بدأت بدايةُ ليلي دينتا الجديدة بعد مرور ثلاثة أسابيع بالتمام منذ أن قدّمت استقالتها، وذلك في العاصمة.
لقد تولّت منصب إدارة منزلٍ في المدينة مملوكٍ لعمّ أحد أصدقاء ابنِ عمّ أحد الأقارب البعيدين من جهة أمّ دوق كاشيمير.
كان اسم المالك مارك آديرينش، ويُقال إنه مولعٌ بالسفر حول العالم، وقد انطلق لتوّه في رحلةٍ جديدة.
وكان من عادته حين يغادر أن يغيب لسنواتٍ طويلة، تاركًا عددًا محدودًا من الخدم فقط.
وأثناء بحثهم عن مسؤول أمينٍ ومجتهد، وقع الاختيار أخيرًا على ليلي دينتا.
قال كبير الخدم وهو يساعدها على حمل أمتعتها.
“يا لها من نعمة أن وجدنا شخصًا بتوصيةٍ من سمو الدوق نفسه.”
لم يكن هناك أيّ خدمٍ آخرون في الأرجاء.
شرح كبير الخدم أنّه سيغادر هو أيضًا بعد تسليم المهام، وقادها إلى الطابق العلوي.
كان منزل مارك آديرينش في العاصمة بناءً قديمًا أنيقًا، يشي بالعراقة والعناية منذ أول خطوةٍ عند الباب.
حتى قطع الأثاث القليلة في الممرّ كانت من الطراز الكلاسيكي الفخم، وكأنها لم تُمسّ منذ أن وضعها المالك الأول للمنزل.
“الطابق الثالث هو مقرّ المسؤول على المنزل. وهناك ستقيمين يا آنسة دينتا.”
“آه، من فضلك نادِني ليلي.”
“يستحيل أن أفعل ذلك.”
أثار رفضه المهذّب إعجابها.
هكذا إذن هو أدب أهل العاصمة — احترامٌ حتى من المرؤوسين! يا له من تصرّفٍ نبيل.
وأثناء نظرها إلى ظهره وهي تتبعه، عقدت عزمًا راسخًا في قلبها.
سأعمل بجدٍّ لا مثيل له. لن أجد وظيفةً سماويّة كهذه ثانيةً ما حييت. حين يعود المالك، سأجعله يقول إنني أفضل مسؤولة عرفها، حتى يرغب في الإبقاء عليّ للأبد.
وعند بلوغها قمّة السلالم، ظهرت أمامها فجأةً بابٌ يسدّ الطريق إلى الطابق الثالث.
استنشقت ليلي الهواء بخفّة، فعبق المكان برائحة الخشب الطازج والطلاء الجديد.
“من هنا فصاعدًا، كلّ ما ترينه متاحٌ لكِ بحرّية تامّة.”
كانت عبارته غريبةً بعض الشيء، فمالت ليلي برأسها في حيرةٍ بينما فتح أحد الأبواب.
“هذه غرفتكِ.”
واتّسعت عيناها دهشة.
لقد بدت كغرفةٍ تليق بابنة تاجرٍ ثريّ.
كانت الأغطية المطرّزة بخيوطٍ زرقاء من قماشٍ فاخر، يمكن معرفة قيمته دون لمسه.
تزيّن الجدران زخارفُ دقيقة، وعلى الأرض بساطٌ دافئ اللون، ومكتب زينةٍ عصريٌّ ذو مرآةٍ أنيقة.
كان الجوّ مختلفًا تمامًا عن طابع الطابقين السفليين العتيقين، وكأنّ كلّ شيءٍ أُعِدّ حديثًا خصيصًا لها…
ولم تتوقّف المفاجآت عند ذلك.
فقد عرّفها كبير الخدم على غرفة جلوسٍ صغيرة، ومكتبٍ خاص، وحمامٍ متّصلٍ بأنابيب المياه، بل وغرفة ملابسٍ تضمّ بعض أثواب الآنسات المعلّقة.
هدية… حسنًا، من ذا الذي يفهم عقول الأثرياء؟ لكن… هذا يكاد يكون منزلًا كاملًا لي وحدي! أيمكن أن يكون الأمر على هذا النحو فعلًا؟ هل أُسيء الفهم؟
فسألت كبير الخدم.
“كلّ هذه الغرف التي أريتني إيّاها… هل هي بالفعل مخصّصة للمسؤولة؟ قلتَ إنّ بإمكاني استخدامها بحرّية؟“
“نعم، كما ذكرتُ، الطابق الثالث هو مقرّ المسؤول على المنزل.”
ولم تستطع ليلي أن تستوعب ذلك.
“إذًا… قبل مجيئي، كنتَ أنتَ من يستخدم هذا المكان؟“
“أجل، هذا صحيح.”
لكنّ الأمر لم يكن منطقيًّا أبدًا، فالمكان واضح الملامح كغرفة فتاةٍ راقية.
لو كانت ليلي كبير خدم في منتصف العمر مُكلَّفًا بهذا المكان، لكانت قد بدأت بتغيير الستائر.
“كثيرون يقولون إنّ لي ذوقًا أنثويًّا على نحوٍ مدهش.”
“آ،آه، لا، لا! إنه يناسبك تمامًا!”
قالتها بعفوية، مدركةً أنها قد انزلقت إلى الأحكام السطحية القائمة على الجنس… ولكن مع ذلك، ما زال الأمر غريبًا!
وعندما وصلا إلى المكتب، التقط كبير الخدم رزمة أوراقٍ من فوق الطاولة.
“حسنًا، الآن دعيني أشرح لكِ المهامّ التي ستتولينها، آنسة دينتا.”
كانت المهام بسيطةً للغاية، فهي المسؤولة حرفيًّا عن إدارة المنزل بأكمله.
تضمّنت الأوراق التي سلّمها إيّاها جميع التفاصيل. قوائم فحصٍ موسمية، معلومات عن التجّار المعتادين ومواعيد زياراتهم، خريطة المنطقة، أرقام الطوارئ، وغير ذلك…
كلّ ما عليها هو اتباع ما ورد في الدليل.
وبينما كانت تصغي إليه، بدأ أثر الدهشة من جولة ‘مقر المسؤول‘ يتبدّد قليلًا.
إنه فقط صاحبُ عملٍ غريب الأطوار، هذا كلّ ما في الأمر.
ومع ذلك، تبقى وظيفة إدارة منزلٍ عادية.
“ستُسجّل جميع النفقات في الدفتر وتُسدّد من القصر الرئيسي. وإن ظهرت مصاريف طارئة، يمكنكِ سحب الأموال من بنك سانت فوريكال. أما راتبكِ، فسيُودع هناك في الثاني من كلّ شهر.”
“امم.. أيمكنني أن أسأل عن مقدار راتبي؟“
“ألَم يُخبروكِ؟“
“في الحقيقة… لا، هاها.”
لقد حزمت حقائبها وغادرت القصر مع جوليا فور تركها الرسالة لآيدن.
وبفضل وولفرام، ظلّ منزل جوليا القديم متاحًا، فمكثت فيه أكثر من أسبوعٍ بقليل بانتظار خطاب التوصية، ثمّ أتت إلى العاصمة.
ولم تسأل كثيرًا عن تفاصيل العمل الجديد، فقد كانت تشعر بضيقٍ لا يُحتمل حتى من وجودها في نفس الغرفة مع وولفرام.
“500 قطعة ذهبية.”
“عذرًا؟“
“500 قطعة ذهبية.”
“أظنّني سمعتُ خطأ…”
“كلا، لقد سمعتِ جيدًا. ستحصلين على 500 قطعة ذهبية كلّ شهر.”
ليس في الإمبراطورية كلّها نبيلٌ واحد يدفع هذا المبلغ لقاء إدارة منزلٍ فارغ!
كانت تتقاضى حين كانت خادمةً عادية قطعتين من الذهب شهريًّا، وكمساعدةٍ شخصية 250.
لكن 500 لقاء عملٍ يكاد يكون معدوم الجهد؟ إن كنت ستكذب، فلتجعل الكذبة قابلةً للتصديق على الأقل!
لابدّ أن هذا المنزل فخٌّ ضخم.
بدأ عقلها يجول في احتمالات الجرائم: قاعدةٌ لشبكة تهريب؟ مركز تجارةٍ غير قانوني؟ فخٌّ لاستدراجها إلى مؤامرة؟
أما الرأس المدبّر، فليس سوى مارك آديرينش نفسه.
ولن تتفاجأ لو عاد فجأةً غدًا بعد إلغاء رحلته ليستأنف عملياته المشبوهة.
“عذرًا، آسفة ولكن…”
وقبل أن تُكمل، أدرك كبير الخدم نبرتها فقطع حديثها قائلًا.
“قد يبدو المبلغ ضخمًا، لكنه أقلّ مما ينفقه السيّد في جلسة شايٍ بعد الظهر، فلا تُحمّلي الأمر فوق طاقته.”
وكما في الجولة السابقة، قالها دون أن يطرف له جفن.
“السيّد يضع آمالًا كبيرةً عليكِ يا آنسة دينتا. فقد سرق القائمون السابقون وأساءوا الأمانة، لكنه يؤمن بأنك مختلفة، كونكِ موصى بها من دوق كاشيمير نفسه. ومن خادمٍ لآخر، فسمعتكِ ستنعكس أيضًا على الدوق الذي أوصى بك.”
ولمّا ذُكر اسم الدوق، شعرت ليلي أخيرًا بالاطمئنان.
صحيح… آيدن هو من رتّب هذا كله.
ومهما شعر بالخذلان، فهو لن يلقي بها في وكرٍ للمجرمين.
إنها وظيفةٌ مضمونة بكلمته.
وحين خطرت لها تلك الفكرة، أصبح راتب 500 قطعة يبدو أكثر ترحيبًا في نظرها.
فبهذا المبلغ، يمكنها أن تُحقّق كلّ أحلامها — ويظلّ لديها فائضٌ من المال.
“للعلم، تمّ إيداع راتبكِ الأول سلفًا وفقًا للأيام التي عملتِ فيها. والآن، نتابع…”
أُعلن عن هذه الحقيقة المذهلة — بأن راتبها دُفع مسبقًا — بنبرةٍ عاديةٍ تمامًا، ثمّ انتقل إلى تفاصيل أخرى.
كانت حرّة في عيش حياتها كما تشاء، غير أنّ استقبال الضيوف الشخصيين ممنوع.
يجوز لها الخروج، لكن دون المبيت خارجه. وهناك بضع قواعدٍ طفيفة أخرى.
وحين أنهى حديثه، أخذها في جولةٍ شاملة للطابقين الأول والثاني، بالإضافة إلى القبو، ثم سلّمها المفاتيح جميعها وغادر.
رافقت ليلي خطواته حتى الباب، ثم أقفلته من الداخل، واستدارت لتقف متكئةً عليه برهة.
من القبو إلى الطابق الثالث، كانت وحيدةً تمامًا في هذا المنزل الضخم.
حتى الأصوات الخافتة القادمة من الخارج جعلت الواقع يبدو بعيدًا وغريبًا كالحلم.
هذا سيّئ…
كانت خائفة.
لا من أشباحٍ أو وجودٍ خفيٍّ في المنزل، بل من تلك المشاعر الثقيلة اللزجة التي تزحف عليها كلّما وجدت نفسها وحيدة.
لا تفكّري. مهما حدث، لا تفكّري.
أسرعت صاعدةً إلى الطابق الثالث.
فمنذ مغادرتها القصر، وهي تجاهد ألّا تفكّر في آيدن.
إذ ما إن يخطر ببالها حتى تغمرها موجة حزنٍ عارمة تشلّها عن أيّ شيء.
لكن في الحقيقة، إنّ محاولة عدم التفكير به لا تجلب إلا التفكير المستمرّ فيه.
كأن يُقال لكِ ‘لا تفكّري في تفاحةٍ حمراء‘، فلا ترين في ذهنك إلا تلك التفاحة.
ولهذا، باتت ليلي في الآونة الأخيرة غارقةً في الحزن والفتور الدائمين.
التعليقات لهذا الفصل " 58"