استمتعوا
حين فتحت عينيها بخفة، رأت أقدام الشبح أمامها.
كان ينتعل حذاءً نظيفًا للغاية، لا غبار عليه على الإطلاق.
رفعت ليلي نظرها ببطء من الحذاء، مرورًا بثنية البنطال،
ثم الساق حتى الركبة، قبل أن تخفض رأسها فجأة.
لم تشأ أن ترى وجهه.
كانت تخشى أن يكون مبتسمًا ابتسامة مشقوقة من الأذن إلى الأذن.
‘رغم أنه لم يكن كذلك قبل قليل’
استعادت ليلي في ذهنها وجه الشبح كما لمحته للحظة قبل أن تنهار.
‘لكن، ملامحه مألوفة للغاية من يكون؟ أنا أعرفه حتمًا…’
في لحظة، ومضة من لوحة زيتية عبرت ذهنها.
فتحت عينيها على وسعهما وهي ما تزال تدفن وجهها في الأرض.
‘صاحب السمو! إنه دوق آيدن كاشيمير!’
كانت متأكدة تمامًا.
لا تزال تذكر بوضوح كيف تدربت على التعرف إلى وجهه من خلال لوحته أثناء تلقيها تدريبها كخادمة.
كان الشبح صورة طبق الأصل عن السيد الشاب النائم في القصر، والذي كان في غيبوبة.
[انظري إليّ.]
كان ذلك صوتًا،
إن جاز تسميته كذلك؛ صوتًا مشوهًا باليأس والغضب.
بلعت ليلي ريقها ورفعت رأسها بحذر.
كان بالفعل هو، دوق آيدن كاشيمير.
نادت باسمه بتردد لتختبر ردة فعله:
“د… دوق كاشيمير، صاحب السمو…”
ابتسم الشبح عند فمه.
[إذن ترينني.]
“نـ… نعم، يا صاحب السمو.”
[أنت ترينني… أخيرًا، أنا…]
كرر العبارة مرارًا وتكرارًا، ما دلّ على حالته الذهنية غير المستقرة.
من المؤكد أنه لا يمكن لإنسان أن يكون بخير بعد أن يتحول إلى شبح بين ليلة وضحاها.
ابتسامته راحت تتسع شيئًا فشيئًا، حتى بدت أقرب إلى الجنون.
كانت سعادته العارمة تنضح منه.
[ما اسمك؟]
“ليـ… ليلي دينتا، صاحب السمو.”
أجابته وهي ترتجف.
[ليلي…]
ناداها دون لقب على حين غرة، ثم طلب:
[كوني مساعدتي.]
“ماذا؟”
حين رفعت رأسها، كان لا يزال يحدّق فيها من نفس الوضعية دون أن يرمش، وهو ما أرعبها أكثر.
[أحتاج إلى مساعدتك.]
كانت نبرته ناعمة على نحو لا يليق بنبيل رفيع يخاطب خادمة.
حتى الكريمة المخفوقة ليست بهذا القدر من الحلاوة.
[أنت الوحيدة التي ترينني وتسمعين صوتي، ليلي دينتا.
وحدك من يستطيع مساعدتي.]
يا إلهي… لم تتخيل ليلي يومًا أن شبحًا سيتعلق بها على هذا النحو.
لو أنها فقط تذكّرت النصيحة القديمة:
“إذا أردت أن تتجنب الشبح، فاغلق عينيك وأذنيك.”
لكنها تأخرت كثيرًا.
وبينما كانت تغرق في الندم،
ناداها الشبح بنبرة حالمة تكاد تكون مريبة.
[أرجوكِ، ليلي.]
عينا الدوق كانتا خاليتين تمامًا من الدفء،
تنظران إليها كما لو كانت فريسة.
لولا هذا، لظنت ليلي أنه مغرم بها.
***
كان آيدن كاشيمير، الدوق الشاب الذي كان تائها بين الحياة والموت، يحمل ألقابًا عديدة:
ذلك البارد الذي يجري الثلج في عروقه بدلًا من الدم،
قاتل المتدينين الغرباء بوحشية، صاحب السلطة المتغطرسة.
لكن الآن، كان يتصرف على النقيض تمامًا.
[ليلي دينتا، أنت الوحيدة التي تستطيعين مساعدتي.]
أي علاقة لنغمة صوته الناعمة الآن بتلك الصفات:
البرود، الوحشية، أو الغطرسة؟
الحدث الذي دفع آيدن كاشيمير إلى تحمّل هذا القدر من الإهانة وقع قبل ثلاثة أسابيع.
في ليلة ما، حين استعاد وعيه فجأة،
وجد نفسه يحدّق في جسده الراقد في النوم.
كانت غرفة نومه، في منتصف ليلة مظلمة بلا قمر، غارقة في الظلام، لكنه، بطريقة ما، استطاع أن يرى تفاصيل الغرفة بوضوح كما لو أن ضوء القمر يتسرب إليها.
رفع يده ونظر إليها، فوجد أن جسده شفاف بعض الشيء،
يتوهج بضوء أزرق باهت، وتظهر الأشياء من خلاله بوضوح.
نظر إلى نفسه في المرآة، فلم يرَ شيئًا.
لم يكن حُلمًا. كان قد خرج من جسده في هيئة روح.
أدرك أيضًا أنه ما لم يُفرغ طاقة عاطفية قوية،
فلن يتمكن من التأثير في أي شيء مادي.
وكان مقيدًا، لا يستطيع مغادرة القصر الرئيسي.
لكن هذا كل ما استطاع تحليله بعقلانية.
بعدها، انهار كل شيء.
العزلة الكاملة، تشخيص الطبيب الذي لم يجد سببًا، الشائعات التي تحيط بالأرواح، والوجوه التي تنتظر موته بفارغ الصبر…
لكن ما لم يستطع تحمّله أبدًا كان عجزه.
لم يكن قادرًا على التحكم في أي جانب من حياته.
لا يستطيع التحقيق، ولا البحث عن حل.
كل ما يستطيع فعله هو الانتظار، دون أي وعود أو أمل.
كان الغضب ينهش داخله،
حتى أنه كثيرًا ما كان يستفيق ليجد نفسه قد بعثر المكان من حوله.
فقد أعصابه، ثم فقد الأمل، حتى غرق في فراغ موحش.
لكن عندها، ظهرت ليلي دينتا.
البشرية الوحيدة التي تراه، بوابته الوحيدة نحو العالم الخارجي.
لم يعرف لماذا كانت هي وحدها تراه،
لغز جديد يضاف إلى قائمة طويلة.
لكن هذا اللغز لم يكن مصدر عذاب له،
بل كان فرصة لا يجوز أن يفوّتها.
رآها كأنها شعاع نور يخترق الظلام.
بدأ آيدن بتحليل نفسية الخادمة: كانت خائفة لدرجة أنها كادت تهرب، لكنها لم تغادر المبنى كليًا.
وهي خادمة تحترم النظام الطبقي بدرجة تجعلها تخاطب شبحًا كأنه دوق حقيقي.
إذن، ما هي أفضل طريقة للتعامل مع خادمة بهذه الصفات؟
كيف يمكن استغلالها؟
استخدام الأوامر القاسية أو زرع الرعب لن يكون مجديًا.
فلو فرت خوفًا، ولم تعد إلى القصر مجددًا،
فستكون تلك نهاية كل شيء.
لهذا، اضطر آيدن إلى تمثيل دور لم يتوقع يومًا أن يؤديه:
نبرة متوسلة، ناعمة، يائسة.
[ليلي، إن ساعدتني، سأحقق لك أمنية واحدة،
أقسم بشرف منزل كاشيمير.]
ثم عاد ليفكر فيها مجددًا، في هذه الخادمة الثمينة:
[أرجوكِ، لا تخافي… أنقذيني.]
ولم يكن ليفرّط بها مهما حدث.
***
‘أنا خائفة حد الموت…’
همست ليلي في سرّها وهي ترتجف.
بنظراته الثابتة من عينين سوداوين خاليتين من الحياة، دون أن يرمش ولو مرة، كان من المدهش، بصراحة، أنها لم تفقد وعيها بعد.
‘في مثل هذه اللحظة، إن رفضتُ،
سأقع في ورطة مثلما يحدث في قصص الرعب.’
تذكرت بعض حكايات الأشباح.
مرت في ذهنها صور ضحايا يُطارَدون بحقد الأموات،
لينتهي بهم المطاف إلى حياة مليئة بالشقاء والبؤس.
بل إن بعض القصص كانت أسوأ: أبطال يُسحبون إلى العالم الآخر ليكونوا رفقاء موتى!
وكانت نظرات الدوق الآن تشبه تمامًا تلك النظرات.
لو قالت إنها لن تساعده، فستكون اللعنة مصيرها الحتمي.
لكن كان هناك مشكلة واحدة:
حتى لو أرادت مساعدته، فهي ببساطة لا تملك القدرة على ذلك.
“كـ… كخادمة مخلصة في قصر الدوق، سيكون شرفًا عظيمًا لي إن استطعت خدمتك،سموك … لكن للأسف، أنا مجرد خادمة عادية لا علم لي بشيء. ألا ترى أنه من الأفضل استدعاء مختص؟”
بردت نظرات الشبح، لكن صوته بقي ناعمًا.
[مختص مثل من؟]
“بما أن الأمر يتعلق بالروح، ربما… تلك الديانة التي يعرفها سموك… أو، ربما هناك في الريف من لا يزال يتذكر الشعوذة.”
حرصت ليلي على تجنب الخوض في التفاصيل قدر الإمكان.
ضحك الدوق ضحكة خفيفة.
[فكرة جريئة، أن تقترحي إدخال ديانة غريبة إلى قصر الدوق. للأسف، لم يكن لدي أي وسيلة لاستدعائهم.
لكن بوجودك… بات الأمر ممكنًا.]
“ماذا؟ أنا؟! لا، لا علاقة لي بهم!
أعتقد أنه لا يمكنني مساعدتك فعلاً…”
اكتفى الشبح بالتحديق فيها مبتسمًا،
ما جعلها تتلعثم وتتوقف عن الكلام دون وعي.
[دعينا نفكر في هذا لاحقًا. أما الآن، فركّزي على ما يمكنني أن أقدمه لك. تخيلي، فقط، كيف سيكون الأمر…]
بدا واضحًا أنه لا ينوي تركها وشأنها.
تمامًا كما في القصص،
حيث الشياطين المجنحة تغويك بأصوات ملائكية.
[إن منحكِ ثروة تُغنيكِ عن هموم العيش هو أسهل ما يمكنني فعله. لذا، أطلقي العنان لخيالكِ وتمني أمنية إبداعية.
لنتبادل يأسي بيأسكِ. أليس كذلك، ليلي…؟]
يا لها من وعود حالمة تثير رغبتك في المشاكسة.
خرجت ليلي من دوامة الخوف واستعادت بعضًا من عقلها.
في الوقت الحالي،
قد يبدو وكأنه مستعد لإحضار نجوم السماء إن طلبت،
لكن ما إن تُحل مشكلته، فهل سيبقى على وعده؟
هل سيحقق لها أمنية عبثية كأن تطلب أن تعيش في ترف وبذخ إلى الأبد، أو أن تصبح زوجة نبيل مرموق؟
ليست ساخرة بطبعها،
لكنها تعلم جيدًا أن من لا يحتاجك سينسى معروفك.
لذا، في نهاية المطاف،
ستطلب شيئًا معقولًا لا يلفت النظر، كي لا تثير حفيظته.
لكنها كانت تفكر بجدية:
‘إن لم يكن هناك انقلاب جذري في حياتي، فهل يجدر بي أن أرتبط بشبح؟ ربما من الأفضل أن أبحث عن ثغرة للهرب…’
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 2"