ أن تغادري القصر! أو على الأقل، كان عليكِ العودة قبل أن تحصلي على رسالة التوصية!”
حين وصلتها رسالة التوصية، شعرت وكأنّ قلبها سقط من مكانه.
وفي تلك الصدمة، أدركت حقيقةً لم تشأ مواجهتها —
أنها كانت تأمل سرًّا ألّا يمنحها آيدن تلك الرسالة،
أن يرفض وداعها حتى اللحظة الأخيرة.
لكنّها لم تتخيّل ذلك من فراغ.
ألم يكن هو من أكّد مرارًا أن مشاعره لن تتغيّر أبدًا؟
ومع ذلك…
“آاااه! ليلي دينتا، أما زال لديكِ ضمير؟ أتسمّين نفسكِ بشرًا؟!”
شهقت واستجمعت وعيها بالقوّة.
اندفعت إلى المكتب والتقطت كتابًا من الرفّ دون أن تنظر إلى عنوانه.
كانت بحاجةٍ إلى شيءٍ يشتّت ذهنها، شيءٍ يُبقيها مشغولةً حتى ينقضي الوقت دون أن تبتلعها أفكارها من جديد.
⸻
بدأ صباح العاصمة باكرًا.
فحتى قبل أن يتكشّف الفجر تمامًا، كان العمّال من مختلف المنازل يجوبون الشوارع بخطًى سريعة.
أما ليلي، فبما اعتادته من أيامها في القصر، فقد رتّبت سريرها باكرًا ونزلت إلى الطابق السفلي.
كانت المهامّ البسيطة — ككنس الدرج الأمامي أو الاعتناء بزهور الحديقة — يجب إنجازها قبل أن يبدأ النبلاء بإطلالاتهم من النوافذ.
وبينما كانت تربط المئزر حول خصرها، سمعت طرقًا على الباب الخلفي.
وحين خرجت، وجدت رجلًا يعتمر قبّعةً مستديرة، يقف إلى جوار عربةٍ محمّلة بالفواكه والخضار.
“تشرفتُ بلقائكِ يا آنسة. أنا باسن فايتزن من شركة فايتزن التجارية. هل أنتِ المسؤولة على منزل السيّد آديرينش؟“
“أجل، هذا صحيح. مرحبًا، أنا ليلي دينتا. أتطلّع إلى التعاون معك.”
“وكذلك أنا. آديرينش… آديرينش… آه، ها هو.”
راح يتفحّص الصناديق المتراكمة حتى وجد ما يبحث عنه، ثم وضع أحدها أرضًا.
“يمكنكِ إعادة الصندوق في المرة القادمة.”
نظرت ليلي إلى الداخل، فرأت البطاطس والبصل والجزر وبعض الأساسيات، إضافةً إلى كيسٍ ورقيٍّ أصفر.
“إن احتجتِ شيئًا إضافيًا أو رغبتِ في استبدال شيء، فأخبريني مسبقًا وسأحضره في المرة التالية. وإلّا فسآتي وفق الجدول المعتاد.”
“ليس لديّ طلبات خاصة في الوقت الحالي.”
“إن غيّرتِ رأيكِ، يمكنكِ دومًا زيارة شركة فايتزن. والآن، أحتاج فقط إلى توقيعكِ على الإيصال.”
ألقت ليلي نظرةً على السجلّ الذي قدّمه.
كان يحتوي على قائمةٍ بالبضائع والكميات والأسعار: بطاطس، بصل، جزر، و… عنب؟
“نعم، في الواقع، ترك السيّد آديرينش رسالة يقول فيها إنّ المسؤولة ستقول بالضبط هذا، وإنها لا يجب أن ترفضه تحت أيّ ظرف. هناك بعض التعليمات غير القابلة للنقاش كهذه، وأرجو تفهّمكِ.”
“عذرًا؟!”
“تفضّلي بتوقيعكِ، من فضلكِ.”
ناولها السجلّ والقلم، فكتبت اسمها بارتباكٍ دون جدال.
أخذ السجلّ مجددًا، وضعه تحت ذراعه، وأمسك بمقبض العربة.
“إذن، أتمنى لكِ يومًا سعيدًا—”
“انتظر، من فضلك!”
نادته ليلي على عجلٍ وأوقفته.
“إن كان لديك بعض الوقت… هل يمكنك أن تخبرني شيئًا عن السيّد مارك آديرينش؟“
كان هذا السؤال يُقلقها منذ البارحة.
من يكون مارك آديرينش حقًّا؟
كلّ ما تعرفه أنه يعشق السفر، يملك ثروةً خرافية، وأنّ كرمه المفرط تجاه القائمين على منزله يثير الريبة أكثر من الإعجاب.
ومن كلام كبير الخدم، بدا أن شركة فايتزن تتعامل مع هذا المنزل منذ زمنٍ بعيد، فلا بدّ أن لديهم بعض المعلومات.
فحتى أكثر الملاك تكتّمًا لا يستطيعون إسكات أحاديث الخدم. ولا بدّ أن أحدًا من طاقم المطبخ السابق أفلتت منه كلمة أو اثنتان.
“أتقصدين السيّد آديرينش، المالك الجديد لهذا المنزل؟“
“المالك الجديد؟“
“نعم.”
المالك الجديد؟! يا لها من عبارةٍ مريبة!
“كانت هناك عجوزٌ تعيش هنا وحدها، ثم فجأة تغيّر المالك.”
“متى حدث ذلك؟“
“لنرَ… منذ أسبوعين تقريبًا؟ سمعتُ أنه قريبٌ بعيد من العائلة المالكة، ثريٌّ لدرجةٍ فاحشة، ويغدق الحنان على ابنته.”
أعاد ضبط قبضته على العربة وتابع.
“لقد أحدثوا ضجّةً كبيرة وهم يحاولون تجهيز أثاثٍ أنيقٍ يناسب أنسة شابّة. أحد أصدقائي ساعد في العمل، وأمس احتفل معنا بشرابٍ بعد أن انتهوا أخيرًا من التجهيز. إن كنتِ مسؤولة المنزل، فأنصحكِ بأن تبقي على وفاقٍ جيّد مع ابنته.”
ثم مضى في طريقه، تاركًا ليلي مثقلةً بأسئلةٍ أكثر من ذي قبل.
فمارك آديرينش الذي وصفه هذا الرجل لا يشبه أبدًا ذاك الذي تحدّث عنه كبير الخدم، سوى في الاسم.
لم يذكر كبير الخدم شيئًا عن زواج المالك أو وجود ابنةٍ له.
بل قال إنه هو نفسه كان يسكن الطابق الثالث الأنثويّ الطابع — لكنّ التجديدات هناك لم تُستكمل إلا بالأمس!
والواقع أنّ ملكية المنزل بأكملها لم تُنقل إلى مارك آديرينش إلا منذ أسبوعين.
أسبوعين…؟ بدا التوقيت مألوفًا على نحوٍ غريب.
ثم هناك ذلك الأثاث الأنيق المخصّص لأنسة شابة، وذلك العنب الفاخر عديم الضرورة…
ولِمَ قد يُنفق كلّ هذا المال ليصنع مسرحيّةً من أجل امرأةٍ انفصل عنها بالفعل؟
إنّ دوق كاشيمير لم يُعرف قطّ بأعماله الخيرية.
حملت الصندوق إلى داخل المنزل.
كانت إدارة منزلٍ لا أحد يُفسده أسهل وظيفةٍ حصلت عليها ليلي في حياتها.
بالطبع، ما زال عليها نفض الغبار تحسّبًا لزيارة المالك المفاجئة، وتلميع الأرضيات والأثاث، والحذر من الحشرات أو العناكب غير المرغوبة.
لكنّ المنزل كان بحالةٍ جيّدة، ولم يكن عليها إنجاز كلّ شيءٍ دفعةً واحدة.
وفوق ذلك، فباستثناء جناحها الخاص، لم يكن المنزل سوى منزل صغيرٍ من طابقين.
وبالنسبة إلى ليلي التي اعتادت تنظيف القصر الرئيسي كلّه بمفردها، كان هذا أسهل من شرب الحساء.
بعد أن أنهت أعمالها اليومية، جلست في غرفة انتظار الخدم في الطابق الأول.
كان الوقت لا يزال نهارًا باكرًا لتعود إلى الطابق الثالث، والبقاء هنا يُسهّل عليها ملاحظة أيّ زائرٍ طارئ.
على الطاولة الخشبية ذات المقاعد الستة تفرّقت أشياؤها اليومية — كتابٌ مقلوب كانت تقرأه، وزجاجةُ حبرٍ، ودليلُ التعليمات الذي تركه كبير الخدم.
دفعت كلّ ذلك جانبًا، وأسندت رأسها إلى الطاولة وهي تحدّق في الطبق أمامها.
كان على الطبق عنقودُ عنبٍ بنفسجيٍّ لامع.
حتى في ضوء الغرفة الخافت، كان يتوهّج بلمعانٍ غامض.
كلّ حبّةٍ فيه ممتلئةٌ ومثاليةٌ بلا خدش، تمامًا كما تلقّتها في الصباح.
لم تكن تجهل كيف تأكله — لكن في كلّ مرّةٍ تمدّ يدها نحوه، كان وجهٌ بعينه يظهر في خاطرها، فيسلبها شهيّتها.
وجهُ رجلٍ شاحبٍ متوسّلٍ تتلوّى ملامحه بالألم…
الأسئلة التي ظلت تهمس في مؤخرة ذهنها منذ تسلّمها التوصيل تلاشت بينما كانت مشغولة، لكنّها عادت الآن تتزاحم عليها بقوّة.
من هو المالك الحقيقي لهذا المنزل؟
صحيحٌ أنها لا تعرف جميع من في هذه الإمبراطورية الشاسعة، لذا فعدم معرفتها باسم ‘آديرينش‘ ليس غريبًا بالضرورة.
لكن كلا — بل هو غريب. آديرينش؟ أيّ اسمٍ هذا؟ بالكاد يمكنها تخمين تهجئته أصلًا!
وحتى إن تغاضت عن التناقض بين رواية كبير الخدم وتاجر الإمدادات، فكيف يُمكنها تفسير هذا الإصرار العجيب على أن تأكل العنب؟
حدّقت ليلي في الثمار، ثم أمسكت دفتر مذكّراتها ودوّنت فيه الاسم. مارك آديرينش — بأفضل تخمينٍ ممكن لكتابته.
ثم كتبت تحته اسمًا آخر. آيدن كاشيمير.
وبمجرّد النظر، كان الشبه جليًّا — فحروف الاسمين نفسها، فقط أعيد ترتيبها لتبدو مختلفة.
قطّبت جبينها وهي تحدّق فيهما، ثمّ شطبت اسم آيدن كاشيمير بعصبيّة.
كلا، إنني أفرط في التحليل. لا بدّ أن في هذه الإمبراطورية على الأقلّ مليونيرًا غريب الأطوار واحدًا، قرّر قبل أسبوعين من سفره أن يشتري منزلًا في العاصمة وينفق عليه ببذخٍ بلا سببٍ يُذكر.
التعليقات لهذا الفصل " 59"