استمتعوا
يشعر بالبهجة حين يرى ليلي دينتا.
حتى أحاديثها البسيطة التي لا تنتهي لا تملّ.
كان ذلك شعورًا ظنّ أنه لن يختبره مجددًا بعد أن تحوّل إلى شبح رمادي.
ولذا، كان من الطبيعي أن يتساءل: إن كان يشعر بهذا القدر من السعادة الآن، فماذا عساه يشعر به لو التقى بليلي دينتا عندما لا يعاني من أي مشكلات؟
رغم أن الدوق والخادمة ينتميان إلى طبقتين لا تشتركان حتى في الهواء الذي يتنفسانه، ألا يُمكن استثناء ليلي دينتا من هذه القاعدة قليلاً؟
لو رفعها من مكانة خادمة بسيطة لتصبح مسؤولة عن غرفته وطعامه وملابسه، بل وحتى مكتبه كما هو الحال الآن، فسيكون قادرًا على إبقائها إلى جانبه حتى بعد نهاية كل هذا.
لكن كان هناك أمرٌ ما يُزعجه في الخفاء.
‘لا، لا…’
غيّر آيدن رأيه.
إن عاد إلى جسده، فسيكون لليلي دينتا الفضل الأكبر في ذلك.
لذا عليه أن يُعطيها مبررًا لتعمل في المكتب الثالث، ويطلب منها أن تشاركه نزهاته ليستجمع أنفاسه ويجد حلولًا غير متوقعة.
تذكّر كيف كانت تأكل قطعة الحلوى يوميًا بانبهار جديد.
كان بإمكانه أن يُقدم لها ما هو أشهى بكثير.
وكان ينوي أيضًا أن يمنحها ملابس تُبرز مرحها بدلًا من زيّ الخادمة الكئيب.
وبالتفكير الجيد، لم يكن عليه تأجيل بعض تلك الخطط.
فمثلًا، كان بإمكانه أن يخلع عنها زيّ الخادمة غدًا مباشرة ويمنحها معاملة أفضل. كأن يُذوقها جزءًا من المكافآت المستقبلية منذ الآن.
وأعجبته تلك الخطط كثيرًا.
رغم أنه كان قلقًا قليلًا من أن تكون قد شعرت بالخوف بسبب تهديد وولفرام، لكن أنظر إليها! لقد قالت إنها تثق به، وأحضرت له هدية أيضًا!
وهكذا، عندما اقترب الفجر، قرر آيدن كاشيمير أن يُخبر الخادمة بتفاصيل خططه فور لقائه بها.
ثم إن ليلي دينتا،
والتي لن تعود خادمة بعد الآن، ستبتسم بوجه مشرق.
وانتظرها آيدن بحماس.
وانتظرها بعد مرور النهار، ومع عودة الليل.
حتى مع بزوغ صباح جديد، وبعد أن جفّ الابتسام من وجهه.
ظلّ ينتظر.
وينتظر.
…….
***
هروب ناجح!
تمكنت ليلي من الصعود إلى عربة نقل الإمدادات الصباحية التي تعود من قصر الدوق.
ولبت بسرور طلبات زميلاتها بشراء أشياء من المدينة أثناء عودتها.
كانت تُريد تفادي الشكوك،
كما أنها احتاجت المال الذي دفعنه مقدمًا لتمويل هروبها.
شعرت بالكثير من الذنب تجاه صديقاتها اللاتي وثقن بها. ولهذا، كانت تخطط لتحويل الأموال لهن فور أن تستقر في مدينة أخرى.
كان في حقيبتها الكبيرة نقود قليلة وبعض الأدوات اليومية التي لا يُشترى مثلها مرتين.
-إلى رحلة بعيدة أم ماذا؟
زميلاتها كنّ يمازحنها بودّ، لكنها شعرت بوخزة في قلبها.
لقد كنّ على وشك اكتشاف الحقيقة.
فالفرق الوحيد أن الأمر ليس ‘رحلة’ بل ‘هروب’.
لم تغادر ليلي قصر الدوق إلى المدينة منذ قرابة عام.
في الصباح الباكر، كان الناس يهرولون في الطرقات،
ورائحة الخبز المشوي تملأ الهواء.
ومثل باقي الناس، مشَت ليلي بخطى سريعة.
بعد اجتيازها عدة أزقة ضيقة، وصلت إلى منطقة الطبقة المتوسطة والفقيرة حيث يقع منزلها السابق.
تعيش جدتها في الطابق الثاني من مبنى طويل يحشر بين مبنيين آخرين كالشطيرة.
صعدت ليلي السلالم بقوة وطرقت الباب بشدة.
“جدتي!”
بعد لحظات، فتحت جوليا دينتا الباب.
كانت تضع نظارة صغيرة على جسر أنفها، وشعرها الرمادي ملفوف بدقة دون خصلة واحدة خارجة عن مكانها.
أزرار قميصها مغلقة حتى الرقبة، مما يعكس شخصيتها الصارمة.
بدت مذهولة من ظهور حفيدتها المفاجئ.
“ليلي؟”
“صباح الخير جدتي!”
“ما الأمر؟ لماذا أتيت فجأة دون حتى ارسال رسالة؟”
“لا وقت للكلام وقوفًا. علينا أن نحزم الحقائب حالًا.”
دفعت الباب ودخلت دون استئذان.
كان المنزل مكوّنًا من غرفة صغيرة بها سرير بطابقين وغرفة معيشة صغيرة. وكانت الغرفة ضيقة جدًا بسبب أكوام الكتب المنتشرة.
نظرت ليلي حولها.
كان هناك المزيد من الكتب مقارنة بزيارتها الأخيرة.
ربما اشترت جدتها كتبًا مستعملة بثمن بخس.
‘قلت لها مرارًا أن تنفق هذا المال على الخبز!’
لكن ليلي كانت تعلم أن هوس جدتها بالكتب لا يُمكن تغييره.
اتجهت بسرعة نحو الغرفة الصغيرة.
“ليلي! ما الذي تفعلينه باقتحامك المنزل بهذا الشكل منذ الصباح! هل هكذا علمتك؟”
“لا، جدتي. سأشرح لك الآن.
الدوق تحول إلى شبح. وأنا كنت أساعده بإخلاص!”
فتحت حقيبة السفر الكبيرة.
“لكنّ طريقتهم في العمل غير معقولة! وإن عاد الدوق إلى جسده لاحقًا، فسيحاولون التخلص مني لإخفاء السر.
لذا عليّ أن أهرب قبل أن يتمكنوا من الحركة.”
“ما الذي تقولينه؟”
لماذا لا تفهمني؟!
شعرت ليلي بالضيق للحظة، لكنها حاولت التماسك وبدأت تشرح مجددًا، بينما كانت يداها تكدسان الملابس في الحقيبة بجنون.
“أعني أن الدوق أصبح شبحًا. وأنا الوحيدة التي يمكنها رؤيته،
لذا أصبحت مساعدته. قالوا إنهم يبحثون عن مترجم يتحدث لغة سولمون، لكن حين سألتهم كيف سيخفون السر، قالوا إنهم سيدبرون حادثًا لقتلي…”
“ليلي!”
أمسكت جوليا بمعصمها.
“اهدئي قليلًا.”
عندها فقط أدركت ليلي أنها كانت تتكلم دون أن تتنفس.
حاولت أن تأخذ نفسًا عميقًا،
فأخذت جوليا الحقيبة وخبأتها تحت السرير.
“هل تناولت الإفطار؟”
“ليس بعد.”
“انتظري قليلًا.”
خرجت جوليا، بينما بدأت ليلي تستعيد بعض هدوئها وجلست على مائدة المعيشة.
على الطاولة كان هناك كتاب نحيف بغلاف أسود.
في الأحوال العادية كانت لتقرأه بحماس،
لكنها الآن لم تستطع التركيز.
وبعد قليل، عادت جوليا بصينية تحتوي على فطور لشخصين.
“أعطيت السيدة براون أجرًا إضافيًا. وعليك أن تسددي المبلغ.”
قالت بنبرة لوم.
“والآن، بهدوء تام، أخبريني بكل شيء، من البداية.”
بدأت ليلي تروي لها القصة التي بالكاد تُصدق،
بينما كانت تتناول فطورها، واستغرق ذلك أربعين دقيقة كاملة.
وحين انتهت، كانت أول كلمات جوليا:
“رأيتِ الأرواح مجددًا؟”
“مجدّدًا؟”
“نعم، مرة أخرى.”
شعرت ليلي بالحيرة.
‘مرة أخرى’ ؟ هل رأت الأرواح من قبل أيضًا؟
لم تتذكر أبدًا أنها رأت شبحًا غير الدوق.
ولم تبدُ جوليا كشخص يختلق القصص.
‘هل فقدت الذاكرة دون أن أعرف؟ لا، مستحيل. مستحيل تمامًا.’
تنهدت جوليا بعمق.
“يبدو أنك لا تتذكرين.”
“ألا تكونين مخطئة؟ أنا رأيت الأرواح؟ متى؟
لم تخبريني بهذا من قبل. وهل يعرف أمي وأبي؟”
“لا، لا يعرفان. احتفظت بهذا الأمر سرًا. وفي مرحلة ما توقفتِ عن الحديث عن هذا، فظننت أنك لم تعودي ترين شيئًا…”
لعقت ليلي شفتيها بتوتر.
الوقت لا يسمح بالحديث عن ذكريات الطفولة.
يجب أن تغادر الدوقية بأسرع وقت ممكن.
لكنها شعرت أيضًا برغبة قوية في سماع المزيد. عن ماضيها.
عن تلك القدرة الغريبة التي لم تكن تعلم بوجودها.
ومن الطبيعي أن تشعر بالفضول.
فكرت في الوقت المتاح.
اليوم اجازةرسمية، وهي الآن في الصباح الباكر.
الحديث قليلًا لن يضر.
وربما لم تكن قدرتها على رؤية الأرواح هي الوحيدة التي نسيتها.
“جدتي، لا أصدق ذلك. أنا رأيت شبحًا؟ وأنتِ تقولين إن ذلك حدث في طفولتي؟ متى تحديدًا؟ لا أتذكر شيئًا أبدًا.”
نظرت جوليا إلى الكوب الفارغ أمامها، مسترجعة ذكرياتها.
“لا عجب. كنتِ حينها في الخامسة فقط. لكنك كنتِ ذكية للغاية. تعلمتِ القراءة وتكلمتِ بطلاقة في هذا السن…”
***
كانت جوليا دينتا بالكاد قد عادت إلى منزلها المؤجر قبيل حلول الظلام.
كانت قدماها تؤلمانها بعد مشي طويل في الحذاء الضيق.
كانت جوليا تعمل كمدرسة لغة سولمون في المنازل.
الطلب على مدرسي هذه اللغة كان نادرًا كالمطر في الجفاف.
لكنها كانت غالبًا تُقبل فور التقديم.
رغم أنها من عائلة نبيلة متدهورة، فإن وقارها وأسلوبها الهادئ والدقيق كانا ينالان إعجاب القائمين على المقابلات.
لكن الأهم من كل ذلك،
أنها كانت قادرة على قراءة نصوص سولمون دون قاموس.
رغم أنها لا تحمل شهادة جامعية،
فإن قدرتها على تحليل النصوص كانت تضاهي الأكاديميين.
حتى في دوقية مزدهرة مثل هذه،
من النادر العثور على موهبة مثلها.
العائلة التي كانت تعمل لديها حاليًا تنتمي إلى أحد فروع أسرة كونت.
كانوا يهدفون إلى صقل ثقافة ابنهم،
ومن ثم توظيفه في شركة تجارية للتعامل مع سولمون.
رغم كونها بلادًا غامضة، فإن لها مستقبلًا واعدًا في التجارة.
عرضت العائلة أن توفر لها غرفة للسكن مع الطعام،
ما كان سيوفر عليها مشقة التنقل.
لكن الشرط كان أن تعيش بمفردها.
وبما أنها ترعى حفيدتها، لم يكن أمامها سوى استئجار غرفة في ضواحي المدينة والذهاب والإياب يوميًا.
اتجهت جوليا إلى غرفة المعيشة في الطابق الأول.
كانت السيدة براون، صاحبة المنزل،
قد اهتمت بحفيدتها حتى عودتها.
“مرحبًا، سيدتي. شكرًا كالعادة.”
“أحسنتِ اليوم أيضًا.”
“هل حصل شيء اليوم؟”
“لا شيء يُذكر. ليلي كانت تلعب وحدها بكل هدوء.”
نادَت السيدة براون على ليلي:
“ليلي، جدتكِ عادت.”
عندها فقط، رفعت الفتاة رأسها من بين صفحات كتاب كانت تغرق فيه على الأريكة بجانب النافذة.
“جدتي! هل عدتِ؟”
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل "10- القصر المسكون و الخادمة"