17
ⵌ161
من خلال مراجعة الوثائق والملاحظات التي تركها كليف، تمكنت من كشف الحقيقة الكاملة وراء ديْن المئتي مليون قطعة ذهبية.
“إنه يحاول نهب الممتلكات وانتزاع اللقب لنفسه…
كم كنت دنيء يا كليف.”
لعنته في داخلي، رغم أن روحه قد غادرت هذا العالم.
كان سيدريك راينلاند قد استثمر أموالًا طائلة في عدة مشاريع، وغالبًا ما كان يشتري العقارات بهذه الأموال.
بل امتلك حتى فيلا على الساحل الجنوبي. وبالطبع، كانت جميع هذه الممتلكات خاضعة لشرط يمنح كليف كامل الصلاحية للتصرف بها كما يشاء.
لكن السبب الأساسي وراء تراكم ديونه لم يكن العقارات، بل المنجم.
“إذا راجعت هذا التاريخ، ستجده يتزامن مع واقعة تعرض سيدريك راينلاند لخطر الموت بسبب الحشرة الذهبية.”
يبدو أن كليف كان على دراية بتدهور صحة سيدريك، وإن لم يكن يعرف السبب بدقة.
فلا بد أنه لاحظ علامات الهزال وتكرار تقيؤ الدماء… لا يمكن تجاهل شيء كهذا.
لذلك كتب في مذكرة مرفقة بعقد شراء المنجم عبارة “قرض إن أمكن”.
استدان باسمه، وأدار عملية شراء وبيع المنجم باسمه هو، مستخدمًا اسم سيدريك راينلاند.
وبعد وفاة سيدريك، استولى كليف على جميع مستندات التركة، وبدأ ببيعها حسب حاجته، وكأنها ممتلكاته الخاصة.
“لكنه لم يبع هذا المنجم بعد… حين أعود إلى العاصمة، سأبيعه وأسدد كل ديوني.”
وبينما كنت أجمع أوراق التركة، استيقظ بوفورت من غفوته.
“أنا… آه، إيرن؟ هل هذا أنت؟”
“غريب… لقد ضربته على مؤخرة عنقه، فلماذا يتصرف وكأنه تلقى ضربة على رأسه؟”
تمتم إيرن ساخرًا، وهو يراقب بوفورت يحدق فيه كمن رأى شبحًا.
في تلك اللحظة دخلت جوديث، وقدّمت لبوفورت كوب ماء أحضرته من المطبخ.
لم يكن هدفها إظهار اللطف، لكنها رأت أن إفاقته ضرورية قبل البدء باستجوابه حول ما حدث.
“أحتاج إلى تفسير، السيد بوفورت آكرمان.”
“من أنتِ؟”
“جوديث هارينغتون… لا، الكونتيسة جوديث راينلاند، الوريثة الشرعية لعائلة راينلاند.”
همست بغمزة أن كليف آكرمان كان له يد كبرى في كل ما جرى.
—
“إذًا، أنت من استدعى روح سيدريك لتعديل بعض العبارات في الوثائق؟”
أومأ بوفورت برأسه بفتور.
رغم فشل التمرد، كان كليف يتمتع بقدر كبير من الحظ، إذ حافظ على سرية علاقاته مع أتباعه.
وبعد وفاة سيدريك، بدأ تدريجيًا في بيع الممتلكات التي استولى عليها، وعاش حياة مترفة.
أما بوفورت، فكان يعيش على ما يمنحه إياه ابنه من أموال.
ولكن بعد اعتقال كليف، وجد بوفورت نفسه في أزمة مالية حادة.
إذ صودرت جميع الممتلكات المسجلة باسم عائلة آكرمان.
وقبل اعتقاله بفترة قصيرة، طلب كليف من بوفورت أن يخفي ما تبقى من الأموال المسروقة.
“كان ينوي استخدامها بعد خروج ابنه من السجن.”
“وكيف كنت تعيش قبل ذلك؟”
“أحم… أنا أيضًا خبأت جزءًا منها.”
قالها بوفورت وهو يتجنب النظر في عينيّ إيرن.
فقد اختلس أموالًا عندما كان مستشارًا قانونيًا لعائلة راينلاند، في عهد والد إيرن، الكونت السابق.
وحين نفدت تلك الأموال، حاول كليف استعادة المال المخفي لاستخدامه مجددًا.
“هل أصبح اختلاس الأموال إرثًا عائليًا يُورَّث من جيل إلى جيل؟”
رغم استيائي من تصرفات بوفورت، قررت التغاضي مؤقتًا، بل وتعهدت بعدم إبلاغ الشرطة.
فحتى إن أُبلغت السلطات، فلن تُسترد الأصول، وكان من الأفضل الاستفادة من الموقف لكشف ما يخفيه.
“لقد حاولت تزوير الوثائق.”
وقد نجح بالفعل.
فقد اعترف بوفورت أنه قدّم تضحية لاستدعاء روح سيدريك، بغرض التلاعب بمحتوى الوثائق.
كان يحاول حذف اسم كليف من بند ينص على: “أفوض كليف آكرمان، ممثلي القانوني، بإبرام عقد البيع والإيجار”، واستبداله باسم آخر.
“سمعت عن هذا الطقس من عرّاف قديم.
قال إنه يمكن تنفيذه حتى من دون امتلاك قدرات روحية…
ولكن تِسك!”
كانت الطريقة بسيطة: تقديم تضحية، مناداة اسم الروح، الإمساك بقلم، وطرح السؤال:
“هل أتيت؟”، لتجيب الروح بتحريك القلم.
طقس لم يكن سيلجأ إليه عادة، لكنه كان محاصرًا من كل الجهات.
“يبدو الأمر أشبه بالتقمص أو الاستنساخ، أليس كذلك؟”
عادت إلى ذهني ذكريات من حياتي السابقة.
بدا الأمر شبيهًا بأسطورة “بنشينسابا”، لكن هذا الطقس أكثر خطورة، لأنه يتضمن تزوير مستندات حقيقية.
“ألم يكن هناك طريقة أخرى لتزوير المستندات؟”
“كنت بحاجة إلى هذا الختم النصفي.”
وأشار بوفورت بأصابعه المرتعشة نحو الختم الواقع على طرف الوثيقة.
كان هناك نسختان من المستند:
واحدة للمشتري، وأخرى للبائع، وبينهما ختم مشترك في المنتصف.
لم يكن تزويره مستحيلًا بالكامل، لكن عائلة آكرمان كانت في موقف حرج، وأي تعامل مع مزور محترف قد يسبب فضيحة علنية.
“هل كنت تنوي حذف اسم كليف واستبداله باسمك؟”
“لا، الشرطة تراقب كل خطواتنا.
ولو تم تحويل مبلغ كبير باسم آكرمان، سيُعاد فتح التحقيقات.”
“فما الذي كنت تنوي فعله إذًا؟”
“كنت أنوي استخدام الاسم المسجل على بطاقة الهوية المزورة التي صنعتها مسبقًا.”
كان دقيقًا في هذه الأمور، ليثبت للناس أنه لا يزال محاميًا محترفًا.
“أعتقد أنني سمعت كفاية.
سأغادر الآن.”
لفّ إيرن ذراعه حول كتفيّ.
انتهت الصفقة مع بوفورت، ولم يكن في مزاج للبقاء في منزل تفوح منه رائحة دماء الحيوانات.
غادرنا المنزل، وتركنا بوفورت يتذمر من أنه سيقضي أيامه القادمة جائعًا، يمص إبهامه.
وبصراحة، لم أكن أنوي الإبلاغ عنه.
فالشرطة غارقة في القضايا، وبوفورت لم يعد يملك ما يكفي من المال لتوظيف خادمة، فما بالك بمحامٍ.
—
بينما كانت جوديث وإيرن منشغلين باستعادة حقوقهما، وقعت عدة حالات اختفاء غامضة في العاصمة.
شملت القائمة:
مرابيًا يُدعى سميث، لصًّا اقتحم منازل خالية، رجلًا مشرّدًا مخمورًا، بلطجيًا هاربًا من معركة، ولص جيوب.
لكن، باستثناء سميث، لم يثر اختفاء أي منهم ضجة تُذكر، إذ لم يسأل عنهم أحد.
حتى اختفاء سميث مرّ بصمت.
والسبب؟ رجاله لزموا الصمت.
فلو أُعلن عن اختفائه، ربما يتوقف المدينون عن دفع فوائد القروض خوفًا.
ولو وُجدت جثته، لربما تغيّر الموقف، لكن غيابه دون أثر جعل الإعلان عن اختفائه غير ضروري.
“إذًا تبحثون عنه سرًا؟”
“نعم.”
ما إن علِم الأخوان لوهمان بعودة جوديث وإيرن إلى العاصمة، حتى أسرعا إليهما.
فقد بقي التحذير الذي أطلقته جوديث قبل مغادرتها العاصمة محفورًا في ذاكرتيهما.
“نعتقد أن الكاهن هو من اختطف قائدنا.”
“هممم…”
مالت جوديث برأسها قليلاً.
هل أضاف الكاهن جريمة الاختطاف إلى سجله الملطخ بالقتل؟
يبدو أنه وسّع مجال جرائمه.
“هل يستطيع كاهن أن يختطف السيد سميث؟ هل يملك القوة البدنية الكافية؟”
ربما قتل الكاهن سميث، إذ لم يُبدِ أي من ضحاياه السابقين مقاومة تُذكر، ويبدو أنه يتقن استخدام السموم المشلّة.
لكن الاختطاف مسألة مختلفة.
إذ يتطلب نقل الضحية دون إثارة انتباه أحد.
وكان الكاهن قصير القامة، وسميث ضخم البنية. فكيف يتمكن من نقل جسد فاقد للوعي دون أن يلحظ أحد؟
“إيرن، ما رأيك؟ هل هذا ممكن؟”
“سيكون صعبًا، ما لم يساعده أحد… أو إن ذهب سميث معه طواعية.”
هزّ إيرن رأسه متعجبًا، بينما بدا الإحباط على وجه الأخ الأكبر من آل لوهمان.
“هل من الممكن أن سميث سئم الحياة…
وغادر بنفسه؟”
“مستحيل.
قائدنا لا يتخلى عن المال أبدًا.”
أجاب الشقيق الأصغر بصرامة، فأومأ إيرن برأسه موافقًا.
“ربما اجتمع من يضمرون له الشر…
وتعاونوا على اختطافه.”
لسميث أعداء كُثر، وسمعته السيئة ليست وليدة الصدفة.
“لقد كان يعيش معنا في المنزل نفسه.”
استعاد الأخ الأكبر من آل لوهمان ذكريات ليلة الاختفاء.
“لم نكن نائمين حينها.
ولو اجتمع أحد لاختطافه، لكنا سمعنا شيئًا.”
فحتى أقلّ فوضى ممكنة كانت ستُلاحظ، لأن سميث لم يكن سهل المراس.
“حتى الضرب على مؤخرة الرأس يصدر صوتًا.”
تمتم الشقيق الأصغر.
“لكنني رأيت أمرًا غريبًا في تلك الليلة.”
“آه، تقصد تلك الفتاة؟ هل تظن أن قائدنا يُخدع بكلام فتاة واحدة؟”
عبس الأخ الأكبر، فتجهم الأصغر، لكن جوديث قاطعتهما وسألته:
“فتاة؟”
“في يوم اختفاء قائدنا، رأيت فتاة تجر عربة.
كانت تعرج وهي تجرها.”
“لا أظن أن فتاة عرجاء قادرة على اختطاف سميث.”
هزّ إيرن رأسه.
في قصر راينلاند، اجتمع كل من جوديث، إيرن، والأخوين لوهمان لمناقشة خيوط اختفاء سميث.
—
“آنستي، دعيني ألتقط هذا عنك.”
قال هنري وهو يجمع أعواد الثقاب التي أسقطتها فتاة.
“هل تستطيعين فعلًا حمل هذا العبء الثقيل بمفردك؟
ذراعاكِ ضعيفتان، وساقاكِ تبدوان مصابتين… دعيني أوصلكِ إلى وجهتك.”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ162
“الأمر مزعج إلى حد أنني أشعر أنني قد أموت.”
مسح شادين العرق المتصبب من جبينه.
كان يتمنى لو ينزع ذلك الشعر المستعار المتدلي على الفور، لكن فعل ذلك سيؤدي إلى اقتلاع شعره الحقيقي بفعل الدبابيس التي تثبته.
قال شادين بنبرة مفعمة بالعطف وهو يُبعد بعض خصل الشعر التي التصقت بوجه سميث المقيد:
“أليس من الجميل أن تملك صديقًا يا سيد سميث؟ لقد كنت وحيدًا طيلة هذا الوقت.”
كان سميث يحدق بعينيه المتسعتين نحو الرجل الملقى على الأرض.
رجل وسيم اعتاد ترتيب شعره بعناية وارتداء ملابس أنيقة.
تلاقت نظراته بنظرات أحد الفرسان السابقين، الذي كان يعمل سابقًا في متجر العطور التابع لجوديث.
تابع شادين قائلاً:
“سيزول الخدر من حول فمك قريبًا.
وعندما يحدث ذلك، أخبر السير هنري ألّا يصرخ. صديقه في الغرفة المجاورة حساس للأصوات. أنت تعرف هذا، أليس كذلك؟”
خرج شادين من الغرفة، متهادية تنورته مع خطواته.
ثم أُغلق الباب بقوة، مثيرًا سحابة من الغبار.
ولم يفتح سميث فمه إلا بعد أن تلاشت أصوات خطواته المتعثرة.
“هيه، سير هنري.”
“أوغ… أوغ…”
أطلق هنري أنينًا خافتًا مختنقًا بالرعب.
“شَش، اصمت.
هل تعرف من أنا؟ إذا كنت تعرف، ارمش ثلاث مرات.”
رمش هنري بعينيه ببطء ثلاث مرات.
“سيزول الشلل الوجهي قريبًا.”
فعل سميث الشيء نفسه.
قبل عدة ليالٍ، في الليلة التي حذرته فيها جوديث من توخي الحذر قبل أن تغادر، عاد سميث إلى منزله بعد يوم عمل.
صعد شقيقه لوهمان إلى غرفته في الطابق الثاني، بينما خرج هو إلى الخارج ليدخن سيجارة.
“لكن حينها، كانت هناك فتاة تسحب عربة.
أثار فضولي ما تحمله، فتقدمت نحوها، وقالت إنها تبيع أعواد الثقاب.”
في تلك اللحظة، راود سميث تفكير غريب:
“ما الذي يجعل أعواد الثقاب ثمينة إلى هذا الحد ليتم بيعها على عربة؟”
اقترب من العربة بدافع الفضول، ورفع الغطاء القماشي الذي يغطيها بنفسه.
وفجأة، سكبت فتاة الثقاب سائلاً لزجًا على وجهه. وفي تلك اللحظة، تجمد جسده بالكامل، وفقد وعيه.
“وحين استيقظت… وجدت نفسي هنا.”
استعاد وعيه، لكن جسده بقي عاجزًا عن الحركة. أمامه، خلعت فتاة الثقاب شعرها المستعار، وتحولت عيناها من الزُرقة إلى لون أصفر فاقع.
“أنا متأكد أن السير هنري أدرك الآن أنها لم تكن فتاة.
إنه الكاهن، ذلك الحقير.
تنكر بزي امرأة كي لا يُكتشف أمره!”
سميث خفف من حذره.
رغم تحذير جوديث الصارم بعدم التهاون، إلا أنه فعل.
من كان ليتخيل أن الكاهن قادر على تغيير لون عينيه، وشعره، وجنسه أيضًا؟
لكن بعد ذلك، بدأ يعود إلى وعيه.
ظل شادين يطعمه سمًا يسبب الشلل بانتظام، لكن سميث حاول جاهدًا ألا يبتلعه بالكامل.
ومع استمرار تسرب كميات صغيرة منه إلى جسده، طور مقاومة له.
وبفضل ذلك، حتى مع رش شادين للمادة، كان سميث قادرًا على التحدث بحرية.
“بالطبع، هو لا يعرف هذا، لذا اجعلها سرًا بيننا.”
“أوه، أوه، أوه… باه؟”
تمتم هنري بشيء ما، بشفاهه التي بالكاد تتحرك. أنصت سميث بعناية، ثم أومأ برأسه وكأنه فهم.
“هناك شخص مخيف حقًا يعيش في الغرفة المجاورة.
لهذا لا أستطيع الصراخ حتى وإن سمعت صوته.”
اختلط الرعب بالاشمئزاز في عيني سميث وهو ينظر نحو تلك الغرفة.
—
“أين اختفى هذا الذي لا يعرف كيف يقاتل حتى؟”
قال إيرن وهو يمرر يده بشدة عبر شعره.
مضى يوم كامل منذ أن أخبره رايان بأن هنري خرج لشراء بعض الحاجيات ولم يعد.
المتجر مغلق، وطلب من كاين أن يبحث عنه، لكن لا أثر له، كأنه تبخر من الأرض أو طار في السماء.
“إلى أين ذهب بحق الجحيم؟”
في الساحة حيث اختفى هنري، كانت جوديث تسأل الناس إن كانوا قد رأوه، وهي تدق بقدمها الأرض بنفاد صبر.
قال أحد الباعة المتجولين إنه لم يسمع شيئًا منذ أن اشترى هنري المخبوزات.
شخص آخر قال إنه رآه، لكنه كان يسير بمفرده، يبتسم للنساء كعادته.
ثم اقتربت امرأة من جوديث وسألتها:
“ألستِ صاحبة متجر العطور؟”
“أهلاً، مدام مولين.”
رغم القلق الذي كانت تشعر به، ردّت جوديث بتحية مهذبة.
كانت السيدة مولين من القلائل الذين واصلوا شراء العطور منها حتى بعد فضيحة توظيف آل شارتين.
“ذهبت إلى المتجر، لكنه مغلق.
ماذا حدث؟”
“في الواقع، السير هنري اختفى.”
“السير هنري؟”
أمالت مدام مولين رأسها بتساؤل.
“لقد رأيته بالأمس.”
“حقًا؟ أين؟ أين رأيتِه؟”
“عند النافورة في الجهة الغربية من الساحة.
كان يساعد فتاة في حمل أمتعتها.”
كانت ترتدي كالعوام، أطول من الفتيات عادة، وكانت تمشي وهي تجر ساقًا مصابة.
قال إن هنري كان يتبعها وهو يحمل أمتعتها.
“هل رأيتِ وجه تلك الفتاة؟”
هزّت مدام مولين رأسها نفيًا.
“السير هنري شخص جيد وطيب، لا يمكن أن يتجاهل فتاة تبدو بحاجة للمساعدة.”
كانت محقة.
هنري لا يحتمل رؤية أحد في مأزق.
ولو حكمنا بروح الفروسية فقط، لكان هنري أنبل من إيرن نفسه.
“شكرًا لنصيحتكِ، سيدتي.”
“أتمنى أن تعثروا عليه بسرعة.”
غادرت مدام مولين والقلق بادٍ على ملامحها.
أما جوديث، فكانت تفرك جبينها بأصابعها، محاولة كبح خفقان قلبها.
سميث، هنري، وتلك الفتاة المصابة.
لا شيء يحدث بالصدفة.
كل شيء مترابط بشكل لا يمكن تجاهله.
“السيد سميث والسير هنري… إنهما من أقرب الناس لي.
وشادين بدأ يستهدفهم واحدًا تلو الآخر.”
ماذا لو أنه بدل من القتل، بدأ في اختطافهم، بدافع الغيظ من أن يُستهزأ به؟ وماذا لو كانت الفتاة مجرد متعاونة معه؟
“ربما الكاهن فقد قدرته على الحركة بسبب لعنة مرتدة، لذا استعان بها كذراع تنفيذية؟”
وإن كانت هي كذلك، فلا بد أنها تقيم معه في نفس المكان.
“ليس لدي وقت لأضيعه… يجب أن أبحث فورًا في العقد الذي سرقه كليف.”
حتى لو كان ذلك مجرّد احتمال، فهو أكثر جدوى من الركض بين الناس وسؤالهم إن رأوا هنري.
“إيـ…”
“هاه؟”
فزعت جوديث حين وجدت إيرن بجانبها، بينما كانت تنوي مناداته للعودة إلى المنزل.
كان يتحدث قبل لحظة فقط مع تاجر، فمتى اقترب منها؟
“لنعد إلى المنزل، أليس كذلك؟”
“نعم…”
ما هذا الشعور؟ كأنه يقرأ ما يدور في عقلي…
صعدت جوديث على ظهر الحصان “غولد” وهي تبتسم بتوتر.
—
“هاه…”
كانت تتصفح وثائق ملكية عائلة راينلاند، تفرز عقود بيع العقارات في العاصمة.
“انتظري، أليس هذا عقد إيجار؟”
لم يكن مبنى، بل قطعة أرض.
عقد لتأجير أرض داخل العاصمة مقابل أجر شهري.
“لكن لمن يدفع هذا الشخص الإيجار؟”
سيدريك مات، وكليف كذلك.
إذن، ألم يكن عليه أن يأتي إليّ باعتباري الوريثة الشرعية لعائلة راينلاند؟
“هذا، هذا…
لا بد أنه ظن أنني نسيت، لذا لزم الصمت.”
سأذهب بنفسي هذا المرة لأحصّل الإيجار المتأخر.
تنهدت وهي تطوي طرف عقد الإيجار، مصممة على مواجهته.
“لكن، هل أنتِ قلقة على هنري؟”
سألها إيرن بينما كان يعد الشاي الدافئ.
“نعم، أشعر بالقلق تجاهه.”
سميث بدا وكأنه ما يزال حيًا.
فمثل ذلك الرجل الشرير لا يموت بسهولة.
لكن هنري… أمره مختلف.
راودها شعور بأنها السبب. كان يجب أن تدخر المال وتثبت كاميرات مراقبة حقيقية.
كان عليها إبلاغ الشرطة فورًا.
الندم كان ينهش صدرها.
“سوف ينجو.”
ربّت إيرن بلطف على كتفها النحيل، الذي بدا هشًا وكأنه قد يتحطم بين يديه.
شعر بثقل في صدره، لعجزه عن مساعدتها.
لم يشعر بهذا العجز حتى حين كان يُتهم بالخيانة من قِبل فرسان الفوج الثالث.
“لقد خاض الحروب.
ونجا من ساحة معارك لا تختلف عن الجحيم.”
أراد أن يمنحها بعض الطمأنينة، وإن كانت بلا فائدة ملموسة.
“ألم ينقذه إيرن؟”
“…هذا صحيح تقريبًا.”
ازدادت ظلمة الغيوم التي كانت تخيّم على رأس جوديث.
“وهناك سميث أيضًا.”
هو لا يعلم إن كان حيًا أو ميتًا، لكن…
“السيد سميث؟ هل تعتقد أنه سيساعد السير هنري؟”
“…ربما.”
هو أول من قال إنه يريد أن يعيش.
إنه من واسى جوديث.
لكن ما هذا بحق السماء؟! زمّ إيرن شفتيه على نفسه ثم لمعت فكرة في رأسه.
نظر إلى ملابسه.
كان لا يزال يرتدي قميصه، لم يبدل إلى ملابس النوم، لكنه رآها فرصة ليمنحها بعض العزاء.
“هل ترغبين بإدخال يدك تحت قميصي؟ أظن أنك تحبين ذلك.”
“هل تظنني منحرفة يا إيرن؟”
رمقت جوديث إيرن بنظرة عتاب، لكنها لم ترفض.
وفي اللحظة التي بدأت فيها يداها تتسللان إلى داخل قميصه، كان شادين ينفث دخانًا أبيض أمام بابٍ ما.
“حان وقت الطعام، يا صغيري.”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ163
مع تزايد كثافة الدخان الأبيض المتصاعد من الموقد حتى ملأ الممر، فتح شادين الباب بحذر.
ومع تدفق الدخان إلى الغرفة الخالية تمامًا من الضوء، تحرك شيء ما في الداخل.
“أوغ، أوغ، أوغ…”
رائحة عفنة كأن كل قذارة الدنيا قد تجمّعت واختلطت بالدخان، وراح الشخص الممدد عند قدمي شادين يئن بخوف.
“لن يؤلم كثيرًا.”
غمز شادين ودحرج الرجل إلى داخل الغرفة.
كانت عينا الرجل تدوران في كل اتجاه، وهو مأخوذ برعب لا يعرف مصدره.
ومع انقشاع الضباب الأبيض ببطء وتكيف عينيه مع العتمة، لمح شيئًا عالقًا في زاوية السقف.
كان يملك جناحين أبيضين، جسدًا ممتلئًا، ساقين نحيلتين، وعيونًا كبيرة بارزة تتوهج باللون الأحمر حتى وسط الظلام.
“أوغ، أوغ، أوغ…”
أراد الرجل أن يفرّ، أن يركض بعيدًا بأي طريقة، لكن جسده المشلول لم يستجب لرغبته.
وفجأة، رفرفت الأجنحة البيضاء واختفى الكائن في الظلام.
“هاه؟”
“أين ذهب؟ فوق رأسك مباشرة، هناك.”
كان شادين، الذي بدا منشغلًا قرب الباب، قد فهم سؤال الرجل وأجابه بلا تردد.
ورغم أنه لم يرَ شيئًا، إلا أنه في اللحظة التي التقت فيها عيناه بأعين ذلك الكائن التي كانت قد استدارت نحوه دون أن يشعر، اخترق فمه الشبيه بالقشة قمة رأس الرجل.
“نعم، شكرًا على مجهودك.”
أغلق شادين الباب بسرعة، دون أن يترك فرصة لأي صرخة.
لم يكن يكذب عندما قال إن الأمر لن يؤلم.
فالذباب الطليق يحقن سمه المُشل أولًا، ثم يمتص الدماغ ببطء.
ولأنهم يكونون قد فارقوا الحياة حينها، فإن الألم لا يصلهم أصلًا.
هزّ شادين الزجاجة التي ملأها بالسم الذي استخلصه من غرفة ولادة الذباب.
السائل الأسود الكثيف بدا لزجًا وهو يتماوج داخل القارورة.
“حتى ذبابة صغيرة يمكن أن تكون مفيدة.”
وضع الزجاجة جانبًا، وأغلق باب الغرفة التي احتوت على الذباب، وتأكد ثلاث مرات من أنه أحكم إغلاقها.
لقد حول شادين إحدى الغرف إلى ما يشبه وعاء عزلةٍ ضخم.
بعد أن ترك أكان وراءه الذباب المتناثر وبقايا جسده، كان هذا كل ما تبقى.
وكان على شادين أن ينجو… بأي وسيلة.
فحجب الضوء عن الغرفة، وكسر الوعاء الذي احتوى الذباب، وبدأ بإطعامهم على أجساد الأحياء.
الذباب، الذي لم يسبق له أن تغذى على البشر وكان في الأصل غير مؤذٍ، تحول شيئًا فشيئًا إلى مخلوقات أكثر شراسة، وازدادت سُميّته تدريجيًا مع امتصاصه لأدمغة البشر.
في البداية، كان السم المُشل يزول بملعقة دواء. أما الآن، فقد أصبح مركّزًا لدرجة أنه لا يُستخدم إلا بعد تخفيفه بالماء.
سمّ لا يقتل، بل يشلّ الجسد ويتركه متيبسًا إلى الأبد.
“قريبًا…”
تمتم شادين بصوت خافت وهو يفحص القفل للمرة الأخيرة.
كان يستعد لإطلاق الذباب المتناثر قريبًا.
ليتركه يحلق في أرجاء العاصمة، يعبث ويأكل كما يشاء، ويغرق المدينة في الفوضى.
سيكون أفضل حتى لو تمكّنوا من التزاوج مع أنواع أخرى والتكاثر…
وإن لم يكن متأكدًا من إمكانية ذلك نظريًا.
“أوغ…”
وفي طريقه إلى غرفة نومه، مر شادين بجوار الغرفة التي يُحتجز فيها هنري وسميث، وتوقف بسبب ألم في ساقه اليسرى، التي ما تزال مليئة بالبثور المتقيحة.
أسرع نحو القدر الذي فوق المدفأة.
أسقط قطرة من السم في الماء المغلي، وسرعان ما تحوّل السم إلى بخارٍ ملأ الغرفة.
“هاه…”
أخذ شادين نفسًا عميقًا.
ولحسن الحظ، كان سم الذبابة يعمل على الأعصاب، فخفف من الألم بعض الشيء.
ثم سقط على الأرض مستلقيًا، يتنفس بعمق.
بدأت أفكاره تتلاشى، وامتزجت حياته السابقة والحالية، بينما كان غضبه يفيض ثم يخبو مرارًا.
الجرح في ساقه اليسرى، الناتج عن لعنة، أخذ يزداد سوءًا يومًا بعد يوم، ولا سبيل لعلاجه.
وإن استمر الحال، فسيصعد الجرح على ساقه ويفترس جسده بالكامل.
“…أوغ، لا يمكنني أن أموت وحدي… أوغ… لا يمكنني أن أموت وحدي…”
عند حدود العقل والجنون، أطلق شادين تنهيدة ممتزجة بالحقد.
—
كان كليف قد استولى على ثمانية عقارات في العاصمة وحدها.
وقررت جوديث وإيرن زيارة كل واحدة منها.
“إنها مجرد قطعة أرض! لماذا اشتراها أصلاً؟”
سأل تان وهو يميل برأسه جانبًا قرب جوديث.
“العائلة المالكة كانت تخطط لإعادة تطوير هذا الحي.
أعتقد أنه اشتراها حينها.”
أجاب كاين على استفسار تان.
حين خرجوا أول مرة من القصر، كان برفقتهم فقط جوديث وإيرن.
لكن إيرن قرر فجأة أن يصطحب تان معه، بحجة أنه الأسرع بين أفراد عائلة العرّابة، وقد يكون مفيدًا في حالة الطوارئ.
وقد كان تان قد خرج ليودعهما، لكنه أُقحم في المهمة على الفور للبحث عن الكاهن.
أما كاين، فقد قرر مرافقتهم بمحض إرادته.
فرغم أن المكان من ممتلكات آل راينلاند، إلا أنه لا يمكن اقتحامه دون إذن قانوني إن كان مأهولًا.
لذا لجأت جوديث إلى كاين لتوفير خطابات التفتيش من الشرطة.
“مذكرة تفتيش؟ ولماذا أحتاجها؟ أنا المذكرة!”
ورغم نبرة الدعابة، فقد قرر كاين مرافقتهم بالفعل، فقد ضاق ذرعًا بالبقاء دون فعل شيء.
ولم تمانع جوديث في ذلك، إذ كان صوت الماركيز موسلي، المحبوب من قبل الإمبراطور -رغم أن البعض كان ينظر إليه بارتياب- أكثر وقعًا من صوتها هي والكونت راينلاند المغمورين.
“ولماذا توقفت خطة إعادة التطوير؟”
“من كان يدعم المشروع هم الإمبرياليون، وقد أُطيح بهم بعد فشل التمرد.
من الطبيعي أن يتوقف المشروع حينها.”
واتضح أن اصطحاب كاين كان قرارًا صائبًا، إذ كان يعرف عن العاصمة ومشاريعها العقارية أكثر بكثير من جوديث وإيرن وتان مجتمعين.
وبفضل ذلك، اكتشفت جوديث أمرين لم تكن تعرفهما.
أولاً، أن العلاقات الاقتصادية بين كليف وأتباع الجماعة كانت أعمق مما تصورت.
فمعظم الممتلكات التي اختلسها كانت مبنية على معلومات مسربة من أولئك الأتباع.
وثانيًا، أن قلة من تلك الممتلكات قد ارتفعت قيمتها فعليًا، أما الباقي فقد أصبحت معلوماتها مجرد أوراق لا قيمة لها.
“على الأقل هذه الأرض ضمن حدود العاصمة، أما المنجم، آه يا ليته لم يكن!”
تنهدت جوديث في سرها.
خطتها لبيع منجم الزمرد لسداد ديونها كانت محكومة بالفشل منذ البداية.
لأن سميث اختفى؟ لا… بل لأن منجم الزمرد لم يكن موجودًا أصلًا.
قال كاين إن الجماعة نشرت شائعة كاذبة عن وجود منجم هناك لرفع التمويل.
كليف انهار، ثم سقط سيدريك، وبعدها سيذهبون للبحث عن المرابي…
واستشاطت جوديث غضبًا من مجرد التفكير بذلك، فقررت أن تُبعد عقلها عن تلك الأفكار. الأولوية الآن هي إيجاد هنري وسميث.
“لننتقل إلى الموقع التالي بسرعة.
إن استمررنا هكذا، ستغرب الشمس.”
كانت الشمس في كبد السماء قد بدأت تميل نحو المغيب.
وعلى الرغم من تنقلهم الدؤوب، فقد مضى الكثير من الوقت.
حتى التنقل على ظهر الخيل في العاصمة المزدحمة لم يكن سريعًا بما يكفي.
وكان العنوان التالي يقع قرب مكتب سميث، في شارع يقع على الحدود بين المشرّع والممنوع.
هناك، كان مبنى مكوّن من ثلاثة طوابق مستأجرًا من قِبل تاجر مجهول، وسط ورش، وأسواق، وسوق سوداء.
“لم يسرقوا الإيجار فقط، بل رحلوا أيضًا.”
نظرت جوديث نحو المبنى القديم الذي لم تلمسه يد بشر، وبدت عيناها أكثر حدة.
“مقبض الباب.”
“إنه نظيف.”
“يعني أن أحدهم ما زال يدخل ويخرج.”
“لدي شعور سيء للغاية بشأن هذا المكان.”
حتى غولد أطلق صرخة قصيرة معبرًا عن شعوره السيء.
كان إيرن أول من اقترب من الباب وأصغى السمع. أمال رأسه قليلاً.
بدا له أنه يسمع أصواتًا، لكنه لم يكن متأكدًا إن كانت أصواتًا فعلًا أم مجرد وهم.
كانت عيناه الخضراوان القاتمتان حذرتين.
حاسته الحيوانية تخبره أن هناك شيئًا بداخله.
“سيدتي.”
ناول كاين شارة الشرطة إلى جوديث وقال:
“المكان خطير.
دعينا نحن نبقى هنا.
هل يمكنك استدعاء قوات الحراسة بدلًا من ذلك؟”
“لا، سأبقى أنا أيضًا.”
هزّت جوديث رأسها.
إن كان الكاهن هنا، فهي تريد رؤيته، حتى وإن كان الأمر محفوفًا بالخطر.
“تان، اذهب أنت.”
وضعت شارة كاين في يد تان.
“أنا؟ وحدي؟”
“أعتقد أنك قادر على ذلك، أليس كذلك؟”
دفعت جوديث ظهر تان، وفي هذه الأثناء، أشار إيرن إلى جوديث وكاين ليدورا المبنى ويبحثا عن مدخل آخر.
اتجه كاين يسارًا، بينما سارت جوديث برفقة إيرن يمينًا.
كانت النوافذ كلها مغطاة بألواح خشبية.
“…؟”
لكن واحدة منها لم تكن كذلك، بل كانت مطلية بالسواد فقط.
توقفت جوديث، التي كانت تمشي خلف إيرن، أمام تلك النافذة ونظرت إلى الداخل.
شيء ما يتحرك. يخدش الطلاء الأسود ويزيحه.
ثم تعود النافذة، التي أصبحت شفافة بمقدار عرض إصبع، لتغرق في السواد مجددًا.
اقتربت جوديث وكأن قوة خفية تجذبها، ثم سقطت على مؤخرتها وأطلقت صرخة صامتة.
“…ما هذ…
أعين!”
ومن خلف الزجاج، كانت تحدق بها تلك الحدقتان السوداوان المتسعتان دون أدنى رحمة.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ164
بينما كان كاين يلفّ إلى الجهة اليسرى من المبنى، اندفع نحو البوابة الرئيسية بعدما سمع صوتًا مرتفعًا صادرًا منها.
“ما الذي تفعله، إيرن؟”
كان إيرن هناك، يطرق بمقبض سيفه على مقبض الباب محاولًا كسره.
وخلفه، كانت جوديث تمسك بحجر بحجم قبضة اليد، مستعدة للتدخل في أي لحظة.
“السيد سميث محبوس بالداخل.”
أجابت جوديث بدلًا من إيرن الذي انشغل بمحاولة فتح الباب.
الشخص العالق داخل الغرفة ذات الطلاء الأسود الكئيب لم يكن سوى سميث.
حينما لمح سميث جوديث، بدأ يخدش الزجاج بأطراف أصابعه حتى تهالكت محاولًا إزالة السواد الذي يحجب الرؤية.
ما إن تعرّف إيرن على وجه سميث، حتى همّ بكسر النافذة لإنقاذه، لكن سميث هزّ رأسه رافضًا.
رغم الرعب الذي دبّ في قلبه، إلا أنه أشار بإيماءة صامتة تحذر من كسر النافذة.
“يبدو أن الوضع خطير.”
لم ترَ جوديث سميث خائفًا بهذا الشكل من قبل.
ما الذي قد يرعبه إلى هذه الدرجة؟ ولماذا لا ينبغي كسر النافذة؟
“الباب فُتح.”
تمكّن إيرن من فتح باب المبنى الأمامي.
رنّ صوت الجرس بتأخير داخل المبنى، فأحكم كاين قبضته على سيفه.
“أعتقد أنها تلك الغرفة.”
أشارت جوديث إلى باب يقع في منتصف الرواق.
“هناك دماء على الأرض.”
تلفّت كاين حوله قليلاً، ثم أمال رأسه كمن اكتشف شيئًا مريبًا.
“إيرن، أليس ذلك الباب يبدو مفتوحًا؟”
“يبدو كذلك.”
“إذا كان الباب مفتوحًا، فلماذا لم يخرج السيد سميث؟”
سؤال صدم الجميع.
تقدم إيرن إلى المقدمة، وتبعته جوديث على الفور.
“السيد سميث.”
نادوا عليه بهدوء وهم يقتربون من الباب، لكن لم يأتِ أي رد.
ما الذي حدث خلال فترة فتحهم للباب ودخولهم المبنى؟
أدخل إيرن طرف غمد سيفه في فتحة الباب، فانفتح ببطء، وتدفقت منه رائحة عفنة كأنها تراكمات عقود من القذارة.
وما تلا الرائحة كان مشهدًا يشبه الجحيم:
سائل أسود كثيف يكسو الأرض والجدران، وأجساد ذات وجوه غائرة مكدسة فوق بعضها.
تحت شعاع ضوء وحيد يتسلل من النافذة، كان سميث منكمشًا على نفسه.
“السيد سميث!”
حين نادته جوديث، أشار سميث بحركة متشنجة شكّلت علامة “X”، ثم رفع نظره ببطء نحو السقف.
تبعته أنظار جوديث وإيرن وكاين نحو الأعلى.
“ذبابة؟”
ذبابة بحجم ذراع رجل بالغ تحدق فيهم بعينين حمراوين.
وفي اللحظة التي تحرك فيها خرطومها الشبيه بالقش، دفع إيرن جوديث خارج الغرفة.
كان يدرك فطريًا أنها من نفس فصيلة العنكبوت التي شاهدها سابقًا حين داهم مخبأ الكاهن وسط الضباب.
“احذروا، دمها قد يكون سامًا.”
فلو قطعها بسيفه وتناثر الدم على جوديث أو كاين، لكانت النتيجة كارثية.
تنهّد بحنق.
لكنها لا تملك أجنحة، وهذا ما يجعل التعامل معها أصعب.
“…؟”
في هذه الأثناء، توقفت جوديث خارج الغرفة بينما كانت تستل خنجرها.
“هل تركنا باب المبنى مفتوحًا؟”
رغم أن مقبض الباب كان مكسورًا، إلا أنه بدا وكأنهم أغلقوه بعد دخولهم.
وبينما كانت تومئ برأسها حيرة، انغلق أحد الأبواب في الجانب الآخر من الممر تلقائيًا.
“كأنه يناديني.”
لم يكن وهمًا.
قد يكون فخًا.
وبينما كانت غارقة في التشتت، اندفعت ذبابة مشوهة خارجة من الغرفة باتجاهها.
اندفع غمد سيف إيرن في اللحظة المناسبة وضرب الذبابة.
لكنها تفادت الضربة وارتفعت للأعلى، غير أن إيرن كان أسرع قليلًا.
هبط ساقان نحيفان نسبيًا أمام كاين.
اصطكت أسنان كاين اشمئزازًا من رؤية مخالب الحشرة الحادة، وساقيها السميكتين المغطّاتين بشعر أسود.
“علينا أن نختبئ قبل أن تهاجم مجددًا.”
أشار إيرن إلى سميث كي يخرج بسرعة، لكنه خرج متمايلًا.
“لماذا أنت بطيء هكذا؟ هل كنت تنوي أن تصبح طعامًا للذباب؟”
“السم… بسبب السم!”
لهث سميث وهو يجر جسده بصعوبة للخروج من الغرفة.
“هل تعرضت للتسمم؟”
“كل شيء في هذا الطابق مسموم.
إن لامس جلدك، ستشل أعصابك ولن تستطيع الحركة.”
“يفعل كل هذه الأمور؟”
تمتم إيرن ساخطًا، ثم ساند سميث بذراعه وساعده على السير نحو الغرفة التالية.
“رجل محطم تمامًا.”
جلس سميث المستنزف على الأرض.
“ماذا حدث سيد سميث؟”
“حاول أن يُقدّمني طعامًا للذباب.”
كان شادين دائمًا ما يصف “الوجبة الأخيرة”، أي الوجبة التي يُقدمها لسجينه قبل أن يُطلق الذباب على العالم.
قال إنه إن أطعم سميث مبكرًا، فلن تتمكن جوديث من التعرف عليه لاحقًا، لذا يجب تأجيل الأمر.
لكنه لم يحسب مقاومة سميث.
“انتظر لحظة، ماذا تعني بـ
(يُطلق الذباب على العالم)؟”
سأل كاين، الضابط المسؤول عن أمن العاصمة، بدهشة.
“هل سيتركهم ينطلقون بهذه البساطة؟”
“قال إنه لا يريد أن يكون الوحيد الذي يموت.”
اعتاد شادين أن يبوح بخططه لسميث، ربما لأنه كان يعتقد أن موته حتمي.
“قال إن الأمر بسيط.
فقط افتح الباب الأمامي والمدخل الرئيسي، وسينطلقون وحدهم.”
الباب الأمامي والبوابة الرئيسية؟
شعرت جوديث بغصة في الحلق.
“الباب الأمامي كان مفتوحًا سابقًا…”
ساد صمت ثقيل.
“يا للهول!”
كان أول من نهض هو كاين، المكلف بأمن العاصمة.
—
“أتى الوقت مبكرًا قليلًا، لا بأس بذلك، السير هنري.”
“أوغ، أوغ، أوغ!”
“أنا مستعد.”
مسح شادين على “قِسمه المحفوظ”.
كان الحبل الذي يُحكم ختم المجمع على وشك أن ينقطع.
“الكاهن موجود هنا.”
وأشار إلى نفسه.
“والقربان هنا.”
وأشار إلى هنري.
“وسيهبط جسده المادي، الذي سيكون ملاكه الحارس، عمّا قريب.”
تألقت عيون صفراء ناصعة تحدق من أعلى درجات السلم المؤدية إلى القبو.
—
“كنا معًا حتى تم رميّنا في غرفة الذباب.”
هنري حي.
كنت متأكدة من مكانه.
إنه خلف الباب الذي أُغلق وحده قبل قليل.
كنت واثقة.
“الأمنية.”
“ماذا؟”
“ألم تنسِ أنكِ وعدتيني بتحقيق أمنية؟”
في يومٍ ما، وأنا أعاني من كابوس رطب تسببت به ماركيزة فيرني، قلت له إن سمح لي بالإمساك بيده والنوم بجانبه، فسأحقق له أمنية.
وكان هذا هو ما يطالب به إيرن الآن.
“في هذا الوضع بالذات؟”
“نعم.
أغلقي باب المبنى، واذهبي إلى الخارج وانتظريني.
هذه أمنيتي.”
“وماذا عن السير هنري؟”
“سأنقذه وأُخرجه بنفسي.”
أمنيته الوحيدة…
أن أكون بخير.
“…إيرن.”
أدرت وجهي هربًا من عينيه.
كنت أعلم أنه يحاول إبعادي، مستخدمًا حتى أمنيته.
لكنه يريد مني أن أرحل مجددًا؟
أن أترك له الأمر وأتراجع؟
لا يمكن ذلك.
سأكذب إن قلت إنني لا أرغب في الاستسلام والانصياع له.
لكن هذا شيء يجب أن أنهيه بنفسي.
شادين يفعل كل هذا بسببي.
وهنري اختُطف بسببي.
وإن هربت الآن، قد أندم طوال حياتي.
أردت أن أقطع هذه السلسلة السوداء التي طاردتني طوال حياتي، بيدي.
“ربما لهذا التقينا مجددًا هنا.”
ولهذا، لا يمكنني أن أهرب الآن.
“آسفة، إيرن.”
نظر إلي وكأنه يعلم ما سأقول.
“إذًا… يمكنني أن أطلب أمنية أخرى.”
قالها دون أن يُظهر ندمًا، ومرّر يده برفق على شعري المتناثر.
لكنه لم يكن سعيدًا كما أراد.
“هل كنت تجهّز أمنية مسبقًا؟”
“تبدو جشِعًا على غير عادتك.”
كان هناك الكثير من المتسللين.
حاول إيرن أن يتجاهلهم.
“لا تذهبي للقائه وحدك.”
“هل هذه أمنيتك الأخرى؟”
“يمكنك اعتبارها كذلك.”
عضضت شفتي.
المشاعر الغامضة التي تنقلها القلوب دون كلمات ارتفعت كفقاعات الصابون.
“أليس في هذا بعض الرومانسية؟”
“ربما.
وإن لم يكن مناسبًا تمامًا في لحظة تنهار فيها العاصمة بسبب ذبابة مشوّهة.”
ظهر تعبير ساخط على وجهي عندما سمعت العبارة التالية.
“إن كنت تغار، فتزوج أنت أيضًا.”
حدّق كاين وسميث بدهشة بينما استدار إليهما إيرن وحدّق فيهما بغضب.
“تتهجم علينا فجأة؟ نحن في صفك!”
“هذا غير معقول.”
وفي خضم هذا الجدال، سُمع صوت من الخارج.
“قائد، هل أنت هنا؟”
“نحن هنا، أيها القائد!”
أخي لوهمان؟
وفي اللحظة نفسها، التقت عيناي بعيني سميث.
“أوغ!”
دوّى صراخ الأخ لوهمان فجأة.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ165
“الأخ لوهمان؟ كيف علموا بهذا المكان؟ لا، هذه ليست المشكلة، فقط أوقفوا ضجيجهم فوراً!”
هكذا صاح سميث بحزم.
وفي تلك اللحظة، انطلق صراخ يشبه صوت خنزير يُذبح من الخارج.
قال كاين، متعجبًا كأنه لا يصدق:
“من الذي لا يصرخ عند رؤية ذبابة مشوهة كهذه؟”
رد عليه سميث: “لا، ليس هذا ما أعنيه.
إنما أقول إنها تتفاعل مع الصوت!”
صاحت جوديث بغضب ورفعت صوتها: “ماذا؟ لماذا تخبرني بهذا الآن، يا سيد سميث؟ كان يجب أن تخبرني حين فتحنا الباب!”
“لا أحد كان ليسمع آنذاك! وماذا كنت سأقول لو صرخت؟ ستأتي الذبابات وتأكلني!”
“آه، على أي حال، كنت سأفعل ذلك.
لو صرخ أحدنا، لكانت كارثة.”
قال ماركيز ساخرًا: “هل كانت الذبابات لتتجه نحوه، وأنا أعيش يا ماركيز؟”
ردت جوديث بسخرية: “سيد سميث، أنت رجل سيء للغاية، أليس كذلك؟”
ضحك سميث وقال: “لو كنت سيئًا حقًا، لما استطعت استرداد أموالي التي أقرضتها.”
قال ماركيز متعجبًا: “يا إلهي، أنت حقًا مصدر فخر، يا ولدي.”
ارتسمت تجعدة بين حاجبي إيرن متسائلًا: “يُقال إن الذباب المشوه يستجيب للأصوات، فلماذا يصرخون عندما يسمعونها؟ هل يريدون جميعًا أن يكونوا طعامًا للذباب؟”
“اهدأوا.”
بعد تحذير متوتر من إيرن، أخيرًا صمت الثلاثة.
لكن في الخارج،
ما زالت أصوات صراخ ولعنات الأخ لوهمان تُسمع.
بدا أنهم هربوا دون أن يُمسك بهم بعد.
قال كاين بقلق: “إيرن، علينا أن نتأكد من ألا تغادر تلك الذبابة القصر.”
كان قلقه حقيقيًا.
ففي اللحظة التي تخرج فيها تلك الكائنات، سينهار النظام في العاصمة إلى فوضى لا يمكن السيطرة عليها.
هذا البيت مغلق من كل الجهات ومغطى بسقف، لكن الخارج ليس كذلك.
“إذا طارت عالياً في السماء، كيف سنتمكن من الإمساك بها؟ لا أحد يعرف إلى أين ستطير الذبابة، خاصة إذا تكاثرت…”
أغلق كاين عينيه بإحكام وهو يتخيل ذلك السيناريو المرعب.
قال بحزم: “يجب أن يُغلق الباب الأمامي، الآن، فورًا.”
ردت جوديث وهي تلعق شفتيها: “لكن، ماركيز، أنت من استدعيت الشرطة.”
“إذا جاءت الشرطة، ألا ستفتح الباب لهم أولاً…؟”
تنهد كاين وهو يلمس جبينه: “يا إلهي، لماذا تقلقون كثيرًا، وهناك حل بسيط؟”
نقر سميث لسانه إلى جانبه وقال: “ألا يمكننا فقط اصطياد الذباب هنا؟ دعونا ندفعهم إلى الطابق الثاني ونقتلهم.
الأخ لوهمان، هم الآن فقط مصدومون، لكن عندما يستفيقون، ذبابة أو اثنتان لن تكون مشكلة.”
رفع سميث كتفيه مسترخيًا، معبرًا عن أنه قد تخلص تقريبًا من تأثير شلل الأعصاب.
سأل كاين بفضول: “هل ستخرج أنت أيضًا للقتال؟”
أجاب سميث بفضول أكبر: “إنها تحالف أحزاب.
إذا تركنا هذا الشيء يتجول في العاصمة، ألا ستكون مشكلة كبيرة؟”
قالت جوديث، وهي تبرد حماسة كاين: “يا سيدي، هذه ليست المشكلة.
المشكلة فقط أنه عندما تصبح العاصمة مضطربة، يصعب تحصيل المال.
وإذا أكلت تلك الذبابة الشخص الذي اقترض من السيد سميث، سيفقد السيد سميث أمواله.”
تنهد كاين، وأعطى سميث إشارة إعجاب بيده.
قال سميث: “كما هو متوقع، أنت شخص موهوب في مجال عملنا.”
ردت جوديث مبتسمة: “شكرًا على المجاملة.”
تساءل إيرن في سره: هل كانت تلك مجاملة فعلًا؟ ثم هز رأسه وقبض على مقبض الباب.
قال مهددًا: “الباب على وشك أن يُفتح، فإذا أردت أن تكون طعام ذبابة، استمر في الكلام.”
ثم خيم الصمت المفاجئ على الغرفة، كأن لا أحد يريد أن يتحول إلى وجبة للذباب.
فتح إيرن الباب قليلاً، فرأى الأخوين لوهمان يركضان في الرواق.
ناداهما بصوت منخفض: “مهلاً.”
لكن لم يسمعا الصوت، لأنهما كانا مطاردين من قبل مخلوق غريب.
قال سميث وهو يخطو خطوة إلى الأمام، وفتح الباب على وسعه دون تردد، وركض خارجًا وهو يصرخ: “سوف تضربكم ذبابة صغيرة! أمسكوها!”
قال أحدهم متذمرًا: “يا رئيس، كيف سنتمكن من الإمساك بها؟”
قال آخر: “كيف تمسك ذبابة؟ يجب أن تضربها!”
“ابتعدوا، أيها القبطان، الذباب قادم.”
“قلت لكم اضربوها، متى ستستخدمون ذراعيكم!”
رغم حجمها الكبير وعدوانيتها التي تفوق حجم ذبابة عادية، بدأ الأخوان لوهمان يستعيدان وعيهما قليلًا عندما أدركا أن الوحش هو ذبابة.
ركض سميث إلى الطابق الثاني، والذبابة تتبعه، يلاحقه الأخوان لوهمان الضخمان.
قال كاين ساخرًا وهو يخرج لسانه للحظة وهو يراقب الأخوين الذين فرّوا من ذبابة ويذهبون لإنقاذ القبطان: “…يا له من شعور بالواجب.”
قال لكاين: “إيرن، اذهب وأنقذ السيد هنري.”
أمسك كاين سيفه بقوة وقال: “من شكل هؤلاء الرجال الكبار، يبدو أننا نستطيع شراء بعض الوقت حتى تصل الشرطة.”
قال إيرن وهو يوافق دون تردد: “كن حذرًا عند تقطيع الجسد، قد يكون هناك سم في سوائل الجسد.”
“ابقَ خلفي مباشرة… أنت بالفعل بعيد.”
لاحظ إيرن جوديث تبحث في كل زاوية عن شيء مفيد، ولم يعد يتنهد.
سألها: “ماذا تبحثين عنه؟”
قالت: “أعتقد أنني بحاجة إلى شمعة على الأقل للانزلاق إلى القبو.”
—
قال كاهن بصوت خافت: “هناك قول قديم يقول هكذا.”
ما الذي حدث لسميث؟ هل أصبح فريسة لتلك الذبابة المشوهة في الغرفة المجاورة؟
بدأت الحواس التي كانت مخدرة بتأثير سم الشلل تعود تدريجيًا واحدة تلو الأخرى، وزاد خوف هنري أيضًا.
واصل الكاهن تحركه وحديثه مع هنري، رغم أن الأخير، الذي كان مخدرًا ومكممًا، لم يكن قادرًا على الرد بشكل مناسب.
قال الكاهن: “عليك أن تكوّن صداقات جيدة.”
“لقد كونت أصدقاء سيئين، ولهذا تم التضحية بي هنا.”
“تضحية؟ هل أنا تضحية؟”
تأوه هنري، وقد قُيدت ذراعاه وساقاه، في حيرة. لكن الروابط لم تنكسر، مما جذب انتباه الكاهن أكثر.
قال الكاهن: “أعتقد أن الأمر غير عادل.
لكن السيد هنري ليس بريئًا تمامًا.
رأيتك تزعج كل النساء في المتجر.
حتى أنك ضحكت على النساء المتزوجات.”
أجاب هنري في نفسه: “لا، لأنهن ضيفاتي! كيف لا أبتسم للضيوف؟” شعر بظلم شديد.
كان فعلاً لطيفًا مع النساء، لكنه لم يغازلهن بجدية. وإن تأثرت قلوبهن بابتسامته الرائعة، فهذا ليس بيده.
فكر ساخرًا: “هل تم اعتقالي هنا لأني وسيم؟”
لو كان حرًا، لكان قال هذا بصوت عالٍ، لكنه كان مكبلاً ومكممًا.
ولحسن الحظ، كان كذلك.
لأنه لو نطق به، لكان الكاهن قد استخدم وجهه كضحية.
أشار شادين إلى مجمع أسود مشؤوم المظهر، لا يعرفه هنري.
قال شادين: “هذه إرادته.
هل تراها؟ نظرًا لأن بصره ليس مشلولًا، يجب أن يراها جيدًا.”
وأضاف: “ذات مرة، عندما كان أول إمبراطور الإمبراطورية لا يزال ملكًا، عرض صفقة على زعيم قبيلة شارتين التي تعيش في الصحراء.
إذا ساعده في غزو الممالك الأخرى، سيجعله كاهنه وابنته ملكته.”
لكن الملك الذي وحد الممالك وأصبح إمبراطورًا لم يوف بوعده.
خان الشارتين وأباد زعمائهم.
“لكن الابنة نجت.
وقيل إنها وسيطة تمتلك قوى روحية أكثر من والدها، بل وأكثر من أسلافها.
ماذا كان سيفعل السيد هنري لو كان هو تلك الابنة؟ ألما تريدين استخدام قواك للانتقام؟”
كانت تخصص الابنة هو فن العزلة.
لا عزلة لا تستطيع خلقها، ولا سم لا تستطيع استخدامه.
لكن لسبب ما، قررت الابنة الانتظار إلى موعد لاحق بدلًا من قتل الإمبراطور مباشرة بقواها.
“في ذلك الوقت، كان هناك انقسام بين شارتيين، فلو كنت مكانها، لكنت قتلت الإمبراطور، بدلًا من مجرد الدخول هكذا.”
دخلت الابنة الغرفة التي تحوي 99 حيوانًا سامًا وأغلقت الغطاء بيدها.
قاتلت الكائنات التي حاولت أكلها داخل الغرفة، ومزقتها وابتلعتها، وهكذا أصبحت شيئًا غير إنساني.
“هذا ما يسمى الكرمة، سحر ممنوع.
لكنها فعلت ذلك بنفسها.
وتركت وصية تقول إنها ستنتقم من العائلة الملكية عندما يحين الوقت.”
في البداية، كانت الجرّة كبيرة بما يكفي لشخص واحد.
لكن مع ازدياد قوة السم داخلها، بدأت تظهر شقوق في الجرّة.
في النهاية، نُقلت عبر عدة أجيال إلى جرة أصغر بسماكة جدران أكبر.
“يقال إنه كلما نُقلت محتويات تلك الجرّة، يموت الكاهن والشيخان الذين ساعدوها.
بعضهم يقول إن السم كان قويًا جدًا لدرجة أنهم ماتوا أثناء النقل، والبعض الآخر يقول إنهم أُكلوا من قبل روح الابنة التي فقدت عقلها وأصبحت تجسيدًا للغيظ.”
تنهد الكاهن مرتعشًا بلا سبب: “دائمًا ما كنت أجد ذلك مزعجًا.”
لذا كان يحتفظ بها بعيدًا.
ثم جاءت فكرة عبقرية باستخدامها.
قال الكاهن: “كنت في الأصل أنوي وضع ذلك في الأمير.
كنت سأجعله الأمير وأحكم الإمبراطورية.
لكن أعتقد أنه من الأفضل وضعه في جوديث هارينغتون.”
احتج هنري بصوت مكتوم: “لماذا الآنسة هارينغتون؟ آه، إنها عقوبة.
لقد قطعت كلامي دون أن تعرف شيئًا.
إنها لا تعرف كم يحتاج العالم لما أفعله.”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ166
أسقط شادين قطرة من سم الذباب في الماء المغلي.
لم تكن قطرة واحدة كافية لتهدئة الألم المتصاعد في ساقيه، لكن لو أضاف المزيد، قد يغمر جوديث حالة من التشوش الذهني.
تفكّر شادين في كيفية جلب جوديث إلى هنا.
في البداية، كان ينوي اختطاف هنري ثم استخدامه كذريعة لجذبها.
لكن كيف عرفتها جوديث وكيف وصلت بسرعة إلى هنا، مع وجود هذا العدد القليل من الأشخاص؟
“عند هذه النقطة، أشعر وكأن السماء تساعدني.”
تمتم هنري لنفسه مستلقياً، فالهباء المتصاعد من القدر كان يدوّخ رأسه لسبب ما، فقبض على أسنانه بقوة.
“سنتخلى عن السير هنري لنفتح إرادته ونزرعها داخل جوديث.
سنجعلها ممسوسة.”
ربما يتوجب على شادين التضحية بشيء ما في هذه العملية، ربما ساق سليمة أو عيناً.
كان يرفض ذلك ويتجنب تمرد الأتباع سابقًا، لكنه الآن لم يعد يهتم.
إذا استمر هكذا، ستتسلق الجروح ساقيه حتى تفتكه.
اللعنة التي أراد شادين إرسالها إلى جوديث في ذلك اليوم كانت لعنة تغلي فيها الدماء.
عندما تتفعل اللعنة بالكامل، يتحول الدم إلى حرارة حارقة تحترق من الداخل حتى الجلد.
هذه اللعنة، رغم عدم علاجها، لم تتوسع.
لكن عندما عادت اللعنة، حدث خلل ما فتزايدت جروح شادين.
لكن هذا ينطبق فقط على الجسد المادي.
وإذا مرض الجسد، أليس بالإمكان تغييره؟
ففي النهاية، هذا الجسد لم يكن أصلاً له.
“سأمارس السحر الأسود كما فعلت في عهد إيرن.”
الروح المستدعاة بالسحر تستجيب لأوامر الساحر.
كانت الابنة كاهنة قوية ما زال يُذكر اسمها في تاريخ قبيلة شارتين.
وبما أن القوة الروحية هي قوة الروح، فبقاء الروح يعني بقاء القوة.
إذا كان الأمر كذلك، يمكن للابنة نقل روحها إلى جسد آخر.
وإذا كان النقل يحصل فقط عند الموت، فالموت هو نهايته.
“الجسد الذي سأدخل فيه ستحضره جوديث.”
“أوغ، أوغ!”
“من هناك؟ من تكون يا جوديث؟ لا بد أن هناك شخصًا واحدًا فقط يستطيع القدوم إلى هنا.”
ضحك شادين، لكن هذا لم يكن ما قصده هنري، إذ كان يريد الإشارة إلى ما خلفه، إلى البرطمان الذي يحتوي إرادته.
—
بحثت في الغرفة عن شمعة، أشعلتها، ونزلت إلى القبو.
كان باب القبو مفتوحًا، والدرجات مظلمة كأنها تحيك مؤامرة لتجعلك تنزلق وتسقط.
“ببطء، خطوة خطوة، دون لمس أي شيء.”
غطيت أنفي وفمي بمنديل، ولم ألمس الجدران حتى في الظلام الدامس.
قال لي سميث إن سم الذباب المشوه يسبب شللاً عند ملامسته.
“لا يمكن أن يكونوا لم ينثروا السم هنا وهناك.”
نزلت الدرج ببطء.
الغرابة أن داخل القبو كان أكثر إشراقًا من الدرج.
كانت الشموع متناثرة، والأرض والجدران مرسوم عليها نقوش هندسية، وفي وسطها كان هنري مربوط اليدين والرجلين.
“أوغ، أوغ، أوغ.”
تحرك هنري الذي اكتشف وجودي بصعوبة، وببطء غير معتاد، مما يدل أن السم لم يزل أثره.
“السير هنري!”
ركضت نحوه.
“سأحررك قريبًا، تحمّل فقط.”
“أوغ، أوغ!”
تنفس هنري بصعوبة بينما فككت الرباط عن فمه أولًا.
“الكاهن، سيدتي، انظري، انظري، انظري.”
قال هنري متلعثماً وهو يشير بيده إلى أعماق القبو.
في مكان لا يضيئه سوى ظل شمعة خافت، ظهر ظل شخص جالس متربعًا.
شخص يهمس باستمرار بكلمات غير مفهومة بسبب خفتها.
رأيته لمحة واحدة، كيف لي أن أنسى هذا الوجه؟
حدّقت مباشرة في شادين.
في الظلام، التقت عيناه الصفراء المضيئة بعيني.
وبعد صمت ثقيل كالصخر، قال أول الكلمات:
“أنتِ.”
نعم، “أنتِ” تلك الكلمة، مليئة بالاستياء والازدراء.
“أنتِ؟”
ضحك شادين كما لو أن كلمتي القصيرة قد أدهشته.
“أنتِ؟ كم عمرك؟”
“ماذا لو كنتُ فقط في ربيعي؟
وأنا أكبر منك الآن.
أنت في الثامنة عشرة.”
“لا يجب أن نحكم بالسن هنا.
كم كنت في حياتك السابقة؟”
“ماذا ستفعل لو عرفت؟ لو كنت أكبر، ستكون تعاملني ككبير، أليس كذلك؟”
“قولي لي، وسأفعل ذلك.
ثم تظاهري بأنك أصغر مني.”
… عذرًا يا جماعة، هل هذا مهم الآن؟
تنهد هنري وهو لا يزال ملقى على الأرض.
“كيف يكون الشخص وقحًا هكذا؟ يقول ‘يا’ فجأة، حقًا مزعج.
أليس كذلك، السير هنري؟”
“القاتل يجلس هنا ويتحدث عن الآداب.
هل هذا مضحك، السير هنري؟”
هل تسمحون لي أن أستلقي هنا حتى تأتي إيرن؟
كان هنري يتمنى لو يستطيع أن يهز رأسه.
“هل تظنون أنني أقتل أي شخص؟
لهذا تتدخلين.
أنا من ينظف هذا العالم.”
“يا إلهي، لابد أنك أحمق.”
وبينما أنا أتهكم، جاءني ضحك آخر ساخر من الطرف الآخر.
“لقد قمت بعمل جيد، فكيف انتهى بك المطاف هنا؟”
“لماذا تقول هذا وأنت جئت الى هنا؟
هل تريد أن تلطخ يديك بدمي؟”
“نعم.”
كنت أود أن أخبر شادين هذا عندما التقيت به.
“هل تساءلت يومًا لماذا أطاردك وأصورك؟”
“لدي شعور.”
حين كان شادين مراهقًا، كان في طريقه للخروج من جريمة حين صادف دورية شرطة.
ارتكب خطأً ذلك اليوم وكان ملطخًا بالدم.
كانت المسافة إلى المنزل بعيدة، ونزل الشرطي من السيارة وسمع الراديو.
كملاذ أخير، توجه إلى مغسلة عملة ورمى كل ملابسه الدموية فيها.
“أين ظهر الدم؟ لابد أنك راجعتِ كاميرات المراقبة بعد رؤية بقع الدم.
إذًا تعرفتِ عليّ وطاردتيني بمجرد أن رأيتيني أمام منزل المؤلف؟
ستبلغين عني بعد جمع الصور والفيديوهات.”
“التقرير صحيح، لكن لا توجد كاميرات.”
“ماذا؟”
“كلها مزيفة إلا واحدة في مغسلتي، والتي زورتها لتوفير المال.
الكاميرا الوحيدة التي تعمل هي تلك على رأسي.”
هل تعلم؟ لقد نظفت بقع الدم باللوكس، وتظاهرت بأنني كنت أمسح.
“دمّرت الأدلة دون قصد.
حتى لو قدمت بلاغًا، شهادتي لن تنفع كثيرًا.”
كان من المحتمل ألا تصدق الشرطة أيضًا.
“ركبت كاميرات مزيفة لتوفير المال؟ أنت مجنونة.
لا توجد طريقة أخرى لتوفير المال في هذا الزمن.”
نقر شادين لسانه.
عبست، لم أكن أريد أن أسمع هذا الكلام من شادين فقط.
“لماذا هربت بعد أن ساعدتني في تدمير الأدلة؟ لو قلت لي الحقيقة، لما كنا هنا الآن.”
“لذلك عدت.”
جئت إلى هنا لأقبض عليك.
“هذه المرة سأرسلك للسجن بلا شك.”
“أوه، هل لديكِ ذرة إيمان؟ من سير إيرن؟”
سخر شادين.
“هل هناك من يدخل هنا غير سير إيرن؟ أو هل أنقذتِ السيد سميث؟”
رغم صعوبة رؤيته من مكاني، شعرت أن شادين يبتسم.
“يبدو أن سير إيرن يتعامل مع الذباب المتناثر لأنك نزلت وحدك.
صراحة، هذا غير متوقع وصعب.”
تنهد شادين.
“كنت أخطط لدخول جسد إيرن، لكن إذا لم أحذر، قد أضطر للعثور على جسد آخر.”
“ما هذا بحق الجحيم؟”
“لا، سأفتح هذا الآن.”
نقر شادين على البرطمان أمامه.
“لكن لفتحه نحتاج لكثير من التضحيات.”
حتى لو كتب إلى جوديث وطلب منها أن تأتي وحدها لإنقاذ هنري، كان واضحًا أنها لن تأتي وحدها.
لم يكن شادين غبيًا ليظن غير ذلك.
“الجميع سيكونون تضحيات.”
“ماذا؟”
“كل من في هذا المبنى تضحيات.”
خطط شادين لتضحية الجميع.
كان يجوب المبنى من وقت لآخر، يرسم تعاويذ بحيث يمكنه استخدام أي شخص كذبيحة أينما كان.
“الكاهن، سيدتي، آسف لمقاطعتكما بهذا الحديث الجدي، لكن رجاءً، انظرا إلى هذا.”
تحرك هنري، الذي كان صامتًا، وأشار إلى إرادته.
“هل ترون ذلك؟ ألم يتحرك؟”
تزامنت أعين شادين وجوديث، التي كانت متعلقة ببعضها، إلى إرادته.
فقط الغطاء، ذلك الشيء الجامد الذي لا يمكن أن يتحرك، كان يهتز من تلقاء نفسه.
كما لو كان يطلب مني أن أفتحه بسرعة.
“… هل كان هذا مخططًا؟”
“لا، لم يحدث ذلك قط.”
قال شادين بصراحة.
“أعتقد أنني حفظت الأمر جيدًا.
يبدو أنك متلهفة للخروج.
حسنًا، لا بأس.
كل ما تحتاجه هنا.”
مع تلاوة التعاويذ وسط ضحكات مكتومة، بدأت الظلمة التي كانت مكدسة في زاوية القبو تتحرك.
كأفعى ملفوفة تحاول الفرار، تأرجح ظل متجسد نحو جوديث وهنري، وخلف الدرج، تداخل صوت إغلاق الأبواب مع انفجار غريب.
بينما كان هنري وجوديث يمسكان أيديهما بقلق، ضغط الباب الساقط على الظلمة الممتدة.
كان ذلك إيرن.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ167
“إيرن، انتظر هنا.”
قبل أن تنزل جوديث إلى القبو، أمرت إيرن أن يقف على الدرج المؤدي إليه.
“هذا فخ.
من الغباء أن ندخل فخًا معًا.”
حاولت جوديث إقناعه بأن يتبعها، ثم فصلته عنها. كانت خطة لجعل شادين يخفف من حذره.
لكن إيرن رفض قائلاً إنه يعلم ما سيحدث في الداخل، مع ذلك لم يستطع مقاومة إصرار جوديث.
“أظنك لم تكوني تنوين الاستماع إلى طلبي بأن تتوقفي عن المخاطرة.”
“لا وجود للخطر إذا أمسكت بالكاهن.
سأعطيك إشارة، تعال بعدها.
آه، ولا تنسى الحذر عند السلالم.”
“…آنسة هارينغتون، رجاءً كوني حذرة.”
ومن يهتم الآن بمن؟
وقف إيرن على درج القبو متنهداً، مستعدًا لأي طارئ.
لم يستطع كبح نفسه، فهو يعرف قلب جوديث الذي يريد بيديه كسر تلك العلاقة السيئة من حياتها السابقة.
لو لم يكن يعلم الظروف، لكان أجبر جوديث على مغادرة المبنى، حتى لو قاومته.
“كم عمرك؟”
“وماذا لو كنت أكبر قليلًا؟ أنا هنا أكبر منك.”
ومع ذلك، فكر في نفسه أنه لو علم أن جوديث ستقاتل بهذه الطفولية، لما أرسلها بعيدًا.
بينما كان إيرن ينتظر إشارة من جوديث، بدأ الهواء الذي يلامس بشرته يتغير.
كان شعورًا مشؤومًا.
شعور لا يمكن وصفه إلا بالمخيف.
تسللت القشعريرة إلى جلده وامتدت البرودة على عموده الفقري.
حلّ الظلام.
لم تغب الشمس بعد، لكن الظلام الذي كان يختبئ في شقوق السقف وزواياه بدأ يتمدد ببطء.
“…؟”
في اللحظة التي غطى فيها الظلام المتصاعد من درج القبو كاحليه، ركض إيرن دون انتظار إشارة جوديث.
وفي طريقه، خلع باب القبو.
فعل ذلك ليضمن ألا يُغلق الباب خلفه عندما يهرب، وليستخدمه كوسيلة لرميه على الكاهظ.
“تفعلون كل أنواع الأمور.”
كانت هذه ملاحظة للكاهن ونقدًا ساخرًا للنفس في آنٍ معًا.
الآن عليه أن يقاتل ضد الظلام المتحرك.
“إيرن، هنا، أوغ.”
استقبل هنري إيرن قبل جوديث.
كان صوته، المفعم بالفرح وكأنه حيّ من جديد، سرعان ما تلاشى داخل كتلة الظلام التي تدفقت على الجدران والأرض كالماء.
“السيد هنري، ما خطبك؟ أين، أين تشعر بالألم؟”
“تنفس، تنفس، تنفس.”
أمسك هنري بصدره وهو غير قادر على التنفس بشكل صحيح.
“يجب ألا تفقد وعيك، سيد هنري.”
حتى بينما كانت جوديث تخلع قميص هنري وتهدئه، بدأ الظلام يتشكل ويتسلل نحوهم.
وقف إيرن عند الباب وألقى خنجرًا نحو شادين. رغم القرب النسبي، فقد الخنجر قوته وسقط قبل أن يصل إليه.
“السماء والأرض ستتقلبان، الأعلى سينخفض، والأسفل سيرتفع.
السهام التي أطلقت ستفقد قوتها وتسقط قبل إرادتها.”
همس شادين مبتسمًا بلا توقف.
عندما حاول جلب جوديث إلى هنا، كان يعلم أنه عليه التعامل مع إيرن أيضًا.
لكن هذا هو أرض صيده.
فخ نصب لاصطياد إيرن وجوديث.
بمجرد دخولهما هنا، يصبحان مجرد قرابين لفتح إرادته.
أشعل آخر طاقته الروحية، وربما الأخيرة، على الأرض والجدران حيث رسم تعويذة ممزوجة بالدم والسم.
“أوغ، هف.”
أنات هنري، الذي كان أول قربان، بدت كأنها موسيقى.
بمجرد تقديم حياته قربانًا، لن يستطيع أحد
– إيرن أو جوديث أو غيرهم – أن يزعجه…
“حار، حار.”
ما الذي يحدث؟ فتح شادين جفنيه المغلقة بشدة دون أن يدري.
“تحمّل، سيد هنري.
لم يتبقَ الكثير.”
“أليس كل الجلد قد تقشّر؟”
تفاجأ شادين بما بدأ يظهر في رؤيته التي كانت تتفتح ببطء.
خلعت جوديث قميص هنري، وتسلقته، وفركت صدره بكفّ يدها.
“ماذا تفعلين بهذا التجديف خلال هذا الطقس المقدس…؟”
لم يستطع شادين الاستمرار في الكلام.
ماذا تفعلون بحق الجحيم؟
“تجديف؟ نحن نتفق.”
قال إيرن، الذي وقف على عتبة الباب يراقب جوديث وهنري.
“زوجك صاحٍ تمامًا، وأنتِ تخونيه أمام عينيه.
يا للوقاحة.”
نقر إيرن بلسانه بتعبير ساخر.
بدأ شادين يزداد انزعاجًا.
“هل تعتقد أنني استدعيتكم هنا لتصوير مسلسلات درامية؟”
كيف تخلصت من صيغة القربان؟
ليس من السهل إزالتها.
بينما كان شادين يتساءل، هزت جوديث يدها وسقط مسحوق أبيض من كفها.
“كنت محظوظة لأنني استمعت إلى عرابتي.”
ملح.
كان مجرد ملح.
ملح مجفف تحت الشمس.
عندما قالت عرابتها إنها ستبحث عن مخبأ الكاهن، أعطتها هذا.
أحيانًا تكون حبة ملح تحتوي على طاقة جيدة أقوى من تميمة لطرد الشر.
بالطبع، كان إيرن وجوديث يرتديان التمائم التي أعدها تان لهم.
لكن هذه التمائم لم تنقذ هنري الذي كان يتحول إلى قربان، رغم أنها حمتهم.
رشت الملح وفركته، لكنه لم يكن كافيًا.
بالطبع، لم يحل كل المشاكل.
ظل الظلام، مثل كومة من الطين، يتحرك بلا توقف، يضغط على جوديث وهنري من كل جانب.
كان قريبًا جدًا بحيث لم يكن من الغريب لو اندفع وابتلعهما في أي لحظة.
“حسنًا، أعتقد أنني موهوب قليلًا، لكن هل تعتقدين أن هذا سينقذك،
آنسة يو-جين الغسالة؟”
ضحك شادين.
بينما كان يردد التعويذة مرة أخرى، انقطع الحبل الذي كان يقيّد إرادته.
في اللحظة نفسها، سقطت جوديث على الأرض. بدا كأن يدًا خرجت من الأرض وأمسكت بساقها.
“آخ.”
“سيدتي، هل أنت بخير؟”
“جوديث!”
“لا بأس، لا بأس.”
تعثرت جوديث عند وقوفها لكنها سقطت ثانية.
ضحك شادين بمرارة.
كان هناك سبب لترك هنري على الأرض في البداية.
بهذه الطريقة، لن تتمكن جوديث من الدخول إلى التعويذة.
“هذا هو الآن فضاؤك.”
نقر شادين على الجرة.
ارتجف غطاؤها بشكل مخيف.
تراجع شادين بهدوء عن أصابعه التي كانت تنقر الغطاء.
همس:
“هم يسببون المتاعب حتى قبل أن يُفتح الختم تمامًا.”
بما أنه خطط لحبس جوديث وإيرن في هذا القبو، رش سم الذباب في كل أرجائه.
لكن هذا الأمر الخطير، الذي بدا وكأنه سيملأ القبو في أي لحظة، لم يكن في حسبان شادين.
في ذاكرته، كان مسجلًا فقط أن المكان أصبح مظلمًا بعض الشيء، لكن بما أنه لم يفتح أحد إرادته فعليًا، فلا بد أنها كانت مجرد تخمينات.
“هل هذه هي سبب الانقسام؟”
حول إيرن نظره إلى إرادته.
“صحيح، قلت لي في السابق أنك ستحقن الروح بداخلي في جسدك.”
هز هنري جوديث، التي كانت ما تزال متمددة وتتأوه، رافعًا ذراعها التي لا تزال مشلولة.
“سيدتي، عودي إلى وعيك، عودي إلى وعيك.”
شحبت ملامح جوديث وغطتها عرق بارد.
رفع إيرن يده ومررها على رأسها بتوتر.
خطا إيرن نحو الظلام الطيني بلا تردد.
“إيرن، ماذا تفعل؟ لا ينبغي أن تنزل إلى هناك. هل تعرف ما هذا…!”
حاول تجاهل الألم اللاذع في جلده، لكن قدماه لم تتجه نحو جوديث.
إذا فُتحت تلك الجرة المشؤومة، ستنتقل الروح إلى جوديث.
فلماذا لا يبقيها مغلقة إذًا؟
غَطّى إيرن أنفه وفمه، لكن السم الكثيف بدأ يشعره بالخدر في قدميه تدريجيًا.
استمر في السير نحو شادين حتى تباطأت خطواته، وأصبح جسده ثقيلًا، واختفى الألم اللاذع.
رأى شادين إيرن يندفع نحوه بشكل أحمق وبدأ يتلو تعويذة على عجل.
“ذلك المجنون، مرة أخرى.”
تمتم هنري وهو يراقب إيرن هكذا.
في تلك الأثناء، أصبح يد إيرن، التي تحولت إلى اللون الأرجواني بفعل السم، مشلولة وهو يمسك بمقبض السيف.
وهذا كان محظوظًا.
فلن يضطر إلى ترك السيف أثناء طعنه لذلك اللعين.
‘هل هذه النهاية؟’
بدأت الأحاسيس الحادة التي لطالما كانت مثل السكين الحاد تتلاشى واحدة تلو الأخرى.
راوده شعور بأن السقوط في ذلك الظلام الشرير بهذه الطريقة يعني الموت.
‘لكن هذا ليس عديم الجدوى، أليس كذلك؟’
على الأقل يمكنه حماية ما يريد حمايته.
قبض على السيف بكل عضلات جسده.
السيف الذي لطالما أرجحه دون هدف طوال حياته، أخيرًا اكتسب معنى في اللحظة الأخيرة.
ليس سيئًا.
ارتسم على شفتي إيرن، اللتين لم تفقدا وعيهما بعد، ابتسامة.
تعويذة شادين، التي كانت تراقب إيرن الذي بات شبه مشلول، كانت تقترب من نهايتها.
“…لا.”
“ها؟ ماذا قلت، سيدتي؟”
رفعت جوديث، التي كانت تحدق في الأرض بنظرة فارغة، رأسها.
وعندما التقت نظراتها بعيني إيرن الخضراوين العميقتين اللتين كانت تنظران إليها دائمًا، ابتسمت جوديث.
توقف.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ168
توقف.
عضت جوديث على شفتيها برقة.
“هل تسمح لي بفتح هذا؟” نظر إيرن إلى المجمع المهيب الذي بدا أمام عينيه كأنه يحمل نذير شؤم.
كان جسده يشتد شيئًا فشيئًا مع كل لحظة، وسحر شادين يوشك على الانتهاء.
لم يتبق أمامه سوى فرصة واحدة ليحرّك سيفه أو يرفع قدمه مرة واحدة فقط.
“توقف، إيرن.”
صوت جوديث بدا وكأنه يداعب رأسه برقة.
هل كانت إرادته أم روحٌ ما تسيطر على جوديث بالفعل؟
ومع ذلك، كان نظر جوديث الذي التقى بنظره في الهواء هو نفس النظرة التي كانت تنظر إليه دائمًا بلا تغيير.
فقد سيف إيرن قوته وسقط على الأرض بثرّة.
ورغم أن ذهنه كان لا يزال غارقًا في الشكوك، إلا أنه لم يستطع معارضة جوديث من الأساس.
كان قد تذمر فقط حين رآها تخلع حذاءها وتهرع نحو المجهول الخطير، لكنه لم يحاول أن يوقفها فعليًا.
جاءه الإدراك، بلا وعي، أن الأمر قد يكون خارج حدود قدرته.
وفي تلك الأثناء، أنهى شادين أمره بنجاح.
“…”
عمّ الصمت المكان، ولم يتحرك سوى ظلام يتمايل.
هينري جلس على ركبته في وضعية غير مريحة، ووجهه مملوء بالخوف.
جوديث ابتلعت ريقها بمرارة، إيرن جمد مكانه، وشادين عض على شفته، جميعهم يحدقون في “إرادته”.
الحبل الذي كان يلفّ المجمع بشكل هش فجأةً انقطع.
بلع أحدهم ريقه بصوت مسموع، وارتطم غطاء الجرة بصوت صرير.
في البداية، بدأ الغطاء الذي كان يطرق للتو يتحرك كما لو أنه على وشك الانفتاح، كما لو أن شخصًا يرفع الغطاء من الداخل.
“هذا سيء.”
كانت تلك كلمات يأس هنري.
“…نعم.”
تبعها تنفس شادين مرتاحًا في ذات اللحظة.
طار الغطاء ووقع جانبًا.
هنري، الذي كان قد سمع من شادين عن خطورة الجرة التي تحتوي على إرادته، لعَن الوضع بشكل غير معتاد، وابتسم شادين.
“تم الأمر.
قد فُتح.
السحر نجح.”
لكن الغريب أن هنري، الذي كان من المفترض أن يُضحي به، كان بخير.
على العكس، يبدو أن كل من دخل المبنى بعد جوديث وإيرن صاروا هم الضحايا.
كان إيرن مشلولًا لا يستطيع الحركة، وجوديث تحت تأثير السحر لا تستطيع النهوض، والباب قد فُتح.
على أية حال، كانت النتيجة نجاحًا.
ضحك شادين، حتى مع محاولته عدم الضحك، لم يستطع كبح نفسه.
“ها ها ها.”
وضع شادين يده على جانب جثته المعلقة ونفخ فيها قوة.
“أنتم الذين عانيتم واختبأتم، قد انفتحت السماوات وأُغلقت الأرض، لقد حان وقت التسامح عن الضغائن والوفاء بالعهود.”
تدفق سائل أحمر غامق يشبه الدم من داخل الجرة.
كان كثيرًا إلى درجة أنه فاض على الأرض التي كان يقف عليها شادين، امتزج بالظلام، جرى على الجدران، وسقط مرة أخرى من السقف.
“من يوافق سيرتدي جسدًا جديدًا، وأرواح من لا توافق ستتجول في العالم السفلي، فقد حان الوقت للكشف عن الإرادة.”
خفض هنري رأسه بينما ارتفع الدم إلى السقف وسقط كالمطر.
جوديث، في تلك الحالة المقززة، حدقت في شادين دون أن ترمش.
“هل أنت بخير، سيدتي؟”
لم ترد جوديث.
أما إيرن، الذي ظل مشلولًا بالقرب من شادين، فبدا وهو يحاول الاقتراب من جوديث.
على الرغم من عدم راحته في الحركة، شعر بأنه يجب أن يفعل شيئًا.
وفي تلك اللحظة، أجبر هنري نفسه على النهوض.
فتحت جوديث، التي ظلت صامتة طوال الوقت، فمها وقالت:
“كنت على حق.”
“عن ماذا تتحدثين؟”
“المؤلفة هنا أيضًا.”
لقد جاءت هي أيضًا.
بينما كانت على وشك أن تُجبر على قبول إرادة شادين تحت سحره، سمعت جوديث صوتًا.
صوتًا يبدو كأنه يخرج من كل الجهات، لكنه في الوقت ذاته كأنه تتحدث إلى نفسها.
كان الصوت يقول:
“اطلب الانتقام.”
سألت جوديث، تغلبها غريزة حادة رغم أنها لم تسمع الصوت من قبل:
“هل أنت المؤلفة؟”
“نعم،” أجاب الصوت.
“المؤلفة هنا؟”
“إنها أمامك.”
بعد أن قُتل على يد شادين، استيقظ المؤلف في عالم أصغر داخل العالم الذي خلقته.
داخل المجمع المسمى “مصلحته”.
في فضاء مليء بالضغائن والقوى الروحية لامرأة انعزلت بنفسها طلبًا للانتقام، وُجدت المؤلفة أيضًا كروح ممتلئة بالضغائن.
لذلك، من نقطة معينة، أصبحت إرادته هي في الواقع إرادة المؤلف.
“هل هذه هي المؤلفة؟”
أشار شادين إلى وحدة صيانته. لا يزال الدم القرمزي الذي أُريق يتدفق.
“كف عن هراءك.”
“قد يصعب تصديق ذلك، لكنه حقيقة.”
“لماذا إذن تركتني وحدي حتى الآن؟”
المؤلفة استخدمت ببساطة القوة الروحية التي تراكمت بداخلها ليفتح السماء وتنادي روح القاتل الذي قتلها.
إلى العالم الذي خلقته، إلى خاتمها.
كانت المؤلفة مرهقة بسبب ذلك.
راقب شادين وانتظر السم أن يتجمع مجددًا.
وبفعل ذلك، تسببت في فك ختم المجمع، تمامًا كما تفعل الآن.
“لقد أطلقت النار على قدمك بنفسك.”
“لا تجعلني أضحك.”
“لماذا أجعلك تضحك؟”
نقرت جوديث بلسانها.
“هل ندمت يومًا على شيء؟ هل شعرت بالذنب؟”
“لماذا تسألين مثل هذا السؤال مع ألم فمك؟ بالطبع لا.
فعلت ما يجب فعله.
لكن أشخاصًا مثلك يأتون إلى هذا العالم ليصنعوا ويبيعوا البخور لن يفهموا.”
“تسك تسك، هذا مؤسف جدًا.
ستندم لاحقًا.”
هزّت جوديث كتفيها.
حاول شادين النهوض من مكانه، لكن أردافه كانت ملتصقة بالأرض ولم تتحرك.
“…هدوء!.”
“ماذا؟”
“الدم يتجمع حولك فقط.”
إيرن، الذي كان يراقب بهدوء من الجانب، فتح فمه.
عندها فقط أدرك شادين أن بركة دم قد تشكلت حوله.
وكان أرض القبو مستوية، فلماذا الدم فقط حوله؟
للحظة، شعر شادين كأن الحشرات تزحف على جسده، واهتزت كتفاه.
كان الأمر كدغدغة.
خدش ذراعه بعنف.
لكن الدغدغة لم تختفِ.
“أوغ، أوغ، أوغ.”
تشكلت بثور على جلده المكشوف ثم انفجرت واندفع منها القيح.
تكونت قطرات دم على عنقه ووجهه وأينما مرت أظافره.
“أوغ، أوغ، أوغ.”
أثار الحكة والاحتراق في حلقه شعوره بأنه يفقد صوابه.
وهو يتلوى من ألم لا يوصف، دفع جرة الصيانة كما لو كان يريد الانتقام.
تدحرج جسده جانبًا وتقيأ دمًا أحمر ساطعًا.
انساب الدم الأحمر نحو شادين، وصرخ الأخير ألمًا كأنما يحترق.
تداخلت الشتائم والصراخ، كان شادين ينتزع شعره، يتوسل للحياة، يبصق الدم، يهدد بالقتل، ثم يبكي بشدة حتى احترقت عيناه.
“أوغ، أوغ، أوغ.”
“يا إلهي.”
حين دخلت أصابع شادين في محاجر عينيه، أدار كل من جوديث وهنري وجهيهما بعيدًا عن المشهد، عاجزين عن المواصلة.
“إيرن، إيرن.”
وقفت جوديث بتمايل ومالت إلى إيرن. إيرن، الذي اقترب منها بغياب تام، أمال رأسه بدهشة لما لاحظه من زوال شلله تمامًا.
“بفضل هذا الدم.”
كانت هدية صغيرة من المؤلفة لـ “يو-جين”، الذي ضُحّي بها ظلمًا.
عندما سمعت جوديث الصوت سابقًا، سألت لماذا بالضبط تم جلبها إلى هنا.
فأجابت المؤلفة:
“هناك خطأ.”
وأعطى ردًا غير متوقع.
“لم أكن أقصد استدعاءك إلى هنا.
كان يجب أن أقتله في العالم الآخر أولًا لأجلبه إلى هذا العالم.”
لذا، كان حادث الشاحنة هو نية المؤلفة.
إنها القصة المبتذلة التي تبدأ فيها التقمص أو التلبس بعد أن تصدم بشاحنة.
لكن حتى المؤلفة لم تتوقع وجود “يو-جين” هناك.
“أعتذر لك بشدة.
لا أستطيع إرجاعك، لكن سأخرجك من هنا.”
استخدم الدم الذي أُريق ظلماً ليحيّد السم المشل الذي نشره شادين.
صفعَت جوديث هنري على ظهره أيقظته، وهو لا يزال فاقدًا للوعي.
“اخرج بسرعة.”
سأل إيرن، الذي جاء دون أن يشعر به أحد وهو يدعم جوديث:
“هل نخرج هكذا فقط؟”
نظر إلى شادين الذي كان يتدحرج الآن على الأرض، يئن، وقال:
“نعم، دعه هنا.
أنا استسلمت.”
“ها؟”
سمحت جوديث للمؤلفة بأن تنتقم.
“لماذا تتلكأ، إيرن؟ هيا، لنخرج.”
دفع هينري جوديث وإيرن.
دون أن يقرر أحد من سيمشي أولًا، صعدوا سلالم القبو.
سمعوا صرخة رهيبة، ليست من هذا العالم، من ورائهم، لكن جوديث لم تلتفت.
ربما عانت في حياتها السابقة، لكنها لن تعاني في هذه الحياة.
“أوغ، إنه فوضى هنا أيضًا.”
توقف هنري أمام ما رآه فور صعوده من القبو. كان المبنى كله عبارة عن فوضى من الظلام والدماء، كأنه قبو.
ماذا لو نُقل جهنم داخل مبنى؟ كانوا على وشك الاندفاع للخارج، لكنهم توقفوا.
“سيد سميث! الأخ لوهمان أيضًا هناك.
ماركيز! علينا إخراجه أيضًا!”
تذكرت حينها الأشخاص الذين صعدوا إلى الطابق الثاني.
داسوا بأقدامهم للحظة، ثم صعدوا إلى الطابق الثاني بوجوه عابسة.
“أوغ.”
أول ما استقبلهم كان ذبابة مشوهة، رأسها وصدرها وبطنها مقسمة إلى ثلاثة أجزاء.
هربت جوديث من الجثة وطرقت كل باب يمكنها إيجاده.
“سيد سميث!”
“يا سموّك!”
وهم يصرخون بأعلى صوتهم، فتح باب الغرفة في نهاية الممر بحذر.
خرج الناس، الملطخون بالدماء مثل جوديث وإيرن، يصرخون ويهربون.
“اخرجوا بسرعة، بسرعة.”
ركضوا جميعًا إلى الطابق الأول بلا استثناء.
هرع هنري، الذي وصل أولًا، للخارج بمجرد فتح الباب الأمامي.
وقف رجال الشرطة والحراس أمام الباب لاستقبال الخارجين مسرعين.
“لماذا لم تدخلوا بعد كل هذا الطريق؟”
لهث كاين وأخرج غضبه على الحارس الأمني.
تردد الجندي وأجاب:
“حاولنا الدخول، لكن الباب لم يفتح، يا سموّك.”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
169ⵌ – الأخير.
“حاولت كسر الباب، لكنه لم ينكسر ولم يُفتح.”
هكذا شرح تان الأمر.
في طريقه لاستدعاء قوات الأمن، صادف الأخ لوهمان، وفكر أن زيادة عدد المساعدين أفضل، فأخبره عن المبنى.
اتجه الأخ لوهمان لإنقاذ سميث، بينما التقى تان بقوات الأمن، وأراهم اللوحة التي أعطاها له كاين، ثم جمعهم وتوجهوا إلى المبنى.
“حاولت كسر النافذة، لكنها لم تنكسر.”
حاولت قوات الأمن الدخول بأي طريقة كانت، لكن دون جدوى.
تان كان في حيرة أمام هذه الطاقة الغامضة والقوية التي لم يشعر بها من قبل.
“كنت قلقًا حقًا: هل أذهب إلى العرابة وأخبرها؟”
في تلك اللحظة، فتحت جوديث ومجموعتها الباب وخرجوا مسرعين.
“ظننت أنني سأموت دون أن أستطيع التحرك.”
أطلق كاين زفرة عميقة.
كان منهكًا حتى لم يعد قادرًا على تحريك ساقيه. ظن أنه لا يوجد شيء أكثر مثلبة من ذبابة مشوهة، لكنه اختبر الجحيم بعينه.
“الأمور لا تهدأ.”
“ظننت أنني سأموت، أيها القائد.”
“لا أعتقد أنني سأتمكن من النوم الليلة.”
هز سميث والأخوة لوهمان رؤوسهم.
كانوا يشعرون بالفخر بعد تعاونهم لهزيمة الذبابة المشوهة، لكن الظلام ظهر فجأة، وانهمر الدم من السقف، فارتعش سميث.
“السيد تشارلي، راقب هذا المكان جيدًا ولا تدع أحدًا يقترب.
عليّ أن أذهب أولاً لتنظيف هذا الدم.”
نادَى كاين أحد فرسان قوات الأمن.
“ماركيز، أين أصابك الألم؟”
“ألا ترى هذه الدماء؟ نحن جميعًا مغطون بها…”
نظر كاين إلى إيرن بلا كلام.
لأنهم كانوا جميعًا نظيفين تمامًا، كما لو لم تلطخهم الدماء.
جوديث، إيرن، هنري، وسميث.
نظروا جميعًا إلى أيديهم وملابسهم بدهشة.
كل شيء نظيف سوى بعض الغبار القليل.
“هذا شيء قد يبكيه الأشباح.”
رفعت جوديث رأسها نحو المبنى، مدفونةً خصلات شعرها المتناثرة خلف أذنها.
داخل المبنى، حيث كانت كل النوافذ مغطاة بالظلام الدامس، كانت تصدر أصوات صراخ خافتة متقطعة.
مع تجمع الشرطة، بدأ المتفرجون يتحدثون ويتكهنون.
“إنه مبنى ملعون.”
“نعم، كيف لا يكون كذلك؟”
لحظة، ملعون؟ مبنى ملعون؟ تنهدت جوديث ووضعت يدها على جبينها.
لماذا أُعطى مبنى ملعون آخر؟
“… أعتقد أنني لن أبيع ذلك.”
همست إيرن بجانب جوديث التي كانت تتحدث بهدوء.
“هذا مهم الآن، نعم، سيكون مهمًا.”
“تبًا، أنت هناك، يا وسيط الأرواح، هل نحن بخير؟ ها؟”
بينما صدى اللعنة يتردد، قبض سميث على رصاصة وهزها بحالة من الهياج.
“مرّت عليّ تلك الأشياء السوداء.”
“لقد ضربني الدم كثيرًا.”
“نعم، الدم أيضًا!”
لعق تان شفتيه متوترًا بينما اقترب إخوّة سميث ولوهمان الغاضبون.
“إذا كنت متوترًا، هل أُرش عليك بعض الملح؟”
“رشّه، رشّه بسرعة.”
أخرج تان بعض الملح المجفف تحت الشمس من جيبه ورشه على سميث والأخوة لوهمان.
“رشّه بقوة أكثر، أعني، في كل زاوية.”
“هل هذا؟ نعم، نعم.”
كان تان يرش الملح بجدية على الأخ لوهمان وسميث.
وبينما كانوا يسقطون مغطين بالملح، اقترب كاين بهدوء من تان.
“احمم، هل يمكنني أن أرشه أيضًا؟”
“نفد الملح.
ماذا أفعل، صاحب السمو؟”
حين أظهر تان لكاين كيس الملح الفارغ، أصبح أكثر تعكرًا.
نقر إيرن بلسانه وهي تنظر إلى كاين بتعبير ساخر.
“اشتري ووزّع، اشتري ووزّع.”
—
المبنى الذي أخرجت جوديث ومجموعتها منه ظل مغلقًا لفترة، ثم فجأة، تلاشى الظلام بنفسه وفتح الباب.
وُجد داخل المبنى رجل بلا عين.
لسوء الحظ، وُجد شادين لا يزال يتنفس ونُقل إلى السجن.
“هل جئت لإجراء مقابلة؟”
“بالطبع.
هل لا يمكن أن نعقد اجتماعًا بيننا؟”
نظرت جوديث إلى شادين، الذي بالكاد استطاع الجلوس على أرضية الزنزانة القذرة.
كانت عينته الوحيدة حادة ومركزة.
كان هذا هو اللعنة والعقاب الذي وضعه المؤلفة على شادين.
عليه أن يتحمل الألم الرهيب الذي يهاجمه بين الحين والآخر، دون أن يفقد عقله أو يجن.
نظرًا لأن عقوبة الإعدام كانت بمثابة خلاص له، لم يقتله الإمبراطور بل حبسه في الزنزانة.
لا توجد عقوبة أشد من الموت لقاتل متسلسل وزعيم تمرد.
“أتيت لأشاركك شيئًا اكتشفته مؤخرًا.”
“أنا ممتنة جدًا لذلك.”
لم يكن في سلوك شادين الساخِر ذرة ذنب.
لقد اختفت أي شفقة كانت لديها تجاهه.
“هناك شخص يحتفظ به.
تسميه دوهاريتا.”
في ذلك اليوم، أخبرت جوديث العرابة بكل ما حدث في المبنى.
بينما كان إيلور يستمع بصمت، قاطعته قائلة:
“تسميه دوهاريتا، لكن شارتين آخرين يسمونه فيليا.”
كلا الاسمين هما كلمات من لغة جوره تعني “ابنة”.
بالنسبة لشارتين، هذا هو المعنى، لكن بالنسبة لجوديث وشادين، كان له معنى مختلف.
“فيليا؟”
ضحك شادين ضحكة غريبة، لم تكن بكاءً ولا ضحكًا.
“فيليا” كان اسم القلم الخاص بالمؤلفة.
أدارت جوديث ظهرها لشادين، الذي كان يضحك بجنون.
“أتمنى أن تدفع ثمن ذنوبك في هذا الجحيم الحي.”
—
“إذا احتجت مالًا مجددًا، تعال إليّ في أي وقت. سأقرضك على وجه الخصوص.”
“حتى كمزحة، هذا فظيع.”
وقف إيرن بين سميث وجوديث.
اعترافًا بخدماتهم في القبض على الكاهن، قام الإمبراطور، كما وعد، بسداد ديون عائلة راينلاند.
“تعال واشتري بعض البخور، سيد سميث.
ثلاثة بثمن اثنين.”
“هل لا تزال تواصل عمل البخور؟ سمعت أن السيدة أصبحت غنية الآن.”
بعد أن سدد الإمبراطور الديون، أصبحت كل ممتلكات كليف المختلسة ملكًا لجوديث.
قد لا تكون أغنى امرأة في الإمبراطورية، لكنها غنية بما يكفي لتعيش حياة مريحة دون الحاجة للعمل.
“هذا صحيح.”
يقال إن الإنسان إذا وقف يريد الجلوس، وإذا جلس يريد الاستلقاء.
كانت جوديث تغني بأنها ستكون راضية فقط إذا استطاعت أن تأكل وتعيش دون عمل، لكن عندما تحقق ذلك فعلاً، أصبحت تريد المزيد من الثراء.
“ما زلت جائعة.”
“نعم؟”
“تذكرت هذا الآن، سيد سميث.”
تلمع عينا جوديث برغبة شديدة في أن تصبح غنية، وغنية للغاية.
هز إيرن رأسه.
“كنت أعلم ذلك.”
كان يعلم طوال الوقت.
بعد الانتهاء من شؤون الكاهن، فكر إيرن في الزواج.
كان زواجًا لا يريده أي منهما، فقلق بشأن بساطته.
سأل إيرن جوديث بخفة إن كانت تريد إقامة زواج آخر.
كان يعتقد بصراحة أن جوديث سترغب في ذلك.
“يا إلهي، كلها مجرد مظهر خاوي.”
حيرته إجابة جوديث بأنها لا تعرف لماذا تنفق المال على زواج يجري بالفعل.
لماذا لا تصرف المال وهي تملكه؟ لماذا…
“في حياتنا السابقة، كنا نتزوج بعد أن نتلقى دلوًا من الماء النظيف.”
هل هذا صحيح؟
كاد إيرن أن يذهب لشادين ويسأله.
“إيرن، ماذا تفعل؟ هيا بسرعة.”
هزت جوديث ذراع إيرن وهو يغوص في الذكريات.
أمسك إيرن بخصر جوديث ورفعها على ظهر غولد ثم صعد هو أيضًا.
“تحتاج لوقت للزواج أيضًا.”
كانت جوديث مشغولة للغاية.
بقيت عائلة الأم العرابة ما تزال مختبئة في القصر رغم حل قضية الكاهن، وكان الضيوف مترددين لأن البخور من صنع الشارتين.
ثم خطر لها فكرة.
كان اسم العملية “اختراق الجبهة”.
اشترت جوديث متجرين إضافيين بجوار محل البخور الموجود.
ثم استغلت علاقات تان لتجنيد وسيط قوي.
“هل لديكم شهادات تسجيل وسيط؟”
“نعم، لكن لماذا تسألين؟”
“سنؤطرها ونعلقها على الحائط.”
تم إنشاء قانون تسجيل الوسطاء للقبض على الوسطاء الذين يساعدون الكهنة.
وبالمقابل، يعني هذا أن الوسطاء المسجلين هم نزيهون.
“سأعلن أنني وسيطة معتمدة رسميًا من العائلة الملكية.”
استخدمت جوديث قانون الوساطة للترويج لعملها.
بعد قراءة الطالع، ينصح الوسيط العميل بإبقاء شمعة تحوي أعشابًا معينة مضاءة دائمًا لطرد الشر أو لجلب الحظ.
“بمجرد سماع هذه القصة، سيرغب الجميع في شراء بعض البخور.
هذه طبيعة البشر.”
لم تكن لدى جوديث أدنى شك أن الزبائن سيأتون إلى محل البخور بنية خفيفة ليطّلعوا ويشتروا.
وضعت بائعة الشارتين في المقدمة، لأن هناك سببًا وجيهًا لتوصية بائعة شارتين بالبخور، مستغلةً الاعتقاد السائد بأن جميع الشارتين يمتلكون قوى روحية.
في البداية، لم يكن هناك تفاعل كبير، لكن تدريجيًا بدأت الردود تظهر.
إلى جانب ذلك، سارت تجارة التصدير مع لوبري بسلاسة، فكانت جوديث تصرخ من السعادة.
“آه، أنا متعبة.”
بعد أن تجولت في محل البخور وساعدت في إغلاقه، عادت إيرن وجوديث إلى القصر.
فور وصولهما، توجها مباشرة للاستحمام.
“ألم أحضر أي ملابس لأغيرها؟”
مالت جوديث، التي أنهت استحمامها للتو، برأسها.
لكنها لم تستطع أن تفعل شيئًا بملابسها التي لم تكن لديها أصلاً.
ارتدت رداء الاستحمام الأبيض وذهبت إلى غرفة إيرن.
كان إيرن قد أنهى استحمامه وعاد إلى غرفته، وعلى الطاولة كان هناك حوض فضي لم تره من قبل.
“ما هذا؟”
“هذا ماء نقي.”
ماء نقي؟
نظرت جوديث داخل الحوض الفضي وضحكت بإعجاب. جعل إيرن جوديث المبتسمة تقف مقابله وأمسك بكلتا يديها.
“أقسم لك، سواء عشت أو مت، لن أخونك وسأنظر إليك فقط.”
“ما هذا؟”
“هكذا تُقسم اليمين في الزواج.”
رغم أن الزواج أقيم ببدلة استحمام بيضاء بدل فستان الزفاف الأبيض ودلو ماء نظيف بدل قاعة احتفال فاخرة، إلا أن عهود الزواج لا يمكن الاستغناء عنها.
“ماذا سيقسم إيرن إذًا؟”
“سواء عشت أو مت، سأبقى أنظر إليكِ فقط ولن أضيع المال على أشياء عديمة الفائدة.”
ابتسمت جوديث مُرضية على وعده بعدم تبذير أموالها.
“… ألم يكن علي أن أبتسم على عهد أن أنظر إليك فقط؟”
إنه متسق حقًا.
لكن ماذا أفعل؟
حتى ذلك المظهر المتناسق يبدو لطيفًا.
“لا يوجد جواب.”
مد إيرن لسانه وسار نحو جوديث.
ثم وضع حبل رداءه في يدها.
“الآن بعد أن تزوجنا، يجب أن نقيم مراسم الزواج.”
ابتلعت جوديث ريقها وهي تمسك بحبل رداءه.
خفق قلبها بشدة.
شعرت بقوة أن هذه الليلة لن تكون ليلة التساهل.
شعرت بوخز يسري في عمودها الفقري.
كانت جوديث تريد أن تتوقف في هذه اللحظة، لكنها في الوقت ذاته كانت متلهفة لمعرفة ما سيحدث بعد ذلك.
هل مرت حياتها يومًا بمثل هذا الحماس؟
شدّت جوديث حبال رداء إيرن، متسائلة إذا كان يجوز لها فعل ذلك، رغم أن الشعور كان رائعًا بشكل لا يوصف.
انفتح الرداء من الفتحة، واحتضن إيرن خصر جوديث وهمس في أذنها:
“هذه المرة، لن أفتح الباب حتى لو مات أحد، فقط اعلمي ذلك.”
-نهاية القصة الرئيسية-
︶ ⏝ ︶ ୨♡୧ ︶ ⏝ ︶
الحمدلله الذي تتم بنعمته الصالحات.
هذه أول رواية كورية أنهيها وأنا أشعر بالفخر والسعادة، وكانت النهاية مرضية لكل الأطراف، وختامها كان لطيفًا وخفيفًا على القلب.
كانت معكم في هذه الرّحلة الدافئة،
مُترجمتكم: زوزيتا 🤍.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 17 - من الفصل المئة والحادي والستون إلى المئة والتسعة والستون «النهاية». 2025-09-05
- 16 - من الفصل المئة والحادي والخمسون إلى المئة والستون. 2025-09-05
- 15 - من الفصل المئة والحادي والأربعون إلى المئة والخمسون. 2025-09-05
- 14 - الفصل المئة والحادي والثلاثون إلى المئة والأربعون 2025-09-05
- 13 - الفصل المئة والحادي والعشرون إلى المئة والثلاثون. 2025-09-05
- 12 - من الفصل المئة والحادي عشر إلى المئة والعشرون. 2025-09-05
- 11 - من الفصل المئة والحادي إلى المئة والعاشر. 2025-09-05
- 10 - من الفصل الحادي والتسعين إلى المائة. 2025-08-23
- 9 - من الفصل الحادي والثمانين إلى التسعين. 2025-08-23
- 8 - من الفصل الحادي والسبعين إلى الثمانين. 2025-08-23
- 7 - من الفصل الحادي والستين إلى السبعين. 2025-08-23
- 6 2025-08-23
- 5 - من الفصل الحادي والأربعين إلى الخمسين. 2025-08-23
- 4 - الفصل الحادي والثلاثين إلى الأربعين. 2025-08-23
- 3 - من الفصل الحادي والعشرين إلى الثلاثين. 2025-08-23
- 2 - من الفصل الحادي عشر إلى العشرين. 2025-08-23
- 1 - من الفصل الأول إلى العاشر. 2025-08-22
التعليقات لهذا الفصل " 17"