حتى لو كان التعب مبرَّرًا، فهل يمكن لروحٍ بلا جسدٍ أن تشعر بتيبُّسٍ في الكتفين؟
ومع ذلك، لم يبدُ عليه الكذب. فابتسامته الخافتة وهو ينظر إليها من علٍ كانت مشوبةً بإرهاقٍ حقيقيٍّ واضح.
أبلغت ليلي وولفرام بخروجهما، ولم تحتج إلى طلب الإذن، إذ غدت الآن ذات مكانةٍ تخوّلها فعل ذلك.
وُضِعَت تعويذةُ الحماية الخاصّة بآيدن، المحفوظة في خزينةٍ سرّية، داخل كيسٍ صغيرٍ علّقته ليلي في عنقها، ثم أخفتها بعنايةٍ تحت ثوبها كي لا تظهر.
بعدها توجّهت إلى نقطة حراسة القصر لطلب مرافقةٍ من الجنود.
كان مسموحًا لها رسميًّا أن ترافقها جنديّان في أيّ وقت، وهو امتيازٌ مُنِحَ لها ما دامت تحمل تعويذة آيدن.
ورغم أنّ الحرس يخضعون لأوامر وولفرام بصفته القائم بأعمال السيادة، فإنهم لم يكونوا يدركون حقيقة ما يجري، لذا بدا الأمر غريبًا في نظرهم.
لكن، شأنَهم في ذلك شأنُ كلِّ البنود الواردة في ‘دليل الإجراءات الخاصّ بليلي دينتا’، كانت هناك أوامر صارمة بعدم مساءلة الأسباب وراء أيٍّ من تصرّفاتها، فبقوا صامتين.
نالت موافقتهم على الفور، وبدأ أحدُ الجنود يتبعها على مسافةٍ قصيرة.
وشعرت ليلي بوخزٍ خفيفٍ في مؤخرة رأسها، فتمتمت بصوتٍ يكاد لا يُسمع.
“إلى أين نذهب؟”
[إلى الحديقة الخلفيّة.]
منذ أن أغراها بالخروج، لم يتحرّك آيدن كمن يشكو تيبّسًا في جسده. عندها فقط أدركت أنّها خُدِعَت تمامًا.
بل بدا عليه بعض الحماس، فبينما كان يمشي بخطًى رشيقةٍ يلفّه الوقار، كانت خطواته خفيفةً على نحوٍ مريب.
كانت تحدّق في خصلات شعره الهادئة التي لم تعبث بها النسائم حين توقّف فجأة، فتوقّفت هي أيضًا.
قطّب حاجبيه قليلًا، لكن ابتسامةً رقيقةً ظلت على شفتيه وهو يسألها.
[لماذا تسيرين خلفي إلى هذا الحد؟]
“بدا لي ذلك أنسب.”
أجابت بأدبٍ جمٍّ، فما زالت تحت وطأةِ التذكير الأخير بثقل السُّلطة.
‘قد يتذكّر لاحقًا، حين تتبدّل مشاعره، ويقول.
“تلك الخادمة كانت وقحةً في الواقع. هل عليَّ أن أُلغِي مكافأتها؟”
من الأفضل أن ألتزم الأدب الآن.’
فضلًا عن أنّ المسافة بينهما بدت ضروريّة.
“أم تُفضّل أن أسير أمامك؟ فبما أنّه مرّ وقتٌ على خروجك، قد تضلّ الطريق. فالقصر كبيرٌ حتى إنّني أنا أضلُّ فيه أحيانًا.”
كانت مجرّد عبارةٍ تملّقيةٍ لا غير، فهي تعرف أروقة القصر كما تعرف كفَّ يدها؛ لطالما كانت تنقل وجباتٍ ليليّة وحدها في عمق الليل.
انفجر آيدن ضاحكًا.
[عمّ تتحدثين؟ إن لم تكوني ترغبين بأن أمشي خلفكِ، فتعالي إلى جانبي. أم أنّني كنتُ أسرعَ من اللازم؟ حاولتُ مجاراة خطاكِ، لكن ربّما لم أنجح تمامًا.]
“لا، إطلاقًا.”
في الواقع، كان يبطئ خطاه تدريجيًّا. ظنّت أنّه يستمتع بالمشهد، لكنه في الحقيقة كان يُسايرها.
[هذا جيّد إذًا.]
استدار آيدن نحوها كليًّا ينتظرها.
فتحرّكت لتسير بجانبه كما لو دفعتها يدٌ خفيّة لا تُقاوَم، فابتسم ابتسامةً هادئةً.
[فلنواصل السير؟]
يا للظلم! إنّها تحاول بكلّ جهدها أن تتصرّف كخادمةٍ مثاليّة، بينما هو لا يُبدي أيّ نيّةٍ لأن يتصرّف كدوقٍ متحفّظ!
بدل أن يُعينها على كبح مشاعرها، زادها وجهُه ذاك، ونبرته تلك التي تجمع بين الجِدّ والملاطفة، اضطرامًا.
تملّكها الغيظ حتى كادت تستشيطُ حنقًا.
من بدأ كلّ هذا أصلًا؟ من جعلها تُكنّ له هذه الرغبات الجريئة؟
لو أنّه تصرّف مثل وولفرام، أو حتى اكتفى بمعاملتها كأداةٍ نافعةٍ فحسب، لما انقلب قلبها فوضى كهذه.
لكن لا، كان لا بُدّ له أن يكون رقيقًا، وأن يتصرّف كنسيمٍ ربيعيٍّ دافئ، وها هو الآن، الذي كان يتظاهر بالضعف، قد أخذ يمدّ بينهما خيطَ مودةٍ حقيقيّ، تراها تتكوّن أمام عينيها.
ومع ذلك، وعلى سجيّته الغافلة، ابتسم ابتسامةً مشرقةً.
[الجوّ جميل، احبه.]
وكأنّ وجهه المشرق تحت ضوء النهار لم يكن كافيًا ليثبت أنّ عذر ‘التعب’ لم يكن سوى كذبةٍ محضة.
كان الطقسُ فعلًا بديعًا، والحديقةُ التي اعتنى بها البستانيّون بعنايةٍ فائقة تتلألأ بالحياة تحت الشمس.
سارا في عمق الحديقة الخلفيّة.
[الآن بعد أن فكّرت، لم نخرج معًا في نزهةٍ حقيقيّة من قبل.]
“صحيح، ربما لم تسمح الظروف بذلك.”
[كان ينبغي أن يكون مثل هذا الخروج دائمًا ممكنًا، لكنّ الأمور تراكمت حتى نسيت.]
بدا وكأنّه أراد حقًّا أن يتنزّه معها منذ زمن.
[حتى وقتٍ قريبٍ ظننتُ أنّي لن أغادر المبنى الرئيس مجددًا…]
غاص لحظةً في ذكرياته، ثمّ عاد مبتسمًا.
[لنجلس هناك قليلًا؟]
وأشار إلى مظلّةٍ حجريّةٍ ناصعة البياض، تحتها مقاعدُ وطاولةٌ منحوتةٌ من الصخر الأبيض.
وحين اقتربا منها، تلاشى الحماس من وجه آيدن قليلًا.
[همم، لم يُجهَّز شيء… بالطبع.]
فهمت ليلي في الحال الصورة التي تخيّلها.
فلو أنّ أحد النبلاء أو الضيوف أبدى رغبةً في الاستمتاع بالحديقة، لأسرع الوكيل بإرسال الخدم لتجهيز الوسائد وسلال الفاكهة والمزهريّات.
ذلك كان هو المعروف بين النبلاء، فربّما تصوّر آيدن مشهدًا مماثلًا دون تفكير.
لكن هذه النزهة كانت عفويّةً تمامًا، ومهما علا شأن ليلي دينتا، فهي ليست ممّن يُحاطون بتلك المراسم.
‘حقًّا، نحن من عالَمَين مختلفين.’
راودتها هذه الفكره فجأة، لكن قبل أن تسترسل فيه، قال آيدن معتذرًا.
[كان عليَّ أن أحضر منديلاً لأفرشه. أعتذر. هل تغفرين لي؟]
لم تعد ليلي تتفاجأ، بل أرهقها كمّ التغيّر في شخصيته خلال يومٍ واحد. لا، لم يتغيّر، بل أظهر ما كان كامنًا فيه منذ البداية.
فآيدن كاشيمير يتصرّف كنبيلٍ لعوبٍ يجيد ملاطفة النساء، ويبدو أنّه متقنٌ لذلك بامتياز.
أمّا هي، فكانت عاجزةً تمامًا، كوردةِ قمرٍ تذبل تحت شمس الظهيرة.
لم تردّ على كلماته الفاضحة بعذوبتها الغريبة، بل جلست على أحد المقاعد، لا ذاك المجاور له، بل منحت نفسها رحمة الجلوس على مقعدٍ منفصل.
التعليقات لهذا الفصل " 48"