“أنتم، يا من تطاردون الناس بالديون…
هل لانت قلوبكم لمجرد أنني امرأة وحيدة؟”
كان يظن أن ظهور أحد المرابين سيكفي لبعث الرعب في نفسها، لكنها خيّبت ظنه.
وقفت بثبات، وكأن الموقف لا يعنيها.
الرجال… لا يبدّلون طباعهم أبدًا.
رمق كليف القصر بنظرة خاطفة قبل أن يستدير نحو حصانه، وقد صمّم على استغلال لحظة وهن في موقف جوديث ليقنعها بالتوقيع على المستندات التي تُمكّن والده من تولي منصب نائب الكونت.
حتى لو قدّم لها ثلاثة آلاف قطعة ذهبية، فإن دينها البالغ مئتي مليون يظل عبئًا يستحيل دفعه.
وحين تعجز، ستُسلَّم إلى سميث، وهناك… سيُفوَّض والد كليف باختيار الوريث الشرعي للقب.
ومن سيكون ذاك الوريث؟ لا شك أنه كليف نفسه.
خطة مكلفة، نعم، لكنها تفتح له أبواب المجد والكونتية.
“سيكون أمرًا مؤسفًا، آنسة هارينغتون،
إن سارت الأمور بينكما على ما يُرام…”
قفز كليف على صهوة جواده، ودفع باللجام نحو خادمه وهو يأمره:
“اذهب إلى الكازينو، وابحث عن ليون هارينغتون”
—
قالت جوديث:
“أعتقد أن كليف هو من دبّر زواجنا.
ألم تقل، يا سيدي إيرين، أنك على تواصل معه؟”
أجاب إيرين وهو يحدّق في زجاجة النبيذ التي منحتها له المركيزة:
“إن كنتِ تعنين كليف، فأنا أعرفه حق المعرفة…
لقد كان رجلًا حسن المعشر”
“ولِمَ تقول ذلك؟”
“كان يتكفّل بثمن الشراب دومًا”
يا له من معيار للسخاء.
كادت أن تصفعه سخريته الفجّة.
“ربما هو من قتل ليون، طمعًا في الزواج بكِ ونيل اللقب”
“أو ربما كان ينوي قتلك، ثم وجد طريقة أخرى للسيطرة على الكونتية”
ازدحمت في رأسها أفكار لم تطق البوح بها.
“ثمّة أمر يحيّرني…”
“ما هو؟”
“هذا النبيذ… أشعر أن أحدهم شرب منه قبلي”
“لأن ذلك صحيح”
“والممرّ هنا… فارغ بشكل مريب”
كأن محاولة القتل لا تستحق الالتفات، مقارنةً بزجاجة خمر.
“هل التقطته من مكان ما؟”
“أتظنّ أنني وجدت خمرًا فاخرًا مرميًا في الطريق؟”
“وشربتِ منه؟”
“… نعم”
كذبت دون وعي، وكأنها كانت تأمل في تفهّمه إن اعترفت بتجربتها لقطرة.
“يا لكِ من كاذبة.
من أين حصلتِ عليه؟”
“من المركيزة فيرني.”
حين سألت جوديث عن بقايا النبيذ، ناولتها المركيزة الزجاجة دون تردد، مدّعية أنها هدية لم ترُق للمركيز فركنتها في المخزن.
“طالما أن مصدره معلوم، لا ضرر من تناوله”
لكن إيرين كان يحدّق بريبة في المطبخ، يتأمل مكوناته: براعم متعفّنة، خبزًا يابسًا، ولحم خنزير تنبعث منه رائحة كريهة.
“وهل أعطتك المركيزة هذا أيضًا؟”
“نعم”
“إنها تعاملك كمتسوّلة”
ما إن يغدو الكرم على هيئة نفايات، حتى تتلاشى النية الحسنة.
“هل أسدت إليك معروفًا يومًا؟”
كان صوته باردًا، وكأن ما تلقّته من إذلال أثار غضبه.
“سألتني إن كنت أنا من أعطاكِ النبيذ الذي توسلتِه”
أي جنون هذا؟ أرادت أن تنتزع الزجاجة من يده، لكنها تماسكت.
“اشربه إن راق لك.
لا تتصوّر أن هذا الخمر رخيص الثمن”
أزالت جوديث العفن عن البطاطا، قشّرتها، وغمرتها في الماء البارد.
“انظر…
الماء يعيد للبطاطا حياتها.
أما لحم الخنزير، فإن نظّفته جيدًا وأضفت عليه التوابل، خفتت رائحته”
“لكن…
ألا يزعجك أن تُعاملي كمعدمة؟ ألا يُجرَح كبرياؤك؟”
ابتسمت جوديث بهدوء:
“لديّ كرامة… لكنها مرنة قليلاً”
نظر إليها إيرين بدهشة.
“رأيت مفاصل مرنة، وعقائد قابلة للانثناء…
لكن كرامة مطاطية؟ تلك جديدة!”
“لا تسخر مني.
الكرامة لا تُطعم جائعًا”
أي قيمة للكِبر حين يهاجمك الجوع؟
كانت جوديث مؤمنة بأن البقاء رهين بالواقعية، لا الاعتداد بالنفس.
“لن تُصبح ثريًا وأنت تقتات على الفتات”
“حلم جميل…
أن تصبحي ثرية وأنتِ غارقة في دينٍ بمئتي مليون!”
“ألا تحلم بالثراء؟”
في الحقيقة، إيرين لم يفكر فيه قط.
مذ وطأت قدماه مقر الكونت في الراين، لم يعرف الجوع، ولم يطمح بشيء.
“وماذا ستفعلين بالمال؟ هل تملئين أصابعك بالخواتم؟”
“سأعيش بطمأنينة، وآكل ما أشتهي”
“الراحة؟ رفاهية؟”
“كلمة غريبة”
“لا رفاهية في خطتي”
كل ما تطمح إليه بسيط: منزل باسمها، حصان، عربة، وسائق.
وربما خادمة تساندها وتؤنس وحدتها.
وإن امتلكت محلًا صغيرًا تؤجّره، يكفل لها دخلًا مضمونًا.
“خطة عظيمة… بعيدة عن التواضع، مع ذلك”
هزّ إيرين رأسه وهو يفتح الزجاجة التي أقسم قبل قليل أنه لن يلمسها.
“سأشرب على مضض… أما طعامك، فلن أذوقه”
عقدت جوديث حاجبيها وهي تُعدّ يخنة اللحم، عازمة ألا تذيقه منها إلا حين يتوسّل.
وحقًا، حين انتهت، مدّت إليه الطبق بتمنّع، فتظاهر بالرضا وأكل منه.
قال وهو يغرف منه بنهم:
“طعمه لا يرتقي إلى المستوى المطلوب”
ثم يفرغ الطبق؟! كتمت سخريتها وهي ترفع الأواني.
سَغْرَق.
“هممم؟”
صوت غريب.
هل سمعه؟
سَكْرَك.
“من أين يأتي؟” سألت وهي تميل برأسها.
“ما الأمر؟”
“ألست تسمع صوت حشرات تزحف؟”
“لا شيء”
هل تهيّأ لها؟ لكنها متأكدة أنها سمعته…
فركت أذنها بقلق، بينما ضاقت عينا إيرين بشكٍّ لم يُخفه.
لا… لا يمكن… ليس هنا…
—
“هل تفقدت كل الأماكن التي طلبتُ منك التحقيق فيها؟”
سأل إيرين خادمه الوفي هنري، الذي أوكل إليه تتبّع تحركاته الأخيرة، كونه لا يستطيع الظهور علنًا بعد ادّعائه الموت.
“نعم، وكدتُ أنهار من كثرة السؤال”
بدأ هنري من النزل الذي أقام فيه إيرين بعدما اضطر لمغادرة القصر إثر تمرّد الإمبراطورة.
ورغم كونه أحد فرسانها، فقد نجا من الإعدام بفضل إنقاذه للإمبراطورة الجديدة.
ثم اختار حياة بسيطة، بلا مأوى دائم.
“تتذكّر ابن صاحب النزل؟ كان فتى في الخامسة عشرة، يتولى إيصال طلباتك”
“أجل، أذكره”
“قال إنك خرجت في موعد”
موعد؟ حاول إيرين التذكّر… دون جدوى.
“ذهبتَ إلى الحانة المعتادة.
ماذا قال صاحبها؟”
“لم ألتقِ به”
“ولمَ لا؟”
“توفي في حادث عربة.
لكن سمعت أمرًا غريبًا من أحد العاملين هناك”
اتضح أن الرجل، قبل موته، كان ينفق بشكل مبالغ فيه، رغم قلة مدخوله.
“ربما تقاضى مالًا ليضع السمّ في شرابك، أو شاهد من فعل…
ثم سُكت بالمال، وأُسكت بعدها إلى الأبد”
مدّ إيرين يده وقال: “ناولني الإكسير”
تردّد هنري ثم أخرج زجاجة صغيرة من معطفه.
“هل تنوي استخدامه؟”
“ألستَ من أحضره لهذا الغرض؟”
“لكن الضحية… زوجتك”
“أظن كذلك.
لكن يجب أن أتحقق…
لمرة واحدة فقط، قبل أن أُقدم على ما لا رجعة فيه”
تلألأت زجاجة إكسير الحقيقة بين أصابعه، كأنها تحمل وعدًا بكشف المستور.
التعليقات لهذا الفصل " 10"