16
ⵌ151
شـادين كان مريضًا طَوال ثلاثة أيّام متواصلة.
خلالها، عاش على ما تبقى في المنزل من ماء وخبزٍ يابس وقليلٍ من المربّى.
قال متنهدًا وهو يحدّق في السقف:
“سوف أموت.”
لكن، مع آخر رشفة من الماء، تمكّن أخيرًا من الجلوس.
فتح محفظته ليعدّ ما تبقى من نقوده، وفجأة، سقط ظفر إصبعه البنصر المتغيّر اللون.
“… حسنًا، يكفي هذا.”
ظفر ومفصل بنصره الأيسر فقط؟ بفضل قوّته الروحية الفريدة، لم يكن مضطرًا لإنفاق الكثير.
لم يدفع ثمنًا باهظًا لقاء القضاء على الخونة الثلاثة.
دفع شادين الظفر الساقط بعيدًا بظهر يده، ثم قلب محفظته.
لم يتبقَّ سوى عشر قطع فضية وخمس عملات نحاسية.
كمية بالكاد تكفيه لشهر إن أنفقها بحذر، لكن معدته كانت تتلوى كلّما تذكّر الـ500 قطعة الذهبية التي سرقها “أكان” والبقية.
تلك الأموال كانت عربونًا قد حصل عليه من الفيكونت ويلبر حين وافق على تنفيذ المهمة.
أما الذهب المتبقي، 4500 قطعة، فكان على هيئة شهادة إيداع بنكية.
لكن تلك الشهادة باتت بلا قيمة بعد أن ألقي القبض على الفيكونت بتهمة الخيانة العظمى.
“يا له من إزعاج…”
بدأ شادين يجمع القطع الفضية واحدة تلو الأخرى بحذر ويضعها في جيبه، مرددًا شتائم متقطعة بين أنفاسه.
كان “أكان” قد أخذ معه كل القطرات الخاصة بتغيير لون العين، لكنه ترك خلفه المكوّنات.
غالب الظن أنه لم يأخذها لأنه لا يعرف طريقة تحضيرها بنفسه.
“لو تمكّنت من تحضير عبوة واحدة فقط، سيكون الناتج وفيرًا.”
رفع شادين جسده المُثقل.
حان الوقت على الأقل لصنع عبوة واحدة.
رغم جوعه المفرط، اتجه مباشرة لصنع القطرات.
عندما يركّز على شيء ما، تتلاشى أفكاره المشتتة، حتى غضبه من الخونة يخفت تدريجيًا.
لكن سؤالًا لطالما حيّره، عاد ليتردّد في ذهنه:
إيرن راينلاند لا يبدو أنه هو الشخص الممسوس… إن كان كذلك، فالأرجح أن “جوديث هارينغتون” هي الممسوسة.
لقد حاول أن يُلقي لعنة باسم المؤلف، لكنها لم تنجح.
وهذا يعني على الأرجح أن المؤلف لا يوجد في هذا العالم.
فمن تكون جوديث هارينغتون إذًا؟
“آه، أنا جائع جدًا…”
شعر أن جلده قد التصق بعظامه من شدّة الجوع. عضّ شادين شفته وغمغم:
يبدو أن جوديث ونيوديث يجب أن تملآ بطنيهما أولًا.
بعد أن أنهى إعداد قطرات العين، استخدمها، ارتدى ملابسه، وغادر المبنى.
كان يتمنى أن يدخل أي مطعم ويطلب الطعام بلا حساب، لكن لا المال كان يتيح له ذلك، ولا جسده المنهك.
وفي النهاية، توقّف عند أقرب مخبز واشترى بعض الخبز، ثم اشترى عبوة تحتوي على خمس بيضات من المتجر المجاور.
لكن أثناء عودته، أوقفه ضجيج يتصاعد من حانة قريبة.
“… لقد كان المشهد قاسيًا جدًا.
يا إلهي، لم أرَ شيئًا كهذا من قبل.”
“إلى أي حد كان فظيعًا؟”
“ثلاث جثث ملفوفة كواحدة… آه، لا أطيق حتى التفكير بذلك.
الماركيز كان مصدومًا لدرجة أنه أمر بحرق الجثث والمنزل معًا.”
لم يسمع شادين كامل الحديث، لكنه بدا متأكدًا أن الكلام يدور حول أولئك الذين خانوه ورحلوا.
“لكن كان هناك شيء غريب… كانت هناك جرار، بدت كجرار خمر…”
مجرد مجمّع؟ إذًا لا شك أنهم هم.
أين يقع هذا المجمع؟ هل من المعقول أنهم أحرقوا المكان بأكمله؟
كان شادين واقفًا متردّدًا عند الباب المفتوح، حين دُفع فجأة من الخلف.
“تِشه، يا لهذا الإزعاج.”
“أوه…”
سقطت عبوة البيض من بين يديه، وتهشّمت ثلاث بيضات من أصل خمس.
نظر شادين إلى الرجل الذي دفعه بنظرة غاضبة. كان رجلًا ضخمًا، تغطي الندوب جسده بالكامل.
ساد صمت غريب في الحانة لحظة دخوله.
التفت نحو شادين بعدما شعر بنظراته.
“ما بالك تحدّق هكذا؟ ألا تنوي أن تغمض عينيك؟”
تابع شادين التحديق دون أن يرد، فما كان من الرجل إلا أن صفعه بكفّ بحجم غطاء قدر.
تعالت بعض أصوات الدهشة من الحاضرين، لكن لم يجرؤ أحد على التدخل.
“لم تكن حتى لكمة، مجرد صفعة، صفعة فقط.”
ثم مضى الرجل إلى داخل الحانة، تاركًا شادين ملقى على الأرض، يتأمّل ما تبقى من البيضتين المهروستين بين ذراعيه.
“رجل كهذا… لا يستحق الحياة.”
—
لدي الكثير من المشاكل.
أولها الكاهن.
لا يمكنني توقّع ما قد يفعله كاهن قتل كل أتباعه.
الشيء الوحيد المؤكد، أنه سيُقدم على شيء أكثر جنونًا.
أما المشكلة التالية فهي تأمين قوت يومي.
في الحقيقة، هذه أهم مشكلة على الإطلاق.
“الزبائن صاروا أقل.”
كنت جالسة خلف صندوق المحاسبة في محل العطور أراجع دفتر الحسابات، وتنهدت بعمق.
لم أكن أتوقع أن تعود المبيعات كما كانت.
“ما الذي يمكنني فعله في هذه الظروف؟”
بدأ الكونت راينلاند باتباع سياسة تقشّف، خفّض عدد الوجبات اليومية، وقلّص كل نفقات القصر.
لم يكن الوضع سيئًا إلى درجة الموت جوعًا، لكن لا أحد يعلم إلى متى سيستمر هذا الشتاء البارد على المبيعات.
“هل أقدّم تخفيضات ضخمة؟ عرض اشترِ واحدة وخذ الثانية مجانًا؟”
حككت رأسي بتردّد.
قد يكون عرضًا جيدًا، لكن لا يبدو مناسبًا الآن.
سيستغرق الأمر وقتًا حتى يتغيّر مزاج الشعب الإمبراطوري.
“ربما عليّ التصدير.”
لماذا أبيع العطور فقط لسكان الإمبراطورية؟ لِم لا أبيعها لمملكة بينكو أيضًا؟
ومض في ذهني وجه “كارولين”.
المركيزة “كارولين فيرني” كانت تعشق الشموع العطرية التي أصنعها.
لا، بل زبونتي العزيزة حاليًا، “كارولين لوبري”.
“عليّ التواصل مع شركة لوبري التجارية… لا، سأكتب لكارولين مباشرة.”
ربما لا أستطيع التعاقد مع شركتها، لكن كارولين بالتأكيد ستشتري بعض العطور.
وبما أنهم يتنقّلون بالقوارب، فسيشترون بكميات كبيرة.
حان الوقت لبيع كل ما يمكن.
إذا رآها الآخرون تستخدم تلك الشموع وأعجبتهم، ستبدأ الصادرات تدريجيًا.
كتبت رسالة إلى كارولين دون تردّد.
وبينما كنت أنهيها بعد كثير من التفكير، دخل إيرن إلى المتجر بعدما أنهى تدريبًا خفيفًا في الفناء الخلفي.
كان المتجر خاليًا جدًا، لذا لم يتحمّل إيرن الفراغ، وبدأ التدريب على رمي الخناجر.
“لمَ كل هذا الجهد؟”
قال إنّه تدريب بسيط، لكنني لم أقتنع أبدًا.
فإيرن دائمًا يعود من تدريباته محمومًا.
رغم الطقس البارد، إلا أن تنفّسه المتسارع وعضلاته المنتفخة تحت قميصه الرقيق كانت واضحة تمامًا.
هل كل هذا بسبب تمارين التمدد فقط؟
“هناك حبر على وجهك.”
اقترب مني وهو يفك أزرار قميصه من فرط الحرارة، ومدّ إصبعه ليمسح بقعة الحبر عن خدي.
شعرت بحرارة جسده تلامسني، فبلعت ريقي بصمت.
لم أستطع إبعاد نظري عن الندبة الطويلة التي ظهرت من فتحة قميصه، ولا عن عضلات صدره المرتفعة والمنخفضة.
هل هذه شهوة؟ لا…
من الطبيعي أن تشعر امرأة ناضجة وسليمة الجسد بانجذاب كهذا.
بللت شفتي الجافتين بطرف لساني، ثم مددت إصبعي أتتبع الندبة على صدره.
ارتجف جسد إيرن تحت لمستي.
“كيف حصلت على هذه الندبة؟”
“من ساحة معركة، على الأرجح.”
أجاب باختصار، لكن ذلك لم يكن مهمًا بالنسبة لي.
لم أكن مهتمة فعلًا بندبته…
أردت فقط ذريعة لأعبث معه.
“لابد أنها كانت مؤلمة.”
تحولت أصابعي من إصبع إلى ثلاث، تتلمّس جسده وتتشبث به، حتى لم يعد هناك أي مسافة بين كفّي وكفّه.
إنها حيلة تقليدية جدًا…
لولا وجود جوديث، لسقط إيرن في شباكي.
“في الحقيقة، لم تكن مؤلمة كثيرًا.”
كان الحبر قد مُسح منذ وقت، لكن إيرن لم يبتعد.
يده بقيت على وجهي، ووجهه قريب للغاية.
—
بعد أن غادر ريان وهنري”، خلت المتجر من أي شخص سوانا.
كل ما كنا نسمعه هو أنفاسنا المتلاحقة.
شعر إيرن أن اللحظة مواتية للاقتراب أكثر.
لا بد من إحراز تقدّم.
لم أهرب من نظراته، ولم أصدّ يده.
بل وضعت كفّي على صدره وانتظرت اقترابه.
رغم أنني لست فتاة رومانسية، شعرت أنه على وشك تقبيلي.
وحتى إن لم يكن المكان مثاليًا، لم أمانع قبلة.
لكن فجأة، تذكّرت ما حدث في الأيام الماضية:
في كل مرة حاولنا الاقتراب، يظهر عائق فجأة.
هل سيحدث ذلك مجددًا؟
وقبل أن يستبدّ بي الخوف من هذا الإحساس المريب…
انفتح باب المتجر فجأة، ودخل هنري يركض بانفعال شديد.
“إيرن! سيدتي!
هل تعلمان ما الذي حدث لتوّه في الخارج؟!”
صاح مذهولًا:
“إنها جريمة قتل! جريمة قتل حقيقية!”
ⵌ152
“حدثت جريمة قتل في الزقاق هناك… بالمناسبة، أنتما الاثنان، هل كنتما تنظران إلى دفتر الحسابات؟”
صاح هنري بحماس، ثم توقف فجأة.
دفعت إيرن عني قليلًا وعدّلت شعري دون سبب، رغم أنه كان مربوطًا بعناية منذ البداية، ولا مجال أصلًا للعبث به.
تنهدت، شاعرة بأن فرصتي في التقدم قد تتبخر اليوم، لكنني حاولت التظاهر بعدم الاكتراث وسألته:
“كنت أكتب رسالة.
على كل حال، قلت جريمة قتل يا سيد هنري؟”
“نعم، وقعت جريمة قتل بالقرب من ورشة الزجاج.”
كان هنري قد مرّ بورشة الزجاج بعد انتهاء دوامه، ليطلب من جوديث تسوية المدفوعات المتأخرة عن زجاجات طُلبت مسبقًا.
وبينما كان يهم بالمغادرة، لمح مجموعة من جنود الشرطة يندفعون نحو الزقاق.
دفعه الفضول إلى تتبعهم، ليجد جثة مضرجة بالدماء، تحيط بها حشود من الناس يحدقون فيها.
“ولكن، هل كان من الضروري نقل الجثة بكل هذه السرعة؟” قال إيرن بعصبية وهو يمرر أصابعه بين خصلات شعره، وقد بدا عليه التوتر.
ما الذي يدعونا للاهتمام بجريمة قتل الآن؟ كان يمكن تأجيل الحديث عنها حتى الغد.
فلماذا تعترض طريق العودة من العمل بهذه الصورة؟
“أخبار كهذه تُتناقل مباشرة، إيرن.”
ارتسمت ملامح الانزعاج على وجه إيرن، لكن هنري لم يُعره أي اهتمام.
فقد اعتاد على تعابيره الساخطة تلك.
“من هو القتيل، يا سيد هنري؟ أخبرنا بالتفاصيل.”
رغم انزعاجها من مقاطعتهما، إلا أن فضول جوديث استيقظ.
فالمنطقة المحيطة بورشة الزجاج، حيث وقعت الجريمة، كانت معروفة بحوادث مشابهة.
لم تكن سوقًا سوداء رسمية، لكنها احتوت زقاقًا يؤدي إليها.
فمن جهة، يقع مكتب سميث والورش والمخازن، ومن الجهة الأخرى، يبدأ مدخل السوق السوداء.
“هل القتيل من طبقة النبلاء؟”
إذا كان الأمر كذلك، فهذا يفسر سرعة تدخل الشرطة.
فهم لا يتحركون بهذه السرعة إلا إذا كان القتيل ذا شأن.
“لا.”
أومأ هنري نافيًا.
“لكنه كان شخصية معروفة، رغم أنه ليس من النبلاء.
أظن أنك تعرفه، إيرن.”
“أنا أيضًا؟”
“نعم، إنه ذلك المرتزق الضخم، ماستو.
ألا تتذكره؟”
“ماستو؟! مات؟! ذلك الوحش الذي لا يُقهر؟!”
رفع إيرن حاجبيه بدهشة.
“ومن يكون؟” سألت جوديث وهي تنظر بين هنري وإيرن.
“إنه مرتزق خاض معي الحرب سابقًا.
كان أكثر فائدة من هذا الرجل وذاك الضابط الكبير.”
كان يشير إلى هنري، بينما الضابط الكبير كان كاين.
هز هنري رأسه موافقًا، دون أن يبدو عليه الانزعاج من تعليق إيرن.
“لقد حقق إنجازات كبيرة.”
كان ماستو من بين القلة الذين نجوا من المعركة.
قاتل كمرتزق لصالح أحد النبلاء.
لم يُحقق إنجازات كبرى، لكنه نال مكافأة متواضعة من العائلة الإمبراطورية لقاء بعض النجاحات الصغيرة.
لو أنه اختار الطريق السليم حينها، لربما أصبح أحد أفراد جهاز الشرطة، لكنه انحدر نحو عالم الجريمة.
“نعم، سمعت أنه أصبح زعيم عصابة.”
“بل لم يكن مجرد بلطجي، بل الحاكم الفعلي للزقاق.
كان يفرض الإتاوات على التجار تحت ذريعة الحماية.”
في البداية، كانت الرسوم مقبولة، لكن مع توسع نفوذ العصابة، ازدادت مبالغ الحماية.
اشتكى العديد من التجار، إلا أن الشرطة لم تكن قادرة على التدخل بسهولة.
“في الواقع، لم يكن لديهم الجرأة على التدخل. طالما ماستو في الصدارة، كان يتولى حل أغلب المشكلات بنفسه.”
من منظور الشرطة، كان وجود ماستو مريحًا.
فقد كان يتكفل بالقضاء على اللصوص، وفض النزاعات، وحتى تهدئة بعض النبلاء الثملين وإعادتهم إلى منازلهم.
كان يُشبه حامي الحمى، لذلك لم يجرؤ أحد على الاقتراب منه بسوء.
“لكن أن يُعثر عليه ميتًا في الشارع؟ هذا صادم فعلًا.”
“وهل مات فعلًا؟”
هز هنري رأسه.
“طُعن حتى الموت… بطريقة بشعة للغاية.”
تمكن هنري من رؤية الجثة عن قرب، لأن أحد رجال الأمن الذين حضروا كان يعرفه.
“يبدو أنه طُعن بخنجر، وكان القاتل يحمل ضغينة شديدة ضده.
الجثة كانت ممزقة بالكامل.”
كان عدد الطعنات كبيرًا لدرجة أن جلده في منطقة البطن بدا ممزقًا، ولم يُعرف أي منها كانت الضربة القاتلة.
“لكن الغريب… أنه لم تكن هناك أي علامات للمقاومة.”
“لا آثار لمقاومة؟ هل أخطأت في رؤيتك؟”
“كلا، ملابسه كانت سليمة.”
باستثناء منطقة البطن والصدر التي تمزقت، لم يكن هناك أي تمزق أو تجاعيد على ملابسه.
أمام خصم يحمل خنجرًا، من الطبيعي أن تتمزق الملابس أثناء القتال.
“هل من الممكن أنه تلقى الضربة القاتلة منذ البداية؟”
“لو كانت ضربة قاتلة من أول مرة، لكان الأمر مفهومًا، لكن من الصعب إصابة شخص بضربة مميتة واحدة بالخنجر.”
“ربما حاول الزحف بعيدًا.”
وحين أنهى هنري كلماته، أضاف إيرن تحليله:
“يعني أن ماستو بقي واقفًا بلا حركة، ولم يقاوم، بينما كان يُطعن مرارًا؟”
أمرٌ محير أن يسقط مرتزق خاض الحروب دون حتى أن يدافع عن نفسه.
“هل كان ثملًا؟ حتى لو كان في قمة سُكره، لا يمكن ألا يشعر بطعنات في بطنه!”
قطب إيرن حاجبيه، بينما مالت جوديث برأسها، وكأنها تذكرت شيئًا عن أساليب القتل تلك.
“في كل الأحوال، مع موت ماستو، قد تشتعل الصراعات بين العصابات للسيطرة على الزقاق. لذا، أرجو أن تحذري، سيدتي.”
“لا تقلق، يا سيد هنري.
لدي إيرن بجانبي.”
في تلك اللحظة، أمسك هنري بمقبض الباب استعدادًا للمغادرة، وابتسم لهما.
“سأنصرف الآن، وأنا مطمئن البال.”
“نعم، اذهب بأمان.”
“لن أعود اليوم، سيدتي.”
رمشت جوديث إثر تلك الكلمات التي حملت تلميحًا، فابتسم هنري، ورفع إبهامه وهو يغادر.
“…!”
أشار بإعجاب قبل أن يخرج من المتجر.
تبًا، هل لاحظ ما كنت أحاول فعله مع إيرن؟
إذًا، ماذا تعني تلك الإشارة بالإبهام؟
شعرت جوديث بالإحراج، ولوّحت بيديها في محاولة لتبريد وجنتيها المحمرتين.
كانت تتمنى لو أن اللحظة استُكملت، لكن وجود هنري أفسد الأجواء.
نظرت إلى إيرن محاولة استعادة الأجواء، لكنها شعرت بخجل شديد.
وأخيرًا، حولت نظرها إلى الرسالة.
“…سأرسل رسالة، يا إيرن.”
—
“لماذا لا يستخدم السحر؟”
في غرفة فارغة بالطابق الأول من قصر راينلاند، كانت سكين شادين والمرآة القديمة موضوعة على طاولة خشبية بالية.
المرآة بدت عادية تمامًا.
في السابق، كانت تُطلق تعاويذ شريرة تلقائيًا، أما الآن، فحتى عندما أطلب منها ذلك، تبقى صامتة.
ما مغزى هذا الصمت؟
“أين يختبئ الآن؟”
بعد جريمة قتل ماستو، انشغلت الشرطة، وكذلك روام.
ومع ذلك، لم ينسَ إرسال معلومات جديدة حول أتباع الكاهن القتلى، ومن ضمنهم آكان.
وفقًا لما أرسله روام، يبدو أن الأتباع الثلاثة قد خانوا الكاهن.
كانوا يشترون طعامًا من القرية، لكن الكمية كانت تكفي لثلاثة فقط.
وبعد أن قتلهم شادين، لم يستخدم أي تعويذة.
“الذوبان تعويذة لعنة من المستوى العالي.
ربما واجه شادين صعوبة في تنفيذها. إنه ضعيف بعض الشيء.”
هكذا خمّن بييتشي، وكانت كلماته معقولة إلى حد بعيد.
إن كان الأمر كذلك، فشادين سيزداد حذرًا.
لكن كيف يمكنني إجباره على استخدام السحر؟
“يجب أن يتناول دواء.”
أي أن أزيد جرعة الدواء تدريجيًا، حتى يُصاب بحمّى شديدة تدفعه لاستخدام اللعنات.
إنها وسيلة خبيثة، لكنها فعالة.
“ما الشيء الذي قد يفعل ذلك؟”
شادين يحاول معالجة خيانة أتباعه بطريقته الخاصة.
إنه جشع، ولم يحصل على ما يريد من الفيكونت ويلبر ولا من غيره.
استعدت كل ما أعرفه عن شادين.
“لقد أنجزت العمل، لكنهم لم يدفعوا لي، هكذا قال.”
حينها لمعت في ذهني فكرة ممتازة، فكرة قادرة على استفزاز أي شخص.
غادرت الغرفة، وتوجهت إلى إيرن.
لكن كان عليّ المرور بمكانٍ ما قبل التوجه إلى المتجر.
—
وبعد يومين، ظهرت ملصقات جديدة معلقة في جميع أرجاء العاصمة، بما فيها الساحة العامة.
وكان محتواها أن غاري وبييتشي قد مُنحا مكافأة مقابل تعاونهما في التحقيق، بل إن غاري حصل على عفو تام.
“هذا رائع، غاري.
لا بد أنه يشعر بأن جهوده لم تذهب سُدى.”
ضحك شادين وهو يقرأ الملصق.
على عكس جوديث، التي كانت لتغضب من مكافأة خائن، لم يُبدِ شادين أي استياء.
لفت انتباهه صوت محادثة خلف أحد الملصقات.
“إنه بطل.”
كان صوت صاحب المخبز واضحًا.
“لكنه مع ذلك قتل شخصًا.”
“الناس بشر، لكن من كان ماستو؟ حتى لو لم نعرف من قتله، فإنه بطل، بطل حقيقي.
ينبغي أن نقيم له تمثالًا.”
ارتسمت ابتسامة ماكرة على شفتي شادين وهو يستمع إلى ذلك الحديث.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ153
“ظننتُ أنك ذهبت لشراء بعض المسامير، فلماذا تأخرت كل هذا الوقت؟”
“لا تكن سخيفًا، إيرن.
وقعت جريمة قتل جديدة.
الشرطة أغلقت أحد الأزقة بالكامل، واضطررنا لسلوك طريق آخر للوصول إلى هناك.
لهذا السبب تأخرنا.”
“ألم تتأخر فقط لأنك سمعت بالخبر؟”
“هذا صحيح أيضًا، هاها.”
ضحك هنري ضحكة خافتة، وقد بدا عليه التوتر، محاولًا التهرب من الموقف المحرج.
“من الذي قُتل هذه المرة؟”
فتحت جوديث الباب قليلًا وخرجت تسأل بعد أن سمعت صوت هنري من خارج المتجر.
“لا تتفاجئي.”
لم يكن الأمر سرًا تمامًا، لكن هنري خفّض صوته وهمس ليضفي على الخبر شيئًا من التوتر.
“الشخص الذي قُتل هذه المرة هو زعيم عشيرة أوز.”
“ماذا؟ السيد أوز؟”
“ألم يكن ذلك الرجل محتجزًا لدى قوات الأمن؟”
سألت جوديث وإيرن بدهشة.
فقد كان عمر، نائب رئيس مجلس أوز الأعلى، قد تعاون مع الكاهن، لذا خضع رئيس المجلس للتحقيق أيضًا.
وقد سمعا من كاين أنه أصر على أنه اشترى إكسير الغرق دون علم بخيانة الكاهن.
“لقد أُطلق سراحه قبل أسبوع دون توجيه أي تهم. ألم أخبركما بذلك؟”
نقل هنري الخبر الذي بلغه من أحد رفاقه القدامى في الشرطة.
فقد انتهى التحقيق إلى أن الشخص الوحيد الذي تعاون مع الكاهن هو عمر، صاحب المنزل، أما أوز فكان ضحية تم التلاعب به.
“رغم ذلك، اضطررنا إلى دفع غرامة باهظة لأننا اشترينا بضائع من صنع خونة، وزوّدناهم بالمستلزمات.”
لكن، كما قال هنري وهو يلوّح بيده:
“هذا ليس المهم الآن.”
“المجلس الأعلى لأوز أيضًا صدر بحقه حكم من القاضي.”
“ما تسميه قاضيًا هو مجرد معتوه يقتل الناس.”
تنهد إيرن وهو يضرب لسانه بامتعاض، وكأن تكرار هذه القصة أرهقه.
ومع ذلك، باتت كلمة “القاضي” تُتداول كثيرًا مؤخرًا في شوارع المدينة.
فخلال الأيام الماضية، وقعت سلسلة من جرائم القتل، استهدفت بداية أحد رجال العصابات، ثم نبيلًا صغيرًا كان معروفًا بتحطيم الممتلكات وارتكاب أعمال عنف، وأخيرًا صاحب حانة تورط في الاتجار بالبشر.
وجميعهم قُتلوا بالطريقة ذاتها: طعنات قاتلة في البطن والصدر، دون أن تظهر على أجسادهم أي علامات للمقاومة.
وكان هناك قاسم مشترك آخر: جميع الضحايا وُجدت على وجوههم علامات تشبه عصيًا مرسومة، تختلف قليلًا في شكلها، لكنها تشير إلى يد واحدة تقف خلف كل تلك الجرائم.
كما أن القتلى جميعًا كانوا من أصحاب السوابق والأفعال الدنيئة.
“طالما تتحدثون عن القاضي، يبدو أن رئيس أوز كان أيضًا مرتكبًا لأمر شنيع؟”
“ليست جريمة واضحة، لكن يُقال إنه كان يستولي على المنتجات الجيدة من الشركات الصغيرة.
وإن رفضوا بيعها له بثمن بخس، كان يستخدم نفوذه وأمواله لتحطيمهم.”
تنهدت جوديث وهي تتذكّر كم يبدو هذا الأسلوب مألوفًا.
“لم يكن عطري وحده الذي حاول الاستيلاء عليه.”
لطالما كانت هذه طريقته: الترهيب المقنّع. فتمتمت جوديث بامتعاض.
“كل من عانى من دمار بسببه، أو كان على وشك الانهيار بسبب ممارسات مجلس أوز، ابتهج اليوم بخبر موته.”
لقد رأى كثيرون أن ما حدث له لم يكن جريمة، بل عقابًا مستحقًا، حكمًا إلهيًا.
لقبوه بالقاضي، الجلّاد، رسول الظلام، بل وذهب بعضهم لتسميته بـ”شيطان الخير” لأنه لا يقتل سوى الأشرار.
بالنسبة لجوديث، كانت تلك الألقاب مبالغًا فيها ومثيرة للضيق.
لكنها كانت تدرك أن أولئك الذين عانوا من ظلم أولئك القتلى، وجدوا عزاءهم في هذا القاتل المتسلسل، ورأوه منفّذًا للعدالة لا مجرمًا.
ورغم أنها تفهم دوافعهم، إلا أن شعورًا بعدم الارتياح تملكها.
“لا بد أن سيادته مشغول للغاية الآن.”
“هذا قدر من يقود جهاز الأمن، سيدتي.”
تنفّس هنري الصعداء لأنه استقال من الشرطة. فلو بقي فيها، لكان الآن يركض ليلًا ونهارًا في ملاحقة القاتل المتسلسل وتتبع الكاهن الهارب.
“ومتى سنتمكن من القبض على الكاهن؟”
تنهدت جوديث.
ذلك الكاهن يستخدم السحر الأسود متى شاء، لكنه يرفض استخدامه حين تطلبه.
كانت الإعلانات التي كتبتها لاستفزازه بلا جدوى، وها هي تعاويذ العرافة تتراكم دون فائدة، وقد استنزفت كل طاقتها الروحية.
لماذا لا يستخدم شادين سحره؟ هل تضرر بشدة من لعنة آكان وأتباعه؟ أم أنه يتظاهر بالضعف ليوجه ضربة مباغتة في النهاية؟
أسئلة متشابكة ومحبِطة تدور في ذهنها بلا إجابة.
ومع ذلك، كان هناك أمر إيجابي واحد:
صفقة تصدير العطر مع مجلس لوبري سارت بسلاسة.
“على أي حال، بما أن السيد هنري جلب المسامير، فلننتهِ من الأمر بسرعة، إيرن.”
طرقت جوديث على صندوق خشبي.
فقد طلب مجلس لوبري كمية كبيرة من العطر منذ أول صفقة، وكانوا مهتمين بالمنتج منذ زمن.
وقد أخبرتهم مسبقًا أن العطر من صنع الشارتين، لكنهم لم يبدوا اهتمامًا يُذكر.
يبدو أن مملكة بينكو لا تعرف الكثير عن الشارتين، لذا فالأحكام المسبقة ضدهم هناك أقل.
ندمت جوديث لفترة طويلة على عدم تصديرها من قبل، لكنها على الأقل استطاعت الآن تصريف كامل المخزون، سواء من القصر أو من المتجر.
واليوم كان موعد تسليم الشحنة إلى لوبري.
“لو أننا أعددناها في القصر، لكنا انتهينا منذ وقت طويل، أليس كذلك، آنسة هارينغتون؟”
تساءل إيرن وهو يهمّ بتثبيت المسامير في صندوق العطور، ثم التفت إلى جوديث، التي لوّحت بإصبعها نافية.
“من المهم أن يرانا الناس، إيرن.”
رغم أن القصر أكثر ملاءمة للتعبئة لما يحتويه من مخزون أكبر، إلا أن جوديث اختارت المتجر عمدًا.
فهذا العرض مقصود: “انظروا، منتجاتنا لا تزال تُباع رغم أن صانعيها من الشارتين.
الطلب لا يتوقف.” وهذه رسالة قوية لمن يشكك.
“بالتأكيد هناك من سيتزعزع إيمانه.”
فليس كل أبناء الإمبراطورية يكرهون الشارتين. بعضهم يتبع التيار فقط لأن الجميع يفعل.
فما رأيهم إن رأوا هذا الإقبال على المنتج؟ ألا يعيدون النظر؟ ربما يشترونه بأنفسهم.
جوديث كانت تلعب على هذا الوتر النفسي.
لكنها اضطرت لشراء المسامير لأن المتجر لم يكن يحتوي عليها.
“عليك أن تثبتها بإحكام، حتى لا تنفتح الصناديق عند اهتزاز السفينة، إيرن.”
“أتشكين في قدرتي على أداء هذا العمل البسيط؟”
عبس إيرن وكأن كرامته جُرحت، لكنه ما لبث أن ابتسم وهو يرى جوديث تبتسم بلطف أمام الصناديق المتراصة.
ابتسم بخفة، ثم التقط المطرقة مجددًا.
بيع العطر أمر جيد، بل أفضل من بقائه راكدًا بلا فائدة.
أقنع نفسه أن شعوره الطيب بسبب العائد المالي، لكنه كان يعلم الحقيقة…
مزاج جوديث صار مزاجه أيضًا.
“ناولني مسمارًا آخر.”
“ها هو.”
وبينما كان إيرن يُتم تثبيت المسامير، وصل وفد لوبري لاستلام البضاعة.
وتجمّع الناس كالمعتاد، تراقبهم العيون.
وكان من بين تلك العيون… نظرة خبيثة.
—
“فمي تمزق من شدة الغيظ.”
تدفقت نية القتل من عينيه وهو يحدق في جوديث التي كانت تبتسم بابتسامة رضا.
“كيف يمكن أن تكون مصائر من يحملون الشخصية ذاتها متناقضة إلى هذا الحد؟”
أليست هذه مهزلة؟ أحدهم يعيش مختبئًا، والآخر يحيا بسعادة دون خوف.
جوديث هارينغتون… لم يعرف الكثير عنها، لكنه كان واثقًا أنها تعيق تحركاته منذ أن تلبّسه هذا الجسد.
كان يتمنى إزاحتها بنفسه، لكن العقبات كثيرة.
فإيرن راينلاند لا يفارقها، وإن غاب، بقي هنري بجوارها.
أراد أن يتنكر ويتسلل إلى قصر راينلاند، لكن تيا هناك…
وهي التي نشأت معه منذ الصغر، لن يصعب عليها كشف أمره، حتى لو غيّر مظهره.
“تلك اللعنة… لا، لا.”
خطرت له لعنة مناسبة، لكنه هز رأسه بقوة. اللعنات ليست الحل الوحيد.
—
في الصباح الباكر، ملأ صوت هنري المتفائل أرجاء متجر العطور.
لأن جرائم القتل باتت مرعبة جدًا، خرج هنري باكرًا قبل رايان وتفقّد المتجر بنفسه.
ماذا لو اقتحم أحدهم المتجر ليلًا؟ رغم أن هذا لم يحدث من قبل.
“جميل أن ترى المتجر خاليًا من البضائع.”
فقد تم تسليم كامل المخزون إلى مجلس لوبري، ولم تعد الأدراج والرفوف تعج بالشموع المعطّرة.
ابتسم هنري وهو يفتح النافذة، سعيدًا بالفراغ الجديد.
“التهوية ممتازة مع هذا التيار.”
أغلق باب المتجر الأمامي وأسرع إلى الباب الخلفي.
“ما هذا؟ لماذا لا يُفتح؟
كأن شيئًا يعيقه من الخارج.”
دفع الباب بكتفه بقوة، حتى انفتح نصفه، فشهق وسقط على مؤخرته من هول المفاجأة.
تجمّدت عيناه على المشهد أمامه…
أمام الباب، كانت الدماء تنزف وتنساب، وفوقها… يدان بيضاوان.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ154
جروح عديدة في البطن والصدر، علامات غريبة على الوجه تشبه آثار عصي، ولا أي أثر للمقاومة.
كانت الجثة التي عُثر عليها خلف محل العطور تعود إلى ضحية أخرى من ضحايا القاتل المتسلسل المعروف باسم “القاضي”.
لم يكن وقوع جريمة قتل أخرى أمرًا مفاجئًا بحد ذاته، نظرًا لتكرارها في الآونة الأخيرة، لكن وقوعها في متجر “شموع جوديث”، وكون الضحية هو ليون هارينغتون، جعل الصدمة مضاعفة بالنسبة إلى هنري.
رغم وجهه الشاحب ويديه المرتجفتين، شرع هنري سريعًا في اتخاذ الإجراءات، شاعرًا أن عمله السابق مع الشرطة لم يذهب سدى.
كان هنري أول من اكتشف الجثة، فبادر بإبلاغ الشرطة على الفور، ثم نقل الجثة إلى غرفة التشريح.
وبعد ذلك فقط أخبر جوديث بمقتل شقيقها ليون.
رغم الخلاف بينهما، أليس من المفترض أنهما ما زالا شقيقين؟
جوديث، التي عُرفت بشجاعتها الخارقة وعدم اكتراثها بأي شيء، لم يكن من المتوقع أن تتأثر بسهولة، لكن من المؤكد أن رؤية شقيقها مقتولًا بهذا الشكل الوحشي لم يكن أمرًا سهلاً.
لذا تولّى كاين مهمة إخبارها بتفاصيل ما حدث.
“إنه من فعل القاضي.”
“وهل تنادون ذلك المجنون بلقبٍ مبهر بهذا الشكل؟”
قال إيرن وهو يجلس بجانب جوديث وملامح الاشمئزاز تعلو وجهه.
فردّ كاين وهو يبدو محرجًا:
“هذا ما اعتاد الجنود على مناداته به، لأغراض التواصل فقط.”
أطلق إيرن تنهيدة حادة وهو يستهجن هذا العذر السخيف.
“هذا ليس المهم الآن.”
تجنّب كاين نظرات إيرن المحرجة ووجّه نظره إلى جوديث، التي بدا عليها الهدوء، رغم فظاعة الجريمة.
لماذا خلف متجرنا…؟
كنت أظن أنهم يحاولون تحسين صورتهم أخيرًا، لكن الآن يظهر قاتل متسلسل ليزيد الطين بلة.
كتمت جوديث تنهيدة مريرة.
حتى لو تُرك ليون لمصيره، لكان عاجلًا أو آجلًا سيقع فريسة لـ”الخنفساء الذهبية” وسينتقل إلى العالم الآخر.
ورغم ذلك، كان بإمكانه أن يعيش حياة مزدهرة داخل الكازينو حتى نهايته، لذا كانت تراه نهاية سعيدة بطريقتها الخاصة.
بالنظر إلى ما اقترفه من عنف وسرقة ضد جوديث الأصلية، فإن الموت على يد القاضي كان عقوبة لا بأس بها.
ومع ذلك، أن يُقتل على يد قاتل متسلسل؟
قال كاين:
“لا شهود حتى الآن، ونحن نتحقق من تحركات ليون الأخيرة.
وبحسب موظفي الفندق الذي كان يقيم فيه، لم يزره أحد باستثناء موظفي الكازينو.”
وعندما سألوا موظفي الكازينو، قالوا إن ليون ربح مبلغًا ضخمًا من المال، ثم خرج إلى دورة المياه ولم يعد بعدها.
“رجل كان يقامر ثم اختفى، ولم تفكروا حتى في البحث عنه؟”
رد كاين:
“قال إنه ذاهب للحمام.
لكنه… يفضل التبول في العراء.”
توقف كاين عن الكلام، بينما تمتم إيرن بعدة عبارات متأففة، وشعرت جوديث بالإحراج رغم أنها لم تكن المعنية.
“لم يكن مدينًا بأي شيء للكازينو، وكان يأتي يوميًا بلا انقطاع، لذا لم يشعروا بالحاجة للبحث عنه.”
تلك الليلة، قُتل ليون هارينغتون على يد القاتل المتسلسل.
“لكن لماذا قتله؟ ذلك القاتل لا يقتل إلا الأشرار عادة، ولهذا لُقّب بالقاضي، رسول الظلام، وما إلى ذلك.”
قال إيرن:
“أليس ليون شخصًا سيئًا أيضًا؟”
“هو سيء، لكنه سيء لي فقط.”
بالمقارنة مع جرائم مثل الابتزاز، الاتجار بالبشر، وتدمير حياة الآخرين، فإن ما فعله ليون كان مقصورًا على جوديث فقط.
هل يتدخل القاضي في أمور مثل العنف الأسري؟ وكيف له أن يعرف؟
“حتى وإن كنتِ تنظرين إليّ بتلك النظرات الفضولية، ليس لديّ الكثير لأقوله.”
تنهد كاين وهو يمسح وجهه.
“لم نجد أي علامات مقاومة، وكانت الإصابات كثيرة، لدرجة أننا ظننا أولًا أنها جريمة بدافع الانتقام الشخصي، لكن لم نجد أي صلة بين الضحايا.
لم يكن بينهم أي شخص مشترك.”
أخرج كاين ملفًا من كومة الأوراق على المكتب، وبسطه أمام جوديث وإيرن.
“هذا هو تقرير تشريح ليون هارينغتون. لم يُستكمل التشريح بعد، لكنني اعتقدت أن السيدة قد ترغب في الاطلاع عليه، لذا أعددت تقريرًا أوليًا.”
“شكرًا لك، ماركيز.”
تأملت جوديث في التقرير.
كان مطابقًا لما وصفه كاين: لا طعنات، لا مقاومة، وعلامة مرسومة بعصا على الوجه.
يبدو وكأنها غصن شجرة.
سمعت من قبل أوصافًا مماثلة، لكن هذه المرة كانت ترى الشكل بوضوح لأول مرة.
“هل هذا وشم على وجه ليون؟”
“نعم، هذا صحيح.”
أمالت جوديث رأسها متأملة الشكل المألوف.
“هل رسم الجاني نفس الوشم على باقي الضحايا؟”
“لا، لكنه رسم أشكالًا مشابهة.”
عرض كاين تقارير التشريح واحدة تلو الأخرى:
كان هناك خط أفقي على وجه ماستورا، ورمز يشبه “ㅗ” على وجه النبيل من الطبقة الدنيا، ورمز “上” على وجه صاحب الحانة.
“نظن أنها رموز لأغصان شجر.”
“هل هذا إعلانٌ بأنه سيستمر في القتل حتى يُكوّن شجرة كاملة؟”
قال إيرن وهو يقلّب الأوراق، فأومأ كاين وقال إنه فكر في نفس الشيء.
غصن؟ لا، هذا ليس غصن.
للوهلة الأولى، قد تبدو كأنها فروع لشجرة، لكن…
“فخامتك، هل يمكنني استعارة قلمك؟”
أخذت جوديث القلم من كاين، ورسمت الرموز حسب الترتيب: 一، ㅗ، 上، وخط عمودي على يسار الرمز الأخير.
ثم أضافت خطًا أفقيًا فوقها لربط الرموز جميعًا.
الخط المستقيم…
正
حرف صيني يُستخدم في العد حتى الرقم خمسة.
سقط القلم من يدها وكأنها تلقت ضربة على مؤخرة رأسها.
“ما الأمر؟ هل أنتِ بخير؟”
“وجهكِ شاحب، سيدتي.
اشربي بعض الماء، رجاءً.”
دوّت أصوات كاين وإيرن في أذنيها.
بحسب ما تعرفه جوديث، لم يكن هناك في هذا العالم سوى شخص واحد يمكنه استخدام الحروف الصينية لعدّ الأرقام.
شخص متلبّس، قادم من نفس العالم الذي جاءت منه.
الكاهن…
وذاك الرجل.
“…آه…”
وفور أن أدركت ذلك، اجتاحها صداع هائل، كأن ذهنها يتمزق.
وتدفقت الذكريات المنسية دفعة واحدة.
الآن فقط، عرفت من كان الشخص الذي مات معها.
ولماذا كان عليه أن يتلبّس هذا العالم.
ولماذا كان يحقد بشدة على الآخرين من المتلبّسين.
ترنّحت جوديث وسقطت، وفقدت الوعي بينما كانت تسمع صوت إيرن يناديها بقلق.
ثم، رأت جوديث حلمًا.
رأت لافتة بيضاء ترتفع في السماء.
مغسلة يوجين – لغسيل النقود المعدنية.
لافتة ضخمة تحمل اسمها…
تمامًا كما كانت في حياتها السابقة.
—
“هممم…”
كانت صدمة استعادة الذكريات المنسية قاسية. فقدت وعيي نصف يوم، ولم أفتح عيني إلا بالكاد.
“هل عدتِ إلى وعيك؟”
“استيقظي، آنسة هارينغتون.
حتى وإن كنتِ مرهقة، عليكِ تناول الدواء.”
“نعم، اشربيه وارجعي للنوم.”
أفاقت حواسي بفعل الصوت العاجل، واليد التي تهزّني برفق، والرائحة المرّة التي دُفعت أمام أنفي.
ما إن تسرب السائل المر إلى فمي، حتى استعدت وعيي بالكامل.
“آه، مرير جدًا!”
كان الدواء مرًا إلى درجة أفقدتني التوازن.
“عليكِ أن تنهيه كاملًا.”
“الآنسة هارينغتون، إن كنتِ تثقين في الصيدلي الذي جلبه لكِ، فعليكِ أن تشربيه كله.”
قاومت، لكن مقاومتي كانت ضعيفة، بينما كان إيرن وبييتشي أكثر إصرارًا.
لم أنجُ من تلك النكهة الكريهة إلا بعد أن أفرغت الوعاء.
“مرارة لا تصدّق.”
تمتمت، فقال إيرن كمن يحدّث نفسه:
“لكنها ليست بقدر مفاجأتك لنا عندما فقدتِ وعيك فجأة.”
ربما كان عليّ ألا أتناول الدواء؟ أشعر أن قلبي توقف للحظة.
تنهد إيرن وهو يرمي بالحطب داخل الموقد.
“ليس وكأنني أردت أن أنهار.
الأمر خرج عن إرادتي.”
أجبت وأنا أعبس.
“لقد استعدت ذكرى…
من اللحظة التي سبقت موتي.”
وضعت كأس الماء جانبًا بعد أن حاولت التخلص من طعم الدواء.
“وأعتقد أنني عرفت من هو الكاهن.”
“هل كنتِ تعرفينه في حياتك السابقة؟”
جلس إيرن إلى جوار السرير، فقلت:
“ما كان ينبغي أن نعرف بعضنا من الأساس.”
—
حين كنتُ “يوجين”، وبعد وفاة والديّ، تخلّيت عن إرثي وسدّدت كل الديون المسجلة باسمي.
استثمرت الفرصة لفتح مغسلة عملات معدنية في حي يسكنه طلبة وموظفون.
ورغم أنها كانت مشروعًا جانبيًا، فقد ازدهر العمل وتمكنت من استرجاع تكلفة المشروع خلال عام.
وفي أحد الأيام، حين بدأ المشروع يدرّ دخلًا حقيقيًا، عدتُ من عمل إضافي ثم سهرة مع الزملاء، ومررتُ بالمغسلة لتنظيفها.
كانت الليلة متأخرة، والعميل الوحيد في المغسلة كان يخرج ملابسه من المجفف ويرتديها.
عبست عندما أدركت ما كان يحدث.
رغم وجود لافتة تنبه على عدم خلع الملابس داخل المغسلة، لا يزال هناك أشخاص يفعلونها.
كان عليّ أن أنبهه.
فتحت باب المغسلة على عجل قبل أن يغادر الرجل.
“مرحبًا—”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ155
“مرحبًا.”
تقدّمت بخطاي نحو الرجل الذي كان يسحب سترة بغطاء رأس من النشّافة، ويرتديها بالمقلوب.
الرجل الذي غطّى رأسه بقبعة، رمقني بنظرة خاطفة.
أما الآخر، والذي يمتدّ ندبٌ طويل من ذقنه حتى شفتيه، فقد أغلق باب النشّافة بعنف، متجاهلًا تمامًا كلماتي.
“أليس من غير المسموح خلع الملابس وغسلها هنا؟ عذرًا.”
لكنه مرّ من جانبي بصمت تام، دون أن يُكلّف نفسه عناء الرد.
شعرت سمي بالضيق، فنظرت إليه بحنق قبل أن تبدأ بترتيب الغسيل.
شعرت بانزعاج خفي بسبب تجاهله، لكن في بيئة العمل، عليكِ التعايش مع جميع أنواع الزبائن.
وحين بدأت بإقناع نفسي بالتفكير الإيجابي والمضي قدمًا، لفتت نظري بقعة حمراء داكنة على الغسالة، فانعقد حاجباي.
“ما هذا مجددًا؟”
الغسالة كانت قد استُخدمت لتوّها من قِبل ذلك الرجل.
“يا إلهي… مجددًا؟”
بقعة صغيرة على السطح الأبيض للغسالة جعلت المكان يبدو متسخًا بأكمله.
فأحضرت منديلاً مبللًا ومسحتها.
“ما الذي أفكّر فيه؟”
ذلك اللون الأحمر اللزج أعاد إلى ذهني مشهدًا مألوفًا… بدا كأنه دم.
لكن، هل يُعقل أن يكون دمًا فعلاً؟
مسحتها دون تفكير طويل، لكن شعورًا بالريبة بدأ يتسلل إليّ، فأحضرت سائل تنظيف “لوكس” ومسحت الغسالة بقوة أكبر.
وفي اليوم التالي، ظهر تقرير إخباري يُفيد بوقوع جريمة قتل في المنطقة، ويُشتبه في تورّط قاتل متسلسل.
“تشابه؟ لا، هذا جنون…”
الوصف الذي بثّته الأخبار كان مشابهًا على نحو مريب لذلك الرجل الذي زار مغسلتي البارحة.
والأسوأ أن المغسلة تقع على الطريق المحتمل لهروبه.
أصابني قلق متزايد، فمضيت أُقلّب مقالات الإنترنت بحثًا عن أي تفاصيل عن جرائم القتل المتسلسلة.
هل يُعقل أن يكون ذلك الرجل قاتلًا؟
هل يجب عليّ إبلاغ الشرطة؟
لكن البقعة التي ظننتها دمًا كانت قد اختفت تمامًا بعد استخدام المبيّض، وكاميرات المراقبة لم تكن حقيقية، باستثناء واحدة مثبتة فوق الباب.
تنهّدت بمرارة.
حين افتتحت المغسلة، وفّرت المال بوضع كاميرات وهمية، عدا واحدة فقط تُظهر المغسلة من زاوية عليا، ولا تُظهر وجوه الزبائن.
كنت أظن أن إدارة مغسلة لا تتجاوز وضع النقود والملابس في الغسالة.
تردّدت كثيرًا حول تقديم اللقطات للشرطة.
لكن، ماذا لو لم يكن هو القاتل؟ قد تبدأ الشرطة بالتردد على المغسلة، وتنتشر شائعات مزعجة.
من سيرغب باستخدام مغسلة يُقال إن قاتلًا متسلسلًا مرّ بها؟
وماذا لو اكتشفوا أن معظم الكاميرات كانت وهمية؟
ومع مرور الأيام، تزايد قلقي…
إلى أن وقعت جريمة جديدة.
الضحية هذه المرة كان كاتبًا مشهورًا بروايته
“كما في السماء، كذلك في الأرض”.
كنت قد قرأت تلك الرواية سابقًا، بفضل قسيمة أهداني إياها زميل في العمل شفقةً على حياتي الخالية من الأدب.
لم أكن أعرفه شخصيًّا، لكن موته أشعرني وكأنني فقدت شخصًا قريبًا.
“شعور خانق فعلًا…”
بدأت أحس بتأنيب ضمير شديد لأني لم أبلّغ عن ذلك الرجل.
فقادني ذلك إلى منزل الكاتب.
في حيٍّ سكنيٍّ قريب من مغسلتي، كانت الشرطة قد أغلقت منزل الضحية بشريط أصفر، وكانت إحدى القنوات تُصوّر تقريرًا عن الجريمة.
وأثناء مراقبتي من بعيد، رأيت الرجل مجددًا… صاحب الندبة الطويلة، واقفًا خلف طاقم التصوير.
“ما رأيكم؟”
“يا للسماء، أليس هذا مرعبًا؟ قلت إنه لا وجود للشيطان…”
أمسك طاقم التصوير بأحد الجيران لإجراء مقابلة، وما إن وصف ذلك الجار الرجل بـ”الشيطان”، حتى ارتسمت على وجهه ابتسامة.
ابتسامة مشرقة… غريبة جدًا، ومقلقة.
“…”
اجتاحتني قشعريرة من رأسي حتى أخمص قدمي. لماذا تبادر إلى ذهني فجأة المثل:
“المجرم يعود دومًا إلى مسرح الجريمة”؟
بدافع من حدس لا يُفسَّر، تبعته.
دخل إلى سكن ضيق من نوع “قوشيوون”، فالتقطت له صورة بهاتفي.
“سأبلغ عنه، مهما كلف الأمر.”
لم أكن واثقة تمامًا من كونه الجاني، ولم أكن متأكدة إن كانت لقطات الكاميرا ستُجدي، لكنني قررت جمع كل الأدلة وتقديمها.
إن كان في ذلك منع لوقوع ضحايا آخرين، فالأمر يستحق المحاولة.
عدت إلى المغسلة وراجعت تسجيل الكاميرا. وبعد أن نسخت المقطع على وحدة USB، حلّ المساء.
وبينما كنت في طريقي إلى مركز الشرطة، رنّ هاتفي.
رقم مجهول…
لكنني أجبته على الفور، فقد اعتدت على اتصالات الزبائن.
“مرحبًا؟”
“هل أنتِ صاحبة مغسلة يوجين؟”
“نعم؟”
“لمَ كنتِ تتبعينني؟”
توقفت خطواتي فجأة.
“ظننت أنك مهتمة بي، لذا كنتِ تلاحقينني.”
صوته…
بدا وكأنه يصدر من خلفي، لا من الهاتف. التفتّ ببطء.
“لم تطلبي رقمي، بل التقطتِ لي صورة.
ما السبب؟”
كان واقفًا خلفي…
الرجل ذو الندبة، بابتسامة قاتلة.
“…!”
ركضت دون تفكير. أعدّ خطواتي…
خمس عشرة، ست عشرة…
حتى الثامنة عشرة.
كان يطاردني وكأنه عازم على قتلي.
رغم مهارتي في الجري، لم أكن ندًّا له.
“إلى أين تفرّين…”
وفي اللحظة التي أمسك فيها بسترتي، أضاءت أنوار سيارة قادمة، وتعالى صوت الفرامل.
في غمضة عين، شعرت بجسدي يُقذف في الهواء، ثم اصطدم بالأرض الباردة.
وفيما خرج أنفاسي الأخيرة، أدركت أنني هرعت إلى الطريق دون تفكير.
لكن الأوان كان قد فات، وأغمضت عينَي.
وحين فتحتُهما، وجدت نفسي مستلقية على سرير في معبد قديم، ذلك الذي عقدت فيه قراني على إيرن.
—
“يبدو أنك كنتِ تجمعين المال في حياتك السابقة أيضًا.”
حتى بعد الموت والعودة، الطبع لا يتغيّر.
“…أهذا كل ما ستقوله عن قصتي؟”
رغم أنني أخبرته بكل شيء، بما في ذلك أن الكاتب كان جزءًا من الرواية، شدّدت على أن الكاهن هو القاتل المتسلسل.
وكل ما قاله كان تعليقًا سطحيًا؟
“أوه، لم يعجبك هذا الرد؟ حسنًا، ما رأيك بهذا: كنتِ تقومين بأفعال بالغة الخطورة في حياتك السابقة.”
يبدو أن أكثر ما يقلق إيرن هو ذلك الجزء من حياتي.
“ذلك مضى، إيرن.”
“هل فعلًا مضى؟”
تجاهلت نظرته العميقة، وهو يضع يده على صدره الذي توقّف قلبه بسببي أكثر من مرة.
“ما يهم الآن، إيرن…”
“ما هو؟”
“أنا أعرف الكثير عن ذلك الرجل.”
كم مقالًا قرأت؟
لم يكن مشهورًا، لكنني بحثت عن اسمه آلاف المرات، واستعدت كل تفصيلة ذُكرت عنه.
“هذه المرة، سأمسكه.
وسينال جزاءه.”
قبضت على الغطاء بقوة كأني أشد شعره.
كانت علاقة ملعونة لا تنتهي.
تذكّرت، وسط هروبي ووفاتي، تجارتي التي ازدهرت ثم انهارت، مدخراتي، أقساطي البنكية، ولحم البقر الذي لم أتذوقه أبدًا.
وفي هذه الحياة أيضًا، ارتجفت أسناني خوفًا من تجارة البخور التي دمرها الكاهن، والعرافة التي فقدت قواها.
“انتظري… انظري إليّ، في عينيّ.”
أمسك إيرن وجهي كما يفعل قادة الطوائف.
التقت نظراتنا، فأشحت ببصري بسرعة.
ما الخطب؟ لماذا أشعر بالذنب؟
لم أفعل شيئًا حتى الآن!
“تلك النظرات…”
شدّ على وجنتيّ، ورفع رأسي مجددًا.
عيناه الخضراوان كانتا حادتين، تخترقان قلبي.
“نظراتك تقول إنكِ على وشك الإقدام على مخاطرة جديدة.”
“لا، ليس كذلك.”
“بل هو كذلك.”
لا؟ دارت عيناي وأنا أراجع أفكاري…
هل كنتُ أخطط لشيء مجنون؟ أعتقد…
ربما، قليلًا فقط.
يُقال إن الأشباح تملك أعينًا ثاقبة.
وعندما تجنّبت عينيه ثانية، قال بتحذيرٍ فيه نبرة غضب:
“جرّبي فقط أن تفعلي شيئًا متهورًا…”
كان إيرن قد قرر أن يُري جوديث هذا العالم لماذا لُقّب بـ”كلب الإمبراطورية المسعور” عندما يغضب حقًا.
إن كان السبيل الوحيد لجعلها تحمي نفسها دون المخاطرة بحياتها هو إخافتها، فليكن.
“لن أفعل، لن أفعل.”
أبعدت يده عن خدي، وكررت أنني لن أُقدم على شيء خطير.
قلتها فقط…
لم أعد بشيء.
والحقيقة؟
أنني فعلت شيئًا متهورًا مجددًا.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ156
عُلّقت ملصقات جديدة في الساحة العامة، كان أحدها موضوعًا فوق ملصق المطلوبين الذي يعرض صورة الكاهن، ويحمل معلومات عن قاتل متسلسل يُثير الرعب مؤخرًا في العاصمة.
بدأ وصف القاتل المتسلسل بكلمة واحدة فقط: “قزم”.
“قِزَم، مظهره فتيّ.
لا تدع حجمه الضئيل أو ملامحه الساذجة تخدعك.”
كانت العبارة غامضة، لا يُعلم إن كانت معلومات تعريفية أم تحذيرًا مبطنًا، لكنها حملت في طياتها سخرية خفيّة.
لم يكن شيطانًا ولا رسول ظلمات كما يظن البعض، بل بدا شخصًا ضعيفًا يسهل التغلب عليه، ولهذا وُصف بذلك الشكل تحديدًا.
“ماستورا… لطالما تساءلت كيف هُزم ذلك المحارب الجبار بهذه البساطة.
لكن يبدو أنه خفّض حذره، فوقع فريسة سهلة.”
“لو ظهر أمامك مخلوق صغير يُحدث ضجة في وجه عملاق، فمن الطبيعي أن تظنه غير مهدد وتسقط حذرك.”
هزّ الناس رؤوسهم تأييدًا بعد قراءتهم للملصق، وكأن اللغز قد انكشف فجأة، وفُسّر السبب في سقوط الضحايا الواحد تلو الآخر بسهولة لافتة.
قاضٍ قصير، قزم، بسيط.
لقب بدا خارج السياق تمامًا.
من ذا الذي سيشعر بالرعب من “قاضٍ صغير” بعد الآن؟
ورغم أن هذه الملصقات أثارت انتباه الناس، فإنها لم تكن مؤهلة لتكون مادة خبرية.
فقد اتّسمت بوصف غامض ساخر، دون أي تفاصيل دقيقة كأماكن الجرائم أو لون شعر القاتل أو عينيه.
وهذا يعني أن الملصق لم يُكتب للعامة، بل كان رسالة خاصة موجّهة مني إلى الكاهن.
“الملصقات انتشرت كما توقعتِ يا سيدتي…
لكن، هل تعتقدين حقًا أنها ستنجح في استفزاز الكاهن؟”
سألني هنري، بينما كان يتأمل ملصقًا معلّقًا بجوار محل شموع عطرية، وأنا أتفقّد المكان بعينيّ.
“أعتقد ذلك، سير هنري…
فقط تخيّل أن أحدًا ما سخر منك علنًا بهذا الشكل.”
“هممم، في هذه الحالة، سأشعر بشيء من الغيظ.”
أقصى ما قد يشعر به هنري هو الانزعاج.
لكنه ليس الكاهن.
لقد حفِظت تحليل الخبير النفسي له عن ظهر قلب.
“الكهنة من نوعه يملكون نزعة استعراضية… ولهذا كان يوشم وجوه ضحاياه.
كان يريد للجميع أن يعرف أنه هو الفاعل.”
لأنه ببساطة لا يحتمل أن يُنسب فعله لغيره.
“لكن، لمَ قد يفعل شيئًا كهذا؟ لو اتُّهِم شخص آخر بالجريمة، لخرج منها سالمًا.”
“لكنه حينها سيسمح لغيره بحصد المجد والثناء.”
الشيطان، رسول الظلام، القاضي، الجلّاد…
كلها ألقاب ثقيلة، لا تُمنح لأي مجرم عابر.
“الكاهن لا يتحمّل فكرة أن يكون لا شيء.”
أحد المختصين، في مقطع مصور شاهدته في حياتي السابقة، قال إن هذا النوع من القتل المتسلسل الصاخب ينشأ من صراع داخلي بين تضخّم الذات وإحساس عميق بالنقص.
ولهذا، كان الكاهن يلهث خلف النبل منذ وطأت قدمه هذا العالم.
لم يكن قادرًا على تقبّل كونه منبوذًا ينتمي إلى عِرق مُحتقر.
“أليس هذا مدعاة للخزي؟”
“الشهرة السيئة… ما زالت شهرة.”
قال الخبير إن هذا النوع من الأشخاص يتلذّذ بالألقاب التي تثير الرهبة، مثل “الشيطان”، و”أخطر قاتل متسلسل”، و”جاك السفاح الثاني”.
بين الرعب والتمجيد شعرة واحدة، وهو يحب أن يسير فوقها.
ولهذا، عارضت نشر أي تقرير يلمّح إلى أنه مجرم عبقري.
لكن وسائل الإعلام لم تراعِ ذلك، وبدأت تمنحه الألقاب التي قد تحفر اسمه في صفحات التاريخ.
ومع عجز الشرطة عن الإمساك به، تضاعف الهلع بين الناس…
ولا شك أنه كان يتغذى على هذا الرعب، متفاخرًا في الخفاء.
“ربما لا يزال كذلك حتى هذه اللحظة…”
لم أره بعد، لكن مجرد فكرة ظهوره تُثير اشمئزازي.
“وبمناسبة الحديث عن المجرمين…”
في الماضي، ارتكب شادين عدة جرائم قتل، مما جعله يعتقد أنه كان شيئًا مختلفًا في حياته السابقة.
ثم، في مرحلةٍ ما، بدأ يختار ضحاياه من المجرمين فقط، وكأنه يمارس دور القاضي عليهم، مدفوعًا بغروره الأجوف.
حتى لو وُصف مجازًا بأنه مجرم، فقد كان يقتل مجرد متشرد يزعج المارة، أو صاحب عقار مغالٍ، أو عاشقَين لا علاقة له بهما.
“يبدو أن المؤلف قُتل لأنه كتب روايات إباحية.”
ذلك ما استنتجه المحللون كسبب محتمل لموته.
“وإذا كان الكاهن قد استشاط غضبًا تجاه الكاتب، فماذا عني؟
لمجرد أنني ثبّت كاميرا مراقبة مزيفة؟”
لا يوجد من أستطيع سؤاله فعليًا.
حككت رأسي.
يبدو أن شهرة شادين في هذا العالم تفوق ما كان عليه في حياتي السابقة.
“لا بد أنه يتلذّذ بإحساس كونه رسول الظلام.
لكن، ماذا لو أفسدت عليه هذا الشعور فجأة؟”
“سيجنّ جنونه، بلا شك.”
“هل سيحاول قتل من كتب هذا الملصق؟”
لكن، إن كان الكاتب بعيد المنال، فقد يستخدم شادين اللعنة كخيار أخير.
“أعتقد ذلك.”
أومأ هنري مؤكدًا.
“لكن، أليس من المضحك يا سيدتي أن من كتب هذا الملصق سيتلقى توبيخًا من إيرن أكثر من الكاهن نفسه؟”
“…للأسف، كلامك في محله، سير هنري.”
التفتّ نحو إيرن، الذي لم يكن يقترب ولا يبتعد، بل ظل واقفًا في متناول يدي.
كان غاضبًا للغاية.
استشعرت ذلك في كل ذرة من جسده. والسبب، جملة في أسفل الملصق:
“تم منح مكافأة ليانغ يوجين من مغسلة يوجين على تقديمه معلومات عن الجاني.”
قد تبدو جملة عادية لعامة الناس، لكنها في الواقع لم تكن إلا رسالة مباشرة موجهة من يوجين إلى الكاهن.
إعلان حرب صريح، وتحذير لا لبس فيه.
لقد تذكّرت كل شيء… فلنبدأ المواجهة.
“يبدو أن الكاهن يظن أن الكاتب يخاطبه شخصيًا، فليُظهر إذًا عدوه الحقيقي.”
عندما اقتحم إيرن مخبأ أتباع الطائفة ذات مرة، ظن الكاهن أنه شخص متلبّس، وترك له رسالة.
وكانت تلك الرسالة تحتوي على جملة واحدة: “كما في حياتك السابقة، كذلك في هذه الحياة.”
لو كان هدفه التلميح إلى أنه هو المتلبّس، فلمَ لم يذكر عنوانه القديم بصراحة؟
الآن بعد أن استعادت ذاكرتي، فهمت مغزى الرسالة.
الكاهن اعتقد أنني تلبّست شخصية الكاتب.
فهو قتل الكاتب سابقًا، وها نحن الآن داخل عمله الروائي.
وبما أن شادين الذي يسكنه الكاهن متهم بالخيانة، فقد ظن أن المؤلف استدعاه لهذا العالم لينتقم منه.
وبالتالي، فإن الجملة التالية بعد
“كما في حياتك السابقة، كذلك في هذه الحياة” ستكون: “سأقتلك.”
“لكنني أكرر للمرة الأخيرة: أنا لست المؤلف.”
ذاكرتي عادت إليّ بعد محفّز معين.
وإذا كان الكاهن قد فقد ذاكرته بدوره، فربما استعادها باستخدام اسمه الحقيقي كمفتاح.
وهذا بالضبط ما كنت أهدف إليه.
شادين سيحاول تحميل مسؤولية موته في الماضي عليّ.
“لكن قتلي لن يكون سهلًا.
فهناك إيرن، وهنري، وبقية الشارتين.”
سيكون من الصعب عليه مواجهتي جسديًا، لذا سيلجأ إلى وسائل أخرى، كالعزلة أو اللعنات.
وكان هذا بالضبط ما أردته…
وهنا بلغ غضب إيرن ذروته.
كنت قد وعدته بألا أُقدم على أي تصرف متهور، لكنني نقضت وعدي.
“هل نذهب الآن، إيرن؟”
سألته بنبرة هادئة، وتقدّمت منه خطوة.
لكنه ابتعد بنفس القدر، خطوة واحدة.
“…؟”
ياللطفولية!
قطّبت حاجبي، فاقترب مني هنري وهمس لي أن عليّ تهدئته، فقررت التحلي ببعض الصبر، فأنا من أخطأ.
“لو واصلتِ هذا، فسأفرّ إلى مكان بعيد!”
أمال هنري رأسه بدهشة.
هل هذه محاولة جديدة لفعل شيء طائش يا سيدتي؟
“جربي الهروب فقط…
آسف، لكن لأكون صريحًا: حين تركض الآنسة هارينغتون ثلاث خطوات، فأنا أحتاج إلى خطوة واحدة فقط للحاق بها.”
“لن تكون ثلاث خطوات فقط، أليس كذلك؟”
“إذًا أربع؟”
“أعتقد أنها خطوة ونصف.”
أنتم أطفال حقيقيون، أليس كذلك؟
لا أظن أن كايا وفاديم يتشاجران هكذا.
هزّ هنري رأسه وهو يشاهد مشهد جوديث تقترب، وإيرن يبتعد تدريجيًا.
نعم،
شجارات العشاق غالبًا ما تكون طفولية…
لكن،
هل أنا الوحيدة التي بدأت تشعر بالضيق؟
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ157
كانت الخطة التي وُضعت لإجبار الكاهن على استخدام السحر محكمة عمومًا…
إلى حدٍ ما.
لكن، كيف يمكن دفع شخص ما إلى إلقاء تعويذة على نفسه، دون أن يدرك ماهيتها حتى؟
“يجب إصلاح هذه العادة الخطيرة…
عادة الإقدام على تصرفات متهورة دون تفكير.”
كان إيرن يرغب في حماية جوديث.
تدريبه المتواصل بلا انقطاع حتى ليوم واحد، بدا وكأنه كان مكرّسًا لها وحدها.
ومع ذلك، كانت جوديث تواصل الهروب إلى أماكن لا يستطيع إيرن حمايتها فيها.
دائمًا… تفعلها فجأة، دون سابق إنذار.
حتى الآن، كانت محظوظة، ولم تتعرض لخطر حقيقي.
لكن لم يكن إيرن متيقنًا من أن الحظ سيبقى إلى جانبها في المستقبل.
كان يعلم بالطبع لماذا بذلت جوديث جهدها لكتابة اسمها على الجدار.
“لو أن ذلك الوغد لم يقتل السكرتير…”
بعد استعادة جوديث لذاكرتها إثر وفاة ليون هارينغتون، خططت لملصق يسخر من الكاهن. لكن تصميمه وتنفيذه تطلبا موافقة كاين ودعمه.
ولأنها لم تكن قادرة على إخباره بحقيقتها، أمضت عدة أيام تحاول إيجاد ذريعة تقنعه بها.
وحين أخيرًا وجدت حجة مناسبة…
قُتل سكرتير فينتشيرو.
قُتل بنفس الأسلوب الذي قُتل به باقي الضحايا. غير أن ما أثار الرعب هو الورقة التي كان يمسك بها في يده:
كانت إحدى رسوماته البسيطة…
صورة لرجل يشبه إيرن إلى حد التطابق.
وأن توضع تلك الرسمة في يد السكرتير الميت… لم يكن يحمل سوى معنى واحد:
“من الآن فصاعدًا، سأقتل كل من له علاقة بجوديث.”
حين بلغها نبأ مقتله، كانت جوديث تقف في غرفة مهجورة.
وضعت يدها على جبينها وقالت:
“اخترت مذنبًا من المحيطين بي.”
“وما جريمته؟”
“نشر الفاحشة، وتدمير الأخلاق المجتمعية.”
أصيب إيرن بالذهول.
ما هذا النوع من الخطايا التي تستدعي القتل؟
“يرى أن القتل عقوبة مستحقة، ويحدد ضحاياه وفق معايير…
لكنها ليست سوى أهوائه، بلا منطق.”
بدت جوديث وكأنها تُجلد ذاتها، إذ قالت كلمات لم يعهدها منها من قبل:
“علّقها على أنفك تصبح أنفًا، وعلّقها على أذنك تصبح قرطًا.”
كان لومًا للذات، رغم أنها لم تكن مذنبة.
مشاعرها تلك لم تكن كالتي أظهرتها عند موت ليون.
كان على إيرن أن يعرف في تلك اللحظة أنها ستخالف وعدها مجددًا وتتهور…
رغم تحذيراته.
“لكن لا يمكنني أن أظل أُغض الطرف.”
علم إيرن أنه لو تكرّر تهورها، فسيُريها حقًا لماذا يُلقّب بـ”الكلب المسعور للإمبراطورية”.
“إيرن، إلى متى ستبقى هكذا؟”
لكنه، في الحقيقة، لم يكن كلبًا مسعورًا…
بل مجرد جرو مدلل.
كان يغضب من تصرفاتها، لكنه يقلق إن ابتعدت، ويذوب غضبه إن اقتربت.
وفي النهاية، وقف صامتًا إلى جوارها، عاجزًا عن فعل شيء سوى التحديق في وجهها الجامد.
“إيرن، ألا يجدر بك التوقف عن الغضب؟ أنت تتصرف ككلب يفتقر إلى اهتمام صاحبه.”
“أعلم أنك عنيد، لكن هل هذه طريقة تعامل بها زوجتك؟”
رأى كاين وهنري تعابير وجهه، فأمطراه بما بدا كأنه نصائح…
…لكنها في الحقيقة كانت إهانات مغلفة بالكلمات.
“بالمناسبة، هذه نصيحة من خبير في الحب. الرجل العنيد ليس محبوب لدى النساء.
ماذا؟ لا تريد أن تكون محبوبًا؟
تسك تسك، ما زلت بعيدًا عن الفهم.”
قال هنري وهو يلوّح بإصبعه:
“الوسامة لا تدوم… اللطافة هي الأساس.
إذا أصبحت لطيفًا، فقد انتهى أمرك.”
“انتهى؟”
“نعم، ستغوص حتى العمق، ولن تتمكن من الخروج.”
غادر هنري، تاركًا خلفه سيلًا من “النصائح” العقيمة، وهو يوصي إيرن بأن يُظهر لطفه أمام جوديث.
“هل ستأخذ كلامي بجدية الآن؟”
وقفت جوديث، مرتدية ثوبًا منزليًا، أمام إيرن الجالس على حافة السرير، وهي تحمل كأسين بيديها.
كان عرض إيرن لشرب النبيذ إشارة للمصالحة، لكنها عضّت شفتها.
يتذمّر رغم أن الكأس لا يزن شيئًا؟
لكنها تعرف… خلف ذلك التذمر يكمن اهتمامه بها.
إيرن أكثر من يهتم لأمرها.
ولهذا، حين تُنفّذ خطة متهورة كهذه، فالأجدر بها أن تُقنعه بهدوء.
لكن جوديث، التي لم تعتد القلق لأجل أحد، لم تكن تعرف كيف تطمئن من يقلق لأجلها.
حاولت الحديث بلين، لكن لم يخرج من فمها سوى:
“الأمر ليس خطيرًا.”
“أعتقد أن السير إيرن مصاب بجروح عاطفية.
وفي حالات كهذه، الحل هو التواصل الجسدي.”
“وهذا يُعد اعتذارًا؟”
“أحبة؟ أو زوجان؟ في كل الأحوال، لا حاجة للكلمات بين الآنسة هارينغتون وسير إيرن.”
تذكرت جوديث نصيحة سِيا، التي لم تستطع تحمّل التوتر بينهما.
هل هذا صحيح؟ وإن كان، فما نوع “التواصل الجسدي” المقصود؟ هل هو…
إلقائي فجأة على السرير؟!
“…؟”
كان إيرن يحمل كأسين، يراقب ملامح جوديث الجادة.
ظن أنها لا تزال غاضبة، لكن تعبير وجهها أوحى بأنها شاردة.
أراد معرفة ما تفكر فيه، لكن لم تسنح له الفرصة، إذ جلست فجأة على حجره.
ما هذا بحق الجحيم؟
تحوّل إلى كرسي بشري وسط ذهوله، ثم أحاطته جوديث بذراعيها لتوازن نفسها.
“ما الذي تفعلينه…؟”
بدا الأمر غريبًا للغاية، حتى أنه بقي صامتًا للحظات…
قبل أن ينفجر ضاحكًا، ضحكة صادقة.
رغم كل شيء…
كانت لطيفة بشكل غير متوقع.
أخذ أحد الكأسين من يدها مبتسمًا، ثم توقف فجأة.
مهلًا…
هل وصفت هذا باللطيف؟ جلوسها على حجر رجل محطم القلب؟ هل هذا لطيف؟
“إن بدوت لطيفًا، فقد انتهى أمري.”
رنّ صوت هنري في رأسه.
هل… انتهيت؟
نظر إلى جوديث وهي تصطدم بكأسها بكأسه، وتفرض عليه التحية… وأدرك الحقيقة.
لقد انتهى.
لقد وقع.
من البداية، لم يكن قادرًا على التصرف كـ”كلب مسعور” معها.
فهو… يحبها.
حبًا لا مهرب منه.
“هل انتهى غضبك الآن؟”
بينما كان يحتسي من كأسه، ظنت جوديث أن غضبه قد زال.
“مم…”
ردّ إيرن بإيماءة.
كان قد هدأ منذ وقت، لكنه كان يتساءل عما ستفعل بعد الآن من تصرفات لطيفة.
“أنا سعيدة لأن الأمور عادت كما كانت.”
متى قلت ذلك؟ قلت فقط: مم…
“والآن، اشرب الكأس كله احتفالًا بانتهاء غضبك.”
لكن جوديث لم تكن تنوي الاستسلام.
أمسكت بيده، ورفعت الكأس إلى شفتيه.
طن!
رغم أن التحية كانت من طرف واحد، إلا أن صوت الزجاج دوّى.
ثم شربت كأسها دفعة واحدة.
ومن استعجالها، انزلقت قطرات من النبيذ على ذقنها.
“اشربي ببطء.
من سرق منك الأدب واللباقة؟ “
نقر إيرن لسانه، وضع كأسه جانبًا، ثم مسح قطرات النبيذ من على شفتيها بأصبعه.
رفعت جوديث رأسها تلقائيًا، فالتقت نظراتهما، واقتربت أنفاهما من بعضهما.
“…تحرّكوا!”
“…بسرعة!”
ارتفعت الضوضاء من الخارج.
كان بإمكانهما تجاهلها…
لكن الطرق الذي تلاه أجبرهما على التوقف.
تنهد كلاهما، وكأن لعنة تلاحقهما تمنع أي لحظة تقارب من الاكتمال.
فتحت جوديث الباب وهي تتذمّر من هذا التوقيت:
“ما الأمر، تان؟”
“انكسرت!”
“انكسر؟ ماذا؟ علاقتي بإيرن؟”
“المرآة! المرآة!”
“ماذا؟ مستحيل!”
أسرعت جوديث لترى المرآة النحاسية المربوطة بخنجر شادين.
التي كانت دائمًا لامعة، بلا خدش واحد، تحوّلت إلى شظايا.
لقد استخدم الكاهن تعويذة.
“كمية السحر اللازمة لتحطيم المرآة…
كم كانت هائلة؟”
ارتعشت كتفا جوديث، إذ اختلط فيها الرعب من المصير المحتمل، مع الفرح بنجاح خطتها.
أرأيت؟ كنت أعلم أنها ستنجح.
عضّت شفتها، ونظراتها المتقدة اشتعلت بعزم لا يلين على كسر هذا القيد الملعون.
وفي الجهة الأخرى، كان شادين يتلوّى وهو ممسك بساقه اليسرى، عاجزًا حتى عن الصراخ.
“أوغ… أوغ… أوغ، أوغ…”
وفي اللحظة ذاتها، اهتزّت الجرة التي جُمعت فيها بقاياه، وبدأ الغبار الأبيض يتكاثف من جديد…
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ158
كان لديه مهمة.
تنقية هذا العالم من القذارة التي تلوثه، وتحقيق العدالة.
نيابةً عن أولئك الذين لا يرغبون في تلويث أيديهم بالنجاسة، كان هو من يغمس يديه في الوحل ويحكم على الأنجاس.
شادين، أو بالأحرى سونغ-جين، لم يساوره شكّ قط أن هذا هو الطريق الذي عليه أن يسلكه.
“أليس من المعيب أن تكسب المال من كتابة شيء كهذا؟”
خلع سونغ-جين إحدى الأوراق اللاصقة المنتشرة على المكتب، ونظر إلى المرأة التي بالكاد كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة.
كانت مستلقية على وجهها، تتحرك بتشنج كما لو كانت تحاول الهروب.
فاقترب منها سونغ-جين وجثا على ركبتيه إلى جانبها.
“ربما تفقدين الكثير من الدم، وربما تفقدين وعيك أيضًا، لكن ألا تعتقدين أنه فات أوان الهرب الآن؟”
في نظره، كانت النساء مجرد أدوات تسهم في تلويث المجتمع، ومع ذلك، لم يكن يتعامل معهن بوقاحة تامة.
فهنّ نفايات، لكنه لم يكن مثلهم.
“لا، ما الذي تفعلينه؟”
كان يظن أنها تحاول الزحف بعيدًا، لكنه ضحك بسخرية عندما رأى شكلًا هندسيًا بسيطًا يتكوّن تحت أصابعها الدامية.
هل ألهمك الموت لكتابة شيء جديد؟
أنتِ كاتبة فانتازيا، لكنك تموتين وأنت تكتبين رواية!
“نعم، تابعي السعي وراء أحلامك حتى الرمق الأخير.”
عادةً، لم يكن يمنح من يكتبون الروايات الدنسة فرصة لمواصلة الحلم حتى النهاية.
لكنه قرر أن يمنح هذه المرأة استثناءً.
فلا فرصة لها بالنجاة على أية حال، وما فعلته سيزيد من شهرتها فقط.
كانت روايتها مشهورة، لكن لم يكن أحد يعرف من هي الكاتبة.
ولكن بعد ما حدث اليوم، سيُكشف عن هويتها، وسيعلو نجم سونغ-جين أكثر فأكثر.
صحيح أن مواقع الإنترنت مزدحمة الآن بقصصه، لكن لجعل المحاكمة العاشرة القادمة أكثر درامية، كان لا بد من صدمة جديدة تهز المجتمع.
فبعد تلك المحاكمة العاشرة، كان سونغ-جين يخطط للتقاعد من هذه الحياة.
وستظل محاكمته لغزًا غامضًا، تُتداول حكاياته همسًا بين الناس.
لكن… مات سونغ-جين دون أن يحقق هدفه، ليستيقظ داخل رواية كتبتها تلك المرأة.
داخل جسد شادين، محشوةً فيه ذكرياته بالقوة، أدرك سونغ-جين الحقيقة.
أنماطها الهندسية التي كانت ترسمها أثناء احتضارها لم تكن عبثية… بل كانت دوائر سحرية تُستخدم في إطلاق التعاويذ.
وما أثار الدهشة أن تلك التعويذة لم تكن هجومية، بل تعويذة تعزز رابط المصير.
عادةً ما تُستخدم هذه التعويذة لمنع شخص قرر الفراق من المغادرة.
فكيف استخدمتها على نفسها؟
سونغ-جين، الذي تلبّس جسد شادين، ظل حائرًا حيال ذلك.
وعندما اكتشف لاحقًا أن هناك شخصًا آخر تم تلبّسه مثله، ظن أن الكاتبة استدعته عمدًا إلى الرواية.
لكن من كان يظن أن الشخص الآخر المتلبّس لم يكن الكاتبة، بل صاحب تلك المغسلة البغيضة؟
“أوغ… أوغ…”
تنفس شادين بصعوبة، وراح يرفع سرواله عن ساقه اليسرى ببطء.
ساقه، التي كانت هزيلة بالفعل، باتت أنحل، وجلده الأحمر المتقرّح كان يكوّن بثورًا تنفجر واحدة تلو الأخرى.
وكأن دمه يغلي داخل عروقه.
زحف شادين نحو الخزانة.
أخرج السم العصبي الذي صنعه من زجاجة سحر العزلة الوحيدة التي تركها أكان خلفه.
كان مرعوبًا من الآثار الجانبية لاستخدام السم على ساقه المصابة، لكن تخفيف الألم كان أولوية.
“أوغ…”
أوجعه في البداية، لكن ما إن تغلغل السم في الجرح، حتى بدأ الألم يهدأ تدريجيًا.
وضع بضع قطرات من السم على لسانه، ثم تمدد على الأرض.
وراح يفكر بذهنٍ غير مخدَّر:
ما الذي يحدث بحق الجحيم؟ لماذا عادت اللعنة التي أُرسلت إلى جوديث إليّ أنا؟
“…بهذا الوضع، لن أتمكن من التحرك لعدة أيام. تبا…”
—
كان شادين قد أطلق تعويذته، وتعويذة العرّابة التي أُلقيت عليه كانت فعالة أيضًا.
كل ما تبقى هو معرفة مكانه الآن.
“ما هذا يا ماركيز؟”
ظنت جوديث أن كاين استدعاها لأمرٍ يتعلق بأعمال الكهنة.
لكنها فوجئت به يقدّم لها ملفًا بدلًا من ذلك.
“هذه قائمة بممتلكات ليون هارينغتون.
يمكنكِ توقيع الوثائق واستلامها.”
“يبدو أن التحقيق قد انتهى.”
فبعد مقتل ليون، صادرت الشرطة ممتلكاته.
وعندما ثبت أن أيا من متعلقاته لا توفر أدلة على القضية، أعيدت إلى ذويه، وحصلت جوديث على كل شيء رسميًا.
أخذت جوديث تطالع القائمة التي قدّمها كاين.
لم تتوقع شيئًا ذا قيمة.
ألم تكن قد أرسلت إيرن وهنري سابقًا لنهب ممتلكاته عندما كانت تعاني من أزمة مالية؟
كانت تظن أن الوقت لم يكن كافيًا ليعيد تكوين ثروة، لكن يا للمفاجأة، لقد كان ثريًا بحق.
فركت جوديث عينيها، ثم نظرت إلى القائمة مجددًا.
“أيمتلك كل هذه الثروة؟”
سألها إيرن بدهشة، فسلمته القائمة بصمت.
عبس إيرن، الذي سبق وأن نهب ممتلكات ليون بنفسه.
أين خبّأ هذا اللعين أمواله؟
كان يظن أنه قد فرغ جيوبه بالكامل في المرة الماضية، فمتى راكم كل هذه الثروة التي تقارب ألفي قطعة ذهبية؟
بالطبع، كان ذلك مفيدًا لجوديث بصفتها الوريثة.
وكان يظن أنها ستكون سعيدة.
لكنه التفت إليها، فلم يرَ أي ابتسامة على وجهها.
“هناك شيء مريب.”
تمتمت جوديث بهدوء.
“مريب؟”
“من أين حصل ليون على كل هذا المال؟
سيدريك راينلاند، الذي امتلك نفس المبلغ تقريبًا، كان غارقًا في الديون.”
أليس في الأمر غرابة؟ فحشرة الذهب، بدلًا من أن تجلب الكنوز، تطلب الطعام.
وإن لم يطعمها مالكها، أكلته هي.
ولم يُشَر إلى أنها تأخذ الذهب الذي تُعطى، مما يعني خسارة مزدوجة.
“كان سيدريك غير كفء.”
سيدريك هو الأخ غير الشقيق لإيرن، الشخص الذي أحيا عائلة راينلاند ثم دمرها مجددًا، والذي استدان 200 مليون ذهب من سميث وتسبب بمعاناة جوديث.
“يبدو أن الحشرة الذهبية تمنحك الذهب، لكنها لا تمنحك الكفاءة.
حتى بعد حصوله على لقب كونت، لم يستطع اتخاذ قرار بنفسه وكان يستدعي كليف دائمًا.”
“من أين سمعت ذلك؟ أليس كليف على خلاف مع عائلتك؟”
“سمعته منه مباشرة.”
رغم العداء، كان يلتقيه كثيرًا.
ولم يكن يخطر بباله وقتها أن كليف سيبيع نفسه لاحقًا.
كان يراه فقط كشخص لا يزعجه، يشرب بنفس قدره، ويدفع ثمن الشراب.
“في كل لقاء، كان سيدريك يلعنه على عدم كفاءته، ويدفعه لإتمام الأوراق، بل ويقول إنه لا يريد حتى توقيعها.
ويتذمر لأنه يضطر لاستدعائه في كل مرة يشتري فيها شيئًا، وكان يدفع له أتعاب استشارة صغيرة.”
“أتعاب استشارة صغيرة؟”
أمالت جوديث رأسها مستغربة.
“يعني أن كليف كان يكسب مالًا جيدًا كمحامٍ خاص؟”
“ليس بذلك القدر.”
تدخل كاين في الحديث.
في هذا العالم، كان القضاة والمحامون مجرد نبلاء بلا ألقاب أو أموال، يتقاضون أجرًا جيدًا، لكن ليس ثروات طائلة.
“إذًا من أين جاءت ثروته؟”
كليف كان يبدو دائمًا مرتاحًا.
ملابسه فاخرة، جياده غالية، وقصر عائلته يقع في منطقة راقية ذات أسعار عقار باهظة.
وفوق ذلك، قدّم دعمًا ماليًا لأتباع الطائفة، وبعد التمرد، وفّر لهم أموال الهروب وبيتًا آمنًا.
“لا بد أن ذلك كلّفه الكثير، فمن أين له بكل هذا؟”
“حقًا…”
“هل نراجع سجل أملاك عائلة آكرمان؟”
عندما أصبح الأمر مريبًا، اقترح كاين ذلك.
فجريمة كليف كانت جسيمة لدرجة أنها تستدعي إعدام العائلة بأكملها.
لكن تم العفو عن والده – الفرد الوحيد المتبقي من العائلة – وعن كليف نفسه، مقابل تعاونه الكامل.
لكن القانون لا يعفي دون مقابل، لذا أمر الإمبراطور بمصادرة كافة ممتلكات آل آكرمان.
“صادروا كل شيء باستثناء منزل صغير كان يسكنه والده.
لا بد أن هناك أوراقًا كُتبت حينها.”
أرسل كاين رجاله لاستعادة الوثائق.
راجعوا ممتلكات العائلة.
“…هل هذه كل ثروته؟”
كانت ممتلكات آل آكرمان تقتصر على منزل ناءٍ، جوادين، ألف قطعة ذهبية، وعدد قليل من اللوحات.
لم يكن فقيرًا، لكنّه لم يكن ثريًا أيضًا.
لم يكن يملك ما يكفي لتغطية نفقات خمسين تابعًا مختبئين في العاصمة، ولا نفقات أولئك الوسطاء الذين بقوا لمراقبة إيرن.
“يبدو أن لديه ثروة مخفية.”
“يبدو الأمر كذلك فعلًا.”
“هل أنشأ صندوقًا سريًا؟ ولماذا قد يفعل ذلك؟”
أجابت جوديث ببساطة:
“لأنه لو أخفى الأتباع في منزلٍ باسمه، لأصبح مهددًا بكشف أمره لاحقًا.
أما بصفته محاميًا، ألن يستطيع شراء منزل باسم شخص آخر؟”
مثالًا على ذلك: ماذا لو زادت ثروة أحدهم فجأة، لدرجة أنه لم يعد يدري من يسكن في العقارات المسجلة باسمه؟ كالشخص الجشع عديم الكفاءة سيدريك راينلاند، الذي يستشيره باستمرار.
“قد تكون هناك ممتلكات تابعة لعائلة راينلاند لا نعلم بها.”
تلك الممتلكات قد تكون قُدمت كأماكن اختباء للأتباع دون علم أي من أفراد العائلة.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ159
“هل تذكرون ما قالته تيا في المرة الماضية؟”
سألت وأنا أتبادل النظرات مع إيرن وكاين، وقد ارتسمت على وجهيهما ملامح الحيرة، وكأنهما لم يدركا مغزى كلامي.
“حينما استُجوب أتباعه عن كيفية العثور على بيت آمن، أجابت تيا بأن هناك بيوتًا آمنة موزعة في أنحاء الإمبراطورية، وكل ما عليهم فعله هو اختيار أحدها والانتقال إليه.”
حتى قبل اندلاع التمرد، كان الأتباع يتنقّلون بين مقاطعات الإمبراطورية، يزرعون الفوضى لتوسيع نطاق نفوذهم أو لجمع الأموال.
وقد شيّدوا آنذاك مخابئ متفرقة استخدموها لاحقًا كملاجئ بعد تفجّر التمرد.
“إذاً، سيدتي…
هل تعنين أن هناك بالفعل مخبأً معدًّا في العاصمة؟ وأن كليف أكيرمان قد يكون هو من وفّره؟”
“نعم، أعتقد أن السيد كليف اختلس ثروة عائلة راينلاند، وسخّرها لدعم الأتباع.”
لقد راكم سيدريك راينلاند ثروة طائلة بفضل حشرة الذهب.
وكليف، الذي كان ذكيًا وماهرًا، عمل إلى جانبه في إدارة الوثائق، وربما استغل الفرص لاختلاس الأموال على نحو خفي.
ثم، ومع انقراض أفراد عائلة راينلاند، استولى على أملاكهم.
وحيث إن إيرن هو الوريث الوحيد المتبقي، كان من السهل تزوير مختلف الأوراق.
ومن المحتمل أن كليف احتفظ بجزء من المال لنفسه، ووهب الجزء الآخر للأتباع.
“وربما لم يكتفِ بذلك، بل جهّز لهم منزلًا كمخبأ.”
بالطبع، لم يكن ذلك إلا مجرد حدس، لكن كان يستحق التحقق منه، إذ لم نكن نملك خيطًا واضحًا عن مكان وجود الكاهن.
كما أننا استعدنا أصول عائلة راينلاند التي استحوذ عليها كليف.
“المشكلة أننا نجهل أين خبّأ كليف المال المنهوب.”
لو كان كليف ما يزال حيًّا، لكنت حاولت استدراجه أو ابتزازه، لكنّه مات بالفعل.
“أليس والد كليف ما يزال على قيد الحياة؟”
سأل إيرن وقد بدا وكأن فكرة مفاجئة خطرت له.
“كليف استخدمني للفرار من قبضة الأتباع.”
فقد أرسل رسالة سرية إلى إيرن يقول فيها إنه يتعرّض للتهديد من قبل الأتباع.
“حين سلّم تلك الرسالة، لا بد أن كليف كان يعلم أنه سيُعتقل.”
فبصفته محاميًا، لم يكن ليغفل عن ذلك.
كان يتوقع أنه حتى لو نجا بحياته، فسيُصادر ما يملكه، أو تُفرض عليه غرامات جسيمة.
ومع ذلك، ألم يكن قد أعدّ عدّته لمثل هذا المصير؟
“والده أيضًا محامٍ، وكان المستشار القانوني لعائلة راينلاند لسنوات طويلة.”
وإذا كان والده هو الشخص الذي يثق به كليف أكثر من غيره، فمن المؤكد أنه سلّمه ما اختلسه من وثائق وممتلكات.
“أين تقيم عائلة أكرمان الآن؟”
—
كان بوفورت أكرمان، والد كليف، يقطن في مقاطعة فيزكاونتي كورنوال، شمال العاصمة بيوم سفر واحد، منذ وفاة ابنه.
في الظروف العادية، يصعب تدبير رحلة ذهاب وإياب ليومين من دون معلومات مؤكدة، لكن…
“أظن أن عليّ اعتبار ذلك من حسن الحظ، بما أن عملي يعاني ركودًا.”
ورغم أنه لم يكن حظًا بالمعنى الحقيقي، فإن تدخل الكاهن أتاح لي بعض الوقت لأتنفس.
كما أن الهدوء الذي ساد في الأيام الأخيرة، بعد توقف جرائم القتل، ساعدني على اتخاذ القرار.
“أين بحق السماء يختبئ الكاهن؟”
إن كان قد مات، فذاك حسن، وإن لم يمت، فعليّ أن أعثر عليه قبل أن يستعيد عافيته.
غادرت المتجر مع إيرن، يصحبنا هنري ورايان، وأخذنا معنا حقيبة سفر بسيطة فقط.
مررنا بمكتب سميث قبل مغادرتنا العاصمة.
“آه، يبدو أن كونتيسة راينلاند اتخذت قرارها أخيرًا.”
“قراري؟”
“ألم تأتِ لتقولي إنك ستغيّرين مجالك المهني؟”
أومأت برأسي نفيًا، فصدر عن سميث صوت طويل يشبه الشخير.
بدا من الغريب أن أزوره في يوم لا يتزامن مع موعد تسديد الفوائد.
“إذاً، ما الذي جاء بك؟ اليوم ليس موعد السداد. هذا غير منطقي.”
خفت بريق عينيه المتقدتين.
“هل جئتِ لتطلبي قرضًا آخر؟”
“هذا هراء.”
رد إيرن بسرعة حادة.
إيرن راينلاند، الذي لم يكن يهتم بالمال في السابق، بات يكره الدين، خاصة إذا كان بفوائد.
“لا تقل شيئًا كهذا.
سأسدّد ما تبقى قريبًا.”
“الأعمال ليست على ما يُرام، لماذا تصرخ هكذا يا سيد إيرن؟”
كان سميث يلفّ لحيته بين أصابعه، ثم أردف:
“ألا تعلم، يا سيد إيرن، أن هذا السميث يضع عينه على العديد من الساحات؟”
ضحك إخوان لوهمان الواقفين خلفه، وهز إيرن رأسه.
“سيد سميث، نحن هنا لسبب مختلف تمامًا.”
“أوه، حقًا؟ الآن أثرت فضولي.
ما هو السبب إذًا؟”
“اعتنِ بنفسك.”
تبدّلت تعابير وجه سميث فجأة حين انتقل الحديث إلى جوهر الزيارة.
“هل سمعت بوجود قاتل متسلسل طليق مؤخرًا؟”
“بالطبع سمعت.”
“أظن أن هدفه القادم سيكون السيد سميث.”
ابتسم سميث ابتسامة ذهول.
لكن تقديري كان منطقيًا.
الكاهن لا يستهدف عشوائيًا، بل يتقصّد من ارتكبوا آثامًا.
فكّرت في مَن حولي، ولم يخطر ببالي سوى سميث.
فهو مرابٍ سيء السمعة، واغتياله قد يمنح الكاهن شهرة، كما أنني سأشعر بالذنب بسبب علاقتي الطيبة به كمدينة ملتزمة، فتصبح النتيجة مربحة للجميع.
“صحيح أن جرائم القتل خمدت مؤخرًا، لكن لا يمكن أن نطمئن تمامًا.”
“آه، يا لها من وساوس فارغة.”
رغم أنني حكيت له ما دار في ذهني، إلا أنه انفجر ضاحكًا كما لو أنّه سمع نكتة من العيار الثقيل، حتى سالت دموعه من شدة الضحك.
“لا تقلقي، سيدتي.
رئيسنا دائمًا ما يتعامل مع الأمور بهذه الطريقة.”
“رئيسنا قوي جدًا.”
قال أحد الأخوين لوهمان المرافقين له، ثم تبادل بضع كلمات مع زميله.
“الجميع أصيبوا بالذهول.
وأكاد أجزم أن ماستورا نفسه شعر بالخطر.”
عبس وجه إيرن، وكأنه استاء من تلك الابتسامة العريضة.
“لا تقلق.
ماستورا؟ هل تقارنني بشخص يفتخر فقط بحجمه؟ أوه، لم أسمع يومًا كلامًا سخيفًا كهذا.”
تابع سميث وهو يهز رأسه:
“باستثناء كلمة ‘ابن’.”
شعرت بأن الأمر بات غريبًا فعلًا.
وأنا، التي تسببت له بهذا الذهول، اكتفيت بهز كتفيّ.
“كان عليك أن تقلق أكثر.
بدلًا من المزاح، كان الأحرى بك أن تسعى لكسب المزيد من المال.”
نقر سميث لسانه بضيق.
“إن جاء القاضي أو ايا كان أسمه، سأمسكه بيديّ.
هل سأحصل على مكافأة حينها؟”
“أمسكه فقط، المكافأة؟ قد يمنحونك حتى جولة داخل القصر.”
فرك سميث كفّيه وكأن لثته تشد، وبدا وكأنه نصّاب يحيك مؤامرة.
بالفعل، من المدهش أن يُطلق وعدًا بهذه الصفاقة للإمساك بقاتل متسلسل وزعيم تمرّد.
“هناك سؤال واحد فقط أود طرحه.”
“ما هو؟”
“ما الذي رأيته في سيدريك راينلاند وجعلك تقرضه مئتي مليون ذهب؟”
“ألم يكن ذلك في فترة ازدهار أعماله؟ كان هزيلًا إلى حدّ أن وفاته لم تكن لتُعدّ مفاجأة.”
استرجع سميث تلك المرحلة وزفر تنهيدة ثقيلة.
“كنت أعتقد أن ثروة عائلة راينلاند المتبقية ستكون كافية لتعويض خسارة كهذه، حتى لو أفلس.”
“ثم ماذا حدث؟”
“حين ذهبت إلى منزل راينلاند بعد وفاته، لم أجد فيه شيئًا.
لا أثاث، ولا حتى نملة تمشي.”
انتهت قصة سميث بنبرة محبطة، فقد شعر بالخداع، لكنه أيضًا بدا مرتاحًا بمجرد وصولي إليه.
“لكن، لماذا تسألين عن هذا الآن؟”
“أعتقد أن السيد كليف، محامي السيد سيدريك، قد اختلس ثروة عائلتنا.”
أضفت أنني توقفت في طريقي لاستعادة تلك الممتلكات.
“هل يكفي شخصان؟ هل ترغبين أن أُعيرك الاخوان لوهمان؟”
“شخصان يكفيان.”
وقفت وهززت رأسي.
“على كل حال، اعتنِ بنفسك يا سيد سميث.
ذلك الرجل قد يستخدم السحر.”
“نعم، نعم، سأكون حذرًا، سيدتي.”
ثم كشف سميث عن التمائم التي يضعها على ذراعيه وتحت ثيابه، قائلاً إنه يحرص دائمًا على الحماية من أولئك الذين يستدينون منه ثم يلعنونه.
غادرنا المكتب بقلب مطمئن بعض الشيء.
سميث محاط بالحراس، والأخ لوهمان بجانبه، فماذا قد يحدث؟
لم أخبره، لكنّني شعرت أن الكاهن عاجز عن الحركة في الوقت الحالي.
فقط مجرّد ملاحظة غياب القتل منذ تحطّم المرآة، تؤكّد لي ذلك.
لكن، ما لم أكن أعلمه أنا، ولا إيرن، ولا حتى سميث نفسه، هو أن هذا سيكون آخر لقاء بيننا وبين سميث.
[الا سميث حبيته 😿😿😿]
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ160
كانت “فيسكونتية كورنوال”، حيث يقيم بوفورت آكرمان، والد كليف آكرمان، مجرد ضيعة ريفية صغيرة، أرضها محدودة وسكانها قليلون.
لم تكن سوى قرية بسيطة، تكبر قليلًا عن أن تُعتبر قصرًا، وأفضل ما فيها منزل من ثلاثة طوابق يحيط به جدار عالٍ.
وبما أن الأراضي الصالحة للزراعة نادرة، كان السكان يعتمدون على استضافة المسافرين المتجهين شمالًا لكسب رزقهم.
“هل أنتما في شهر العسل؟”
“عذرًا؟”
“أليست هذه رحلة زفافكما؟”
بعد يوم طويل من الركض والسفر، وجدنا نُزلًا مناسبًا، واستأجرنا غرفة واحدة كما لو أن الأمر طبيعي، لذا بدا لصاحب النُزل أننا زوجان حديثا الزواج.
لكن ترددنا أمام سؤاله الغريب جعله ينظر إلينا بعين الشك.
“…إذًا، هل أنتما في حالة فرار ليلية؟”
“لا، أبدًا.”
أظن أن عددًا كبيرًا من العشاق الهاربين سبقونا إلى هذا المكان؟
فكرة حالمة، لكني ابتسمت صرفًا لها.
“نعم، نحن متزوجان.”
رغم أنني مازحت إيرن سابقًا بمناداته بـ”عزيزي”، إلا أن مجرد قولي “نحن زوجان” الآن جعل وجهي يحمر من خجل لا أعرف له سببًا وجيهًا.
“لكننا لا نقضي شهر العسل، إنها مجرد زيارة قصيرة.”
“زيارة؟ هل لديكما أقارب هنا؟”
“نعم، قريب بعيد لنا انتقل إلى هنا مؤخرًا.
لا أدري إن كنت تعرفه، اسمه السيد بوفورت آكرمان.”
كنت أعرف عنوان بوفورت مسبقًا، لكن رغبتُ في معرفة أحواله من صاحب النُزل.
فإن كان بوفورت يملك الثروة التي سرقها كليف، فلا بد أنه يعيش ببذخ.
وإن لم يكن، فقد تكون أمواله صودرت من قبل العائلة المالكة وأصبح بالكاد يعيش.
“آه، ذلك العجوز…”
لكن الرد الذي تلقيته كان مختلفًا تمامًا عمّا توقعت.
“لقد فقد صوابه، لا أعلم إن كان يتعرف حتى على أقاربه.”
“فقد صوابه؟ هل لك أن تخبرني المزيد؟ لم أره منذ زمن وأود معرفة ما جرى له.”
اقتربت منه وهمست:
“سنتناول العشاء هنا أيضًا، فلدينا متسع من الوقت.”
كنا قد خططنا لتناول العشاء في أفخم مطاعم الضيعة، لكنني تخلّيت عن الفكرة بكل سهولة لأجل الاستماع لقصته.
“حسنًا، إن كنتما مصممين…”
فتح فمه بينما يُدخل النقود التي دفعتها له في جيب مئزره.
“في البداية، انتشرت إشاعة أن رجلًا ثريًا سيأتي للاستشفاء في منطقتنا.
ويُقال إنه دفع رشوة كبيرة لأحد العاملين في قصر الحاكم المحلي.”
كان السكان يأملون أن يكون كريمًا في إنفاقه.
وبالفعل، اشترى بوفورت في البداية منزلًا فخمًا على التل، وعيّن عددًا من الخدم.
“ثم بدأ بشراء الماشية والدجاج والماعز والأغنام. ظنّ الناس أنه وحيد ويرغب في بعض الصحبة، لكن لم يكن هذا هو السبب.”
“وهل كان يذبحها ليأكلها؟”
“لو كان يفعل، لقلنا إنه يفضل اللحم الطازج.
لكن الخدم يقولون إنه يُجري طقوسًا غريبة كل ليلة.”
—
هل بوفورت آكرمان مختل فعلًا؟
بعد العشاء، توجهنا إلى منزله على التل، لا بهدف الدخول، بل لنستطلع الوضع.
لكن ما إن اقتربنا حتى رأينا خدمه يندفعون خارجًا.
“لو لم أكن بحاجة إلى المال، لتركته من زمن.”
“المال… عدونا.”
“أشعر بالغثيان من مجرد التفكير في تنظيف تلك الفوضى غدًا.
ما الذي يحدث هناك كل ليلة؟”
“الحمد لله أنني لا أراه بأكمله.
لو طُلب مني أن أشارك، لفقدت شهيتي.”
أغلق الخدم البوابة واختفوا.
فبقينا واقفين قرب الجدار الخارجي.
وفي اللحظة التالية، دوّى صراخ حاد من داخل المنزل.
شعرت بالقشعريرة تسري في جسدي، ومرّرت يدي على ذراعي كأنني أطرد البرد.
“ما الذي يحدث هناك؟”
“هل تودين معرفة الحقيقة؟ لنلقِ نظرة.”
قال إيرن وهو يقدّر ارتفاع السور بعينيه.
وحين أومأتُ بتردد، قفز فوق الجدار بخفة لا تُصدّق.
ثم رمى لي صندوقًا لأستخدمه كدرج، فصعدت فوق السور أنا أيضًا.
“لم أظن يومًا أنني سأقفز فوق سور كهذا…”
تنهدت بينما أتجاوز الجدار.
كل شيء بات مختلفًا عمّا خططت له.
كنت أنوي الوصول إلى بوفورت بطريقة قانونية لاسترداد ما سرقه كليف.
وإن لم يتعاون، كان كاين قد أعدّ لي وثيقة تُشبه أمر تفتيش ممهور بختم الإمبراطور.
وإن لم تفِ بالغرض، كنت أملك وثائق لرفع شكوى للحاكم المحلي.
“لكن من كان يظن أن الأمر سينتهي بتسلّق الجدران؟”
لو علمت، لما أضعت وقتي في إعداد كل تلك الوثائق.
“…هناك رائحة دم.”
اقتربنا من المنزل، وقد غرق في ظلام دامس، باستثناء خيط ضوء يتسلل من إحدى النوافذ الجنوبية.
كانت الستائر مسدلة، لكن نافذة واحدة كانت مواربة.
من خلال هذه الفتحة، تمكّنا من إزاحة الستارة قليلًا بأصابعنا ورؤية الداخل.
“…أقدّم لك قلبي لتحصل على الروح، ودمي لتحصل على الجسد.
أظهر لي واستمتع بالدم واللحم.”
كان يؤدي طقسًا بالفعل، كما قيل.
عنزة بائسة تتلوى على الأرض، وقد غُرز خنجر في قلبها.
وسط زخارف غريبة على الأرض، سال الدم وتجمع في مجرى صغير بدا وكأنه محفور عمدًا.
ثم أخرج بوفورت قلمًا وورقة.
‘قلم وورقة؟’
أمر غير متوقّع، لكنني تابعتُ المراقبة.
غمس القلم في الدم ورفعه.
“هل حضرت؟ يدك هنا.”
ثم وضع القلم على طرف الورقة.
“هل حضرت؟ يدك هنا.”
كرر ذلك، دون أن يحدث شيء.
الدم انتشر على الورقة بلا نتيجة.
“…فشل آخر، مجددًا.”
صرخ غاضبًا وألقى بالقلم، فارتطم بإطار النافذة. عندها، أغلق إيرن النافذة بهدوء.
“…آه.”
لو كنت وحدي، لربما تجاهلت الأمر.
لكن إيرن توتر بسبب وجودي.
في الداخل، علا صوت بوفورت وهو يصرخ:
“من هناك؟” وبدأت الفوضى.
“ربما من الأفضل أن نُغمي عليه.”
فتحت النافذة بهدوء والتفتّ إليه:
“انتظر لحظة.”
دخل إيرن وهو يزيح الستارة بقوة، ثم حيّا بوفورت كأنما بلقاء قديم، ثم ضربه في عنقه وأسقطه أرضًا.
جرّه إلى زاوية الغرفة، بينما دخلت أنا من النافذة بصعوبة.
تمتمت بصوت خافت أدعو بالسلام للعنزة المسكينة، ثم التقطت الورقة التي كان بوفورت يحملها.
“عقد بيع عقار؟”
تساقطت قطرة دم على حافته.
“شارع تريبال رقم 7؟ أليس هذا في العاصمة؟”
قرأت التفاصيل المغطاة بالدم.
“…المشتري: سيدريك راينلاند.”
سيدريك راينلاند؟ إذًا العقار مملوك لعائلته؟
رفعت الورقة تحت الضوء، غير مبالية بيداي المتلطختين بالدماء.
العقد بدا عاديًا، باستثناء فقرة أخيرة في نهايته.
“إيرن، انظر إلى هذا.”
“أين؟”
“هنا، البند الأخير: أُفوّض بموجب هذا عقد البيع والإيجار إلى ممثلي القانوني، كليف آكرمان.”
هل جنّ سيدريك؟ كيف فوّض كليف بهذه البساطة؟
ارتحت لأنني عثرت على أموالي، لكنني شعرت بالغضب تجاه كليف لأنه ورّطني في مشاكله.
وسط المشاعر المختلطة، تساءلت داخلي:
“لكن لماذا يستخدم هذا العجوز وثائق ملكية تعود لشخص آخر في طقوسه؟”
“من يعلم.”
نظرنا إلى بوفورت الملقى في الزاوية.
“لقد أغمي عليه فقط.
هل ينبغي أن أوقظه فورًا؟”
—
كان بوفورت شيخًا مسنًا.
خشينا أن نوقظه بعنف فيموت بين أيدينا.
وفي النهاية، تركناه وبدأنا البحث في المكان، فوجدنا الثروة الهائلة التي سرقها كليف آكرمان.
ارتعشت يداي من شدة الغضب وأنا أحدّق في عشرات عقود البيع الموقّعة باسم سيدريك راينلاند.
“كل أموالي كانت هنا!
كليف آكرمان، أيها اللص القذر!”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 17 - من الفصل المئة والحادي والستون إلى المئة والتسعة والستون «النهاية». 2025-09-05
- 16 - من الفصل المئة والحادي والخمسون إلى المئة والستون. 2025-09-05
- 15 - من الفصل المئة والحادي والأربعون إلى المئة والخمسون. 2025-09-05
- 14 - الفصل المئة والحادي والثلاثون إلى المئة والأربعون 2025-09-05
- 13 - الفصل المئة والحادي والعشرون إلى المئة والثلاثون. 2025-09-05
- 12 - من الفصل المئة والحادي عشر إلى المئة والعشرون. 2025-09-05
- 11 - من الفصل المئة والحادي إلى المئة والعاشر. 2025-09-05
- 10 - من الفصل الحادي والتسعين إلى المائة. 2025-08-23
- 9 - من الفصل الحادي والثمانين إلى التسعين. 2025-08-23
- 8 - من الفصل الحادي والسبعين إلى الثمانين. 2025-08-23
- 7 - من الفصل الحادي والستين إلى السبعين. 2025-08-23
- 6 2025-08-23
- 5 - من الفصل الحادي والأربعين إلى الخمسين. 2025-08-23
- 4 - الفصل الحادي والثلاثين إلى الأربعين. 2025-08-23
- 3 - من الفصل الحادي والعشرين إلى الثلاثين. 2025-08-23
- 2 - من الفصل الحادي عشر إلى العشرين. 2025-08-23
- 1 - من الفصل الأول إلى العاشر. 2025-08-22
التعليقات لهذا الفصل " 16"