في تلك الليلة، بعد صدور الأمر الماكر بنقل جميع كتب سولومون من المكتبة إلى المترجمة، دخل آيدن إلى مكتب جوليا دينتا في الموعد المحدّد.
كانت جوليا تُحدّق في ساعة المكتب بين الفينة والأخرى، تمسح الغرفة بنظراتٍ قلقة.
ولمّا دخل آيدن، لم تدرك وجوده؛ إذ عبرت عيناها موضعه من دون أن تراه.
تساءل في نفسه. لِمَ استدعته إن كانت لا تقدر على رؤيته أو سماع صوته؟
بعد أن تحرّكت عقرب الدقائق بضع خُطى، تنفّست جوليا بعمق، وتحدّثت إلى الفراغ قائلةً.
“شكرًا لتقبّلك طلبي المفاجئ بهذا القدر من الترحاب.”
حقًّا، كان هذا الطلب المفاجئ غريبًا في هيئته.
فقد حدث ذلك حين عادت ليلي من لقائها المعتاد مع يوليوس، ودخلت المكتب برفقته.
عندها قال وولفرام بجدية.
—”أثناء غياب سموّه، وصلتنا رسالةٌ سريّة من أحد المخبرين.”
وقف آيدن إلى جانبه، فأشار وولفرام إلى ورقة صغيرة على المكتب.
[التاسعة مساءً. الرجاء الحضور إلى غرفتي وحدك. لديّ أمرٌ هامّ لا أستطيع قوله إلا لسموك.
أرجو كتمان الأمر عن ليلي. —جوليا دينتا.]
لقد طلبت جوليا من وولفرام أن يتظاهر بأن الرسالة من مُخبر، ويبدو من حرصها على انتظار خروج ليلي إلى الجناح الملحق أنها كانت صادقة في رغبتها بإبقاء اللقاء سريًا.
استجاب آيدن لطلبها، ولم يُبدِ أيّ إشارةٍ تفضح الأمر أمام ليلي.
لكن أيّ شأنٍ هذا الذي تخفيه عن حفيدتها المحبوبة؟
جلس آيدن ينتظر المقصود من اللقاء، وملامحه ساكنة لا أثر فيها لابتسامة.
“سبب دعوتي لك الليلة يا سموّ الدوق، أنّي أظنّني قد وجدتُ خيطًا يقود إلى حلّ لِعنتك. تفضّل بالجلوس، رجاءً.”
أشارت إلى الكرسي المقابل لها وجلست في مواجهته.
ورغم ما في كلامها من بريق الأمل، لم يظهر على آيدن أيّ انفعال.
بل ازداد شكّه في سلوكها الغريب؛ إذ لا يُعقل أن يُبلَّغ خبرٌ بهذه الأهمية سرًّا دون علم الآخرين.
فمثل هذا الأمر يُعلن عادةً بحضور الجميع في المكتب.
ولأنها استثنت وولفرام، بل وحتى ليلي دينتا نفسها، بدا مقصودها مريبًا.
كانت على الطاولة كومةٌ صغيرة من الكتب، دفعت جوليا أحدها نحوه كي يراه بوضوح.
كان غلافه البالي يحمل عنوانًا مكتوبًا بلغة سولومون.
“هذا أحد كتب سولومون التي أرسلتَها إليَّ اليوم.
إنه مجموعة من الحكايات الشعبية القصيرة.
هل سمعتَ من قبل بحكاية الأب الذي عاد؟”
لم يسمع آيدن بالاسم من قبل، ولم يرَ الكتاب الذي بيدها قط.
كان من كتبه القديمة، قبل أن يصبح دوقًا، ولم يكن له والدان يقرآن له القصص.
“ربما لا تعرفها، سأختصرها وأقرؤها عليك.”
ثم أعادت الكتاب إلى حجرها، وفتحت الصفحة المُعلّمة، وبدأت القراءة بسرعةٍ طفيفة.
ظلّ آيدن متحفّظًا، لكنّه أصغى بانتباه، وسرعان ما لاحظ التشابه الغريب بين الحكاية وبين حاله.
“…وأخيرًا، عاد الأب إلى بيته.”
أنهت جوليا الجملة الأخيرة، وسعلت بخفّة.
“أعتقد أنّ مفتاح فكّ السحر عن سموّك يكمن في الحبّ العميق بين الناس، كما في هذه القصة. قد يبدو الأمر كحكاية خرافية، لكنني أؤمن به حقًّا.”
قطّب آيدن جبينه. فقد استشعر هذا المنحى منذ منتصف القصة،
لكن الحبّ؟ لم يتوقّع ذلك قطّ.
كان يتوقّع مواجهةً سماوية، أو تعويذةً كهنوتية، أو ربما ظاهرة فلكية نادرة.
أما أن تكون المشاعر البشرية—ذلك الضعف العاطفي الذي يليق بالقصص الطفولية—هي سبيل خلاصه؟ فهذا ما لم يخطر بباله قطّ.
“لقد تأكدتُ من هذه الفرضية بعد أن قرأت بسرعة عددًا من الحكايات والأساطير الأخرى. فوفقًا للفكر الجمعي لشعب سولومون، فإنّ ما يُعيد الروح إلى الجسد هو التوقُ إلى الأحاسيس التي لا تُنال إلا بالجسد. وأقواها جميعًا. الرغبة في الحبّ الجسدي.”
قدّمت له ورقةً دوّنت فيها خلاصاتٍ لنصف دزينةٍ من الأساطير المشابهة.
قرأها آيدن بعناية، فأدرك أنّه من منظور عقيدة سولومون، قد تكون هذه الفرضية المجنونة قابلة للتصديق.
وفي تلك اللحظة، خَطر ببال آيدن وجهٌ مألوف يسطع في ذاكرته.
‘هل تعرف هي أيضًا؟’
تمامًا حين خطرت الفكرة في ذهنه، فتحت جوليا فمها للحديث.
“اعذرني على صراحتي، لكنّ سبب إخباري لك بهذا ليس من أجلك يا سموّ الدوق، بل من أجل ليلي.”
صرّحت بذلك دون خجل، معلنةً أنّ دافعها ليس ولاءً له، بل حبًّا لدمها.
“لن تنال تلك الفتاة راحتها ما لم تتحرر أنت من لعنتك. لذا، ومن أجلها، أرجو أن تسمح لقلبك بأن يتّبع ما تؤمن به هذه القصص.”
كانت نظرات جوليا قاتمةً حازمة، تحمل في عمقها استعدادًا لمواجهة غضب الدوق إن لزم الأمر.
ما قالته بعد ذلك كان أكثر جرأةً حتى.
“لا أحد يستطيع أن يتدخّل في أيّ قرار تتخذهُ سموّك. ومع ذلك، أرجو أن تُظهر على الأقل بعض الاحترام لـ ليلي دينتا، التي خَدَمَتْك بكلّ إخلاصها. وإذا جاز لي أن أكون صريحةً، فإن تلك الفتاة تستحق أن تُعامَل معاملةً حسنة.”
أمال آيدن رأسه مفكّرًا في تصرّفاته السابقة.
هل بدا لهم غافلًا إلى هذا الحدّ؟
هل جعلت معاملته الخاصة لليلي الناس يتجرؤون على تخمين مشاعره؟
وإن لم يكن كذلك، فكيف تجرّأت جوليا—وهي أدنى منه منزلة—على التدخل في شؤونه؟
أيمكن أن يُنسي الحبّ العائليّ الناس آداب المقام والمراتب؟
“أعلم أنّك تُحبّ ليلي.”
توقّف الزمن لحظةً في صدر آيدن؛ حتى الارتعاش الخفيف في قدميه خمد.
“وأعلم أيضًا أنّك إن قبلتَ بهذا السبيل، فستختار ليلي لتكون هي التي تنفّذه.”
كان اندفاع جوليا يشبه تمامًا اندفاع حفيدتها، فلم تمنحه فرصةً ليتنفس.
“وأنا أؤمن أنّ هذا الأسلوب سينجح.”
رمش آيدن في صمتٍ مذهول، إذ كانت كلماتها تحمل تلميحًا صريحًا بأنّ ليلي هي الأخرى تُكنّ له المشاعر.
ولعلّ ذلك ليس تلميحًا بل تقريرٌ لحقيقةٍ تعرفها جيدًا.
وشعر آيدن بأنّ شيئًا في صدره قد اشتعل.
‘ليلي دينتا تُحبّني أيضًا.’
قبض على كفّه بإحكامٍ وكأنّه يُثبّت هذه الفكرة في قلبه.
‘إذن، أليست كلّ المشكلات قد حُلّت بالفعل؟’
لكن حين رفع نظره، كانت شفاه جوليا أكثر انحدارًا، وملامحها أكثر جدّية.
“ولكن مع ذلك، آمل أن يُظهر سموّك احترامًا حقيقيًا لليلي.”
خفّ الحماس الذي كان يتصاعد في نفس آيدن كشمعةٍ أطفأتها نسمة.
لقد وُجد الحلّ، وبدت ليلي تبادله الشعور، فلماذا كلّ هذا القلق في وجه جوليا؟
“لقد طلبت منّي ليلي ألا أُخبرك بشيء من هذا.
كانت تأمل ألّا تعلم أبدًا.”
تجدّد الشكّ في صدر آيدن.
ليلي دينتا، رغم أنّها وجدت بارقة أمل، اختارت أن تُخفيها.
حتى وهي تعلم أنّ الحبّ يمكن أن يُنقذه، لم تشأ أن تستخدمه.
أيعني ذلك أنّها لا تنوي إنقاذه بالحب؟
‘لماذا؟’
لا بدّ أنها تفهم كلّ ما قالته جوليا.
تعلم أنّ مشاعرهما متبادلة، وأنّها ستكون المختارة لو أُجري الأمر.
ومع ذلك، لا تنوي المضيّ في هذا الطريق؟
كان آيدن، بصفته دوق كاشيمير، أكثر الرجال أهليةً للحبّ في الإمبراطورية.
ثروة، شرف، سلطة، وجمال—كلّها مجتمعة في شخصه.
فما السبب؟
إن لم يكن هناك مانعٌ لا يُقهر، لَما أحسّ بهذا الرفض الخفيّ قبل أن يبدأ.
“فقط من لم تجرحه نسائم الربيع، يستطيع أن يستمتع بها.
أما إن كنتَ بتلةً داستها الأقدام، فستتمنى لو أنّ الرياح الربيعية لم تهبّ أصلًا. فأجمل النهايات، وأسوأها، تأتي من الأعالي على السواء.”
ثم انحنت بانحناءةٍ عميقةٍ حتى لامست جبهتها سطح الطاولة.
“من أجل حريّة سموّك، ومن أجل راحة ليلي، أرجو أن تُقيم رابطًا صادقًا من العاطفة. لكن إن كنتَ حقًّا تُحبّها، فإيّاك أن تدع قلبها ينكسر في النهاية.”
—يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 44"