أجاب يوليوس بهدوءٍ تامّ، وصوته يتّشح بوقارٍ إمبراطوريٍّ لا يخلو من الحذر.
[إنْ أقدَمَ أحدٌ بلا لقبٍ نبيلٍ على دخول العاصمة الإمبراطورية دون إذنٍ رسميّ، فلن يرى سوى حَدِّ السيف قبل أن يلمحَ طرفَ عباءةِ الإمبراطور. لا يسعُنا التفريطُ بموهبةٍ ثمينةٍ مثلكِ. ثمّ إنّ هناك خُطّةً واضحةً المعالم. متى ما وصلنا العاصمة، سأشرح لكِ كلَّ خطوةٍ على حدة، فلا تتعجّلي.]
عضّت ليلي شفتها السفلى بتوتّرٍ خفيّ.
‘هو محقّ. إن لم يكن أبلهَ تامًّا، فلن يبوح بخطّةٍ سريّةٍ هنا. ولو أفلتَها بلا تدبير، لكنتُ تركتُه فورًا.’
كان يوليوس يتصرّف بدهاءِ أفعى عتيقةٍ عمرها مئة عام، رغم أنّ روحه لم تشفَ بعدُ تمامًا.
ولم تستطع ليلي أن تقول إنها ترغب في مرافقة الدوق إلى العاصمة، فالكذبة التي نسجتها — أنّ آيدن فقدَ عقلَه — بدأت تطاردُها الآن كظلٍّ ثقيل.
إنِ انكشفت تلك الكذبة، فقد تفقدُ مكانتَها كطبيبةٍ شخصيةٍ للدوق.
‘كلا… علامَ أُقلق نفسي أصلًا؟ لم يكن عليَّ التورّطُ في هذا من البداية. هذا يفوقُ قدرتي تمامًا. في النهاية، سيتحدّث الإمبراطور، وسأكون أنا من يتولّى التنفيذ. أيُّ قوّةٍ أملك لأُواجه قائد تلك الطائفة المزيّفة؟ لا شكّ في الأمر، عليَّ أن أرفض. عليَّ أن أقول لا.’
لكن أمامها احتمالٌ لم تستطع تجاهلَه، احتمالٌ يحمل في طيّاته وعدًا أكيدًا.
قالت أخيرًا، بصوتٍ خافتٍ بالكاد خرج من بين شفتيها.
“أحتاجُ بعضَ الوقت لأُقرّر.”
[خذي من الوقت ما تشائين. لن أفعل سوى انتظار حكمكِ.
لكنّي آمل ألّا تُفوّتي هذه الفرصة النادرة لتُصبحي منقذةَ الإمبراطور والدوق معًا. فحياتُنا ليست رخيصةً يا ليلي.]
كانت كلماته رحيمةً كأنها بركةُ ملاك.
***
وفي طريقها إلى الجناح الشرقي، كانت ليلي تُطلق تنهيدةً كلّ ثلاث خطواتٍ تقريبًا.
‘هل أذهب إلى العاصمة؟ أم لا؟ أذهب؟ لا، لا ينبغي لي؟’
كانت أفكارُها تتقلّب مع كلّ خطوةٍ تخطوها. وحتى حين وصلت إلى آيدن، الذي خرجَ للقائها، كان ذهنُها ما يزال عاصفًا.
[ليلي؟]
ناداها آيدن بنظرةٍ حائرةٍ يغمرها القلق.
كانت ليلي، في الأيام الماضية، تتوهّجُ سرورًا أمام هذا الكيان الطاهر النقيّ، تتباهى في سرّها بنجاح حيلتِها ومكرها.
حتى حين تواجهُ عقباتٍ، كانت تغضب أو تشتدّ، لا أن تذبلَ على هذا النحو.
ولأنّه عرفَها على غير عادتها، سألها بلطفٍ وقلق.
[ما الأمر؟]
وفي النهاية، شرحتْ له الموقفَ باقتضاب.
“قد أضطرُّ للذهاب إلى العاصمة… مع الإمبراطور. فقط أنا وهو.”
[ماذا؟]
سألها مذهولًا، لكنها لم تُضِف شيئًا بعد ذلك.
في الآونة الأخيرة، كانت تتجنّب محادثةَ آيدن في العلن، رغبةً في إسكات الشائعات القائلة إنّ “ليلي دينتا بدأت تُصاب بالجنون”.
ولأنها شرحت ذلك مسبقًا لآيدن، لم يُلحَّ عليها بالسؤال.
لكن بحلول الوقت الذي وصلا فيه إلى المكتب المؤقّت، كان جبينُهُ مقطّبًا مثلها تمامًا.
[والآن قولي لي بوضوح، ماذا تعنين بقولكِ إنكِ ستذهبين إلى العاصمة مع يوليوس؟]
“لحظةً فقط، دعني أُحيّي المساعد أولًا. صباحُ الخير، سيّدي المساعد.”
[ليلي.]
“صباحُ الخير يا آنسة دينتا، لا تبدين على ما يرام.”
“في الواقع… الأمر هو أنّ…”
وراحت ليلي تُقصّ عليهما، خطوةً بخطوة، كلَّ ما حدث في الملحق؛
كيف انطلت كذبتُها على يوليوس، وكيف شوّه صورةَ آيدن، ثمّ كيف طلب منها أخيرًا أن ترافقه إلى العاصمة لتكون يده اليمنى.
رغم خفقانِ قلبها الشديد، ظلّت كلماتُ يوليوس راسخةً في ذاكرتها كأنها نُقِشت بالنار.
وبعد أن أنهت حديثَها، تراجع وولفرام خطوةً إلى الخلف وقال بهدوءٍ عمليّ.
“سأتفرّغ لأعمالي. تكلّما أنتما بهدوء.”
كان حكمُ وولفرام حازمًا وسديدًا.
فهو الوحيدُ بينهما الذي تعيقُه صعوبةُ التواصل، وهذا الموضوع — فهمُ نوايا الإمبراطور الحقيقيّة — أعقدُ من أن يُناقَش على عجل.
وفي مثل هذه الحالات، الانسحابُ المؤقّتُ هو أفضلُ خيار.
جلس وولفرام إلى مكتبِه، وتبعته ليلي بنظراتها قبل أن تلتفتَ نحو آيدن.
لكنّ الدوقَ، خلافًا لتوقّعاتها بأنه سيعترض فورًا، كان غارقًا في تفكيرٍ عميقٍ ووجهه ملبّدٌ بالجدّية.
ثمّ قال فجأة، بكلمةٍ واحدةٍ فظةٍ لا تليقُ بلقبه.
[هذا هراء.]
“عفوًا؟”
[من البداية إلى النهاية، كلّه هراء يا ليلي.]
رغم فجاجةِ الكلمة، بدت في صوته كأنها جملةٌ مُصاغةٌ بأناقة.
حسنٌ أن وولفرام كان قد انسحب، وإلا لكانت اضطُرّت أن تقول له لاحقًا. “لقد قال صاحبُ السموّ إنّ الأمر كلّه هراء.”
[لم تُصدّقي فعلًا تلك الخرافات عن الغيرةِ من ابن الإمبراطور، أو عقدةِ الطفولة، أليس كذلك؟]
“بالطبع لا! لم أُصدّق شيئًا من ذلك!”
كذبت.
كانت قد صدّقت رُبعَ القصّة على الأقل، فحديثُ يوليوس كان مقنعًا إلى حدٍّ مؤلم، ولم يكن مستحيلًا منطقيًّا.
فمن نشأ في بيئةٍ قاسيةٍ وتعرّض للإذلال، ألن يكن طبيعيًّا أن يحمل شيئًا من الحقد؟
حتى لو كان كلامُ يوليوس صحيحًا تمامًا، فلن يكون في الأمر عيبٌ على آيدن، بل العيبُ في يوليوس الذي يتغذّى على جراح الآخرين ليتباهى بها.
“لكن، أظنّ… أن ما قاله ليس غريبًا تمامًا. في ظلّ الظروف، يبدو مفهومًا. ما الغريب في ذلك؟”
[ليلي… لقد صدّقتِه.]
“لا، أعني… لو كان ما قاله صحيحًا فحسب!”
رغم محاولتها اليائسة لتدارك الموقف، ظلّت نظراتُ آيدن مثقلةً بالقلق.
حينها فقط أدركت ليلي تمامًا أن كلامَ يوليوس كلَّه كان كذبًا صِرفًا، فشعرت بالخزي وسارعت إلى تغيير الموضوع.
“على أيّ حال، بدا الإمبراطور كأنه يعرف شيئًا حقًّا. ظلّ يقول إنّ علينا القضاءَ على قائد الطائفة لنُنقذَكما كليكما. وإنْ صحّ ذلك، فـ…”
انحنى آيدن قليلًا نحوها، ومدّ يده الشفّافة نحو قبضتِها المشدودة.
لامسها بخفّةٍ باردةٍ كأنّ نُدفةَ ثلجٍ صغيرةٍ سقطت على جلدها.
[ستتركين أثرَ أظافركِ.]
لم تكن ليلي من النوع الذي يضغط بقبضتِها حتى يسيل الدم، كانت فقط تُبقي يدَها مشدودةً توتّرًا، وآثارُها تزول في دقائق.
لكنّ آيدن لم يصرف بصرَه عنها حتى بسطت يدَها تمامًا.
لم ينظر أحدٌ إليها من قبل بتلك الطريقة.
شعرت يدُها كأنها ستذوب تحت تلك النظرة.
مأخوذةً بعمق عينيه، تمتمت بما لم تُخطّط لقوله أصلًا.
“إذن… سأذهبُ إلى العاصمة.”
لم يكن ذلك ضمن نيّتها.
حتى وهي تجلس لتُبلّغه ما دار مع الإمبراطور، لم تكن قد حسمت أمرَها.
فمواجهةُ قائد الطائفة بأمرٍ من الإمبراطور تختلفُ تمامًا عن مداواةِ دوقٍ شبحي. لم تُخلَق لتلك المهمّة.
اجتاحها الندمُ دفعةً واحدة.
‘أغه، كان ذلك متهوّرًا للغاية. لم أفكر فيه حتى بشكلٍ صحيح.’
أرادت أن تبكي.
كيف رضخت لنظرةٍ واحدة؟ ولمسٍ عابرٍ كندفةِ ثلج؟
لكن تلك الندفة الباردة حرّكت في قلبها ما لم تستطع وعودُ الدنيا أن تُحرّكه.
هذا الرجلُ الشبحي، الذي لا يملكُ سندًا في الدنيا سوى فتاةٍ بسيطةٍ من العامّة، صار بالنسبة إليها كنزًا ثمينًا.
أرادت أن تُجيب على لطفِه الهادئ، أن تُقدّم له شيئًا، أيَّ شيءٍ يُخفّف وحدتَه.
حتى وإن ندمت لاحقًا على قرارها المتهوّر، بدا أنّها وُجِدت أصلًا لتقبل عرضَ الإمبراطور.
ففي ذلك بصيصُ أملٍ أن تُنقذ آيدن كاشيمير.
‘سيعترضُ بالتأكيد… كيف سأُقنعه؟’
لكن قبل أن تُكمِل أفكارَها، ارتفعت رموشُ آيدن الطويلة، وانتقل بصرُه من يدِها إلى وجهِها مباشرة.
كانت في عينيه، التي امتلأت دومًا بالدفء والشفقة، حدّةٌ مباغتةٌ كالثلجِ في غابةٍ شتويّة.
تجمّدت ليلي في مكانها. خيّم الصمتُ، ولم يُسمع سوى صوتِ ابتلاعها المرتبك.
تنفّس آيدن بعمقٍ خفيف، واستقام في جلسته، ورفّ جفنُه مرتين. اختفى ذلك التوتّر الحادّ كما لو لم يكن.
ثمّ بعد لحظةٍ قصيرة.
[أجل، كنتُ أتوقّع أن تقولي ذلك.]
جاء صوته وديعًا، رقيقًا كعادته.
[قلبُكِ طيّب، ليلي. لا تُفوّتين أدنى فرصةٍ لفعل الخير. وأنا، مدينٌ لكِ دومًا بذلك النقاء.]
انكمشت ليلي على نفسها خجلًا؛ فما من درعٍ يحميها من إطراءٍ صادقٍ كهذا.
“لـ… لستُ طيّبةً إلى هذا الحدّ…”
تمتمت بخجلٍ وهي تُخفض رأسها،
بينما رفع وولفرام نظرَه للحظةٍ قصيرةٍ من فوق أوراقه، ثمّ أعاد وجهَه إلى مكتبه، يخفي ابتسامةً صغيرة لا تُقرأ.
—يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 38"