كَبتَ النبضَ المرتجفَ في صدره، وتقدَّمَ الكونت ستاراتشي ليُصافح الدوق القادم، مادًّا يده أوّلًا.
“مرحبًا، سموّكم. يُشرّفني حقًّا أنْ…”.
لكنّ الدوقَ تجاهل مصافحته ومضى دون أنْ يلتفت. فتأرجحت يد الكونت في الهواء بشكلٍ محرج، وقد خذلها مقصدها.
“آه… هاها؟”.
ظلّ الكونت متجمّدًا، يُحرّك عينيه يمينًا وشمالًا بارتباك. ثمّ اندفعَ جينوفيو نحوه ضاحكًا:
“أهاه! يُشرّفني أنا أيضًا لقاءُ سموّكم! لقد سَمعتُ كثيرًا عن قوّة المعلومات لدى دوقية بيترا، وقد كنتُ أتمنّى لقاءَكم بشدّة! في الحقيقة، أنا أُدير نقابة معلوماتٍ صغيرة…”.
لكنّ الدوق لم يُعِرْهُ انتباهًا كذلك. كان يتّجه نحو حيث تقف كاميلا وأنا.
أدركَ جينوفيو الأجواء المشحونة، فتوقّف عن الحديث بعد أن شعر بأنّ الموقف ليس اعتياديًّا.
كانت زوجة أبي تُحدِّق بكاميلا بعينين تملؤهما الترقّب. أما كاميلا، فقد احمرّت وجنتاها خجلًا كفتاةٍ تنتظر قبلةً أولى.
“سموّ الأمير إيزكِييل”.
دفعتني كاميلا بلطفٍ إلى الجانب وتقدّمت لتحيّيه بأناقة. وقد حجبت رؤيتي، فاضطررتُ للوقوف على أطراف أصابعي لأراه. يا لَهُ من لطف.
“سيّدتي”.
نطق بلقبها برقةٍ تشبه نسيم الربيع. ارتجفَ قلب كاميلا المفعم بالآمال وردّت فورًا:
“سموّ الأمير، لا أدري كم أنا سعيدة لأنّك أتيتَ خصيصًا لرؤيتي!”.
لكنّ إيزكِييل قطّب حاجبيه:
“مَن أنتِ لتُجيبي على كلامي؟”.
“نعم؟ أنا؟”.
لم تكن كاميلا تفهم ما يحدث. تجاوزها الأمير بخفّة، ثمّ سار إليّ وأمسكَ يدي.
“الآن وجدتُ مَن كنتُ أبحث عنها، الآنسة فيولا”.
فتح أفراد عائلة الكونت ستاراتشي أفواههم من الذهول كأنّهم شاهدوا إنسانًا عاقلًا يتقدّم لخطبة غوريلا!
“ماذا؟”.
“هل كاميلا غير مرئية الآن؟”.
وحين أصيب الجميع بالذهول، سارعت كاميلا إلى التدخّل.
“سموّ الأمير! أنا الابنة المُضيفة لهذه المناسبة! لا داعي لأنْ تنظر إلى ذاك الاتجاه أصلًا”.
وفي غمرة الحديث، دسّت قدمها فوق قدمي. كانت تلك إشارة بأنْ أنسحب.
في تلك اللحظة، اقترب كبير الخدم واقترح بأدبٍ على الدوق:
“سيدي، أرجو أن تبدأ الرقصة الأولى مع الآنسة المضيفة”.
نظر إيزكِييل نحوي بلطف:
“آنسة فيولا، ما هو اسم عائلتك؟”.
“ستاراتشي، سيدي”.
فقال كبير الخدم:
“إذن فهي أيضًا من آنسات هذه العائلة”.
اهتزّت نظرات كبير الخدم. حاولت زوجة أبي وكاميلا التحرّك، لكنّ الوقت كان قد فات.
“كما تقولون، سأرقص مع ابنة المضيف”.
ثمّ نظر إليّ وقال بنبرة مرِحة:
“لنتّجه إلى ساحة الرقص، سيدتي”.
وهكذا، حصلتُ على تلك الرقصة الأولى وسط نظرات الجميع المليئة بالحسد والترقّب، الرقصة التي لطالما حلمت بها كاميلا.
أخذ المدعوّون يُحدّقون فينا بفضولٍ بالغ. وغدًا، ستنتشر الشائعات في أرجاء المجتمع الأرستقراطي، وستكون مؤذية لشخصٍ واحد دون الحاجة إلى التكهّن.
“لا! لا يمكن! أمّاه! لا يُعقل! بأيّ شيءٍ هي أفضل منّي! لماذااا!”.
مررتُ بجوار كاميلا، التي كانت تتشبّث بزوجة أبيها وتضرب الأرض بقدميها غيظًا.
ثمّ تداخلت أصابعنا، واحتواني بذراعه ببطء. كانت رائحته تشبه برد الشتاء.
تحدّث بأسلوبٍ أنيقٍ وظريف، يخفي في داخله برودًا صارمًا:
“لنجرّب أول رقصة كزوجين، زوجتي المستقبليّة”.
“أوه، أنتم تُسرعون الخُطى قليلًا، أليس كذلك؟”.
ابتسمتُ بخفة، وأسندت رأسي جزئيًّا إلى صدره.
وبمجرّد أن اعتدلنا في الوقفة، بدأت الموسيقى.
خلال رقصي مع الدوق، كانت كاميلا في الزاوية تواصلُ جنونها. بل وصلت بها حدّة الشتائم إلى أنْ اضطرّ جينوفيو أن يسحبها خجلًا.
لكن سواء قالت أم لم تقل، فإيزكِييل كان يهمس في أذني خلال الرقص:
“بعد أن قبلتِ عرض الزواج بالعقد، قمتُ بتحرّيات عنكِ خلال الأيام الماضية”.
“تبدو واثقًا جدًّا وأنتَ تتحدث عن التّجسّس، أليس كذلك؟”.
“أنتِ أيضًا تحرّيتِ عني قبل أن تُقدّمي عرض الزواج، إذًا نحن متعادلان. على ما يبدو، هؤلاء الناس يُضايقونك منذ زمن طويل، أليس كذلك؟”.
غمز لي بلُطف، رغم حدّة ملامح عينيه. كان مزيجًا غريبًا، لكنّه جذّاب.
“لذا، قمتُ ببعض الانتقام نيابةً عنكِ”.
“أوه. في هذه الحالة، أنا ممتنّة لك”.
أنهينا الرقص وسط تصفيق الحضور.
الكونت وزوجته لم يُصدّقا ما حدث بعد، وكانا ما يزالان يحدّقان فينا بذهول.
وأخيرًا، لم يَسلما من آخر محاولة. إذ اقتربا منا مرّة أخرى.
وكانت أشبه بمحاولةٍ بائسة، وإنْ أسموها “الأمل”.
“أهُم. أَهُم”.
سعل الكونت بطريقةٍ مبالغ فيها ليجذب انتباهنا، ثمّ دفعني قليلًا وبدأ الحديث:
ولمّا أنهى كلماته، ظننتُ أنني أخطأتُ السمع.
“سموّ الأمير، لدينا في العائلة فتاةٌ أخرى رائعة الجمال…”.
هذا الحديث مألوف. فتحتُ عينيّ على اتّساعهما.
أليس هذا المشهد من بدايات الرواية الأصلية؟!
“في الحقيقة، الفتاة التي أبديتم اهتمامًا بها أقلّ ذكاءً وهدوءًا بكثيرٍ منها. أما جمالها فلا خلاف عليه”.
آه، كان هناك بعض الجمل المحذوفة في الرواية. لكن على أيّ حال، بدا واضحًا أنّ الكونت يُحاول عرض كاميلا بكلّ جهده.
غير أنّ ردّ الأمير إيزكِييل بيترا، الذي بدت عيناه غاضبتين، كان مختصرًا:
“اغرب عن وجهي”.
فتح الكونت عينيه بصدمة. ولم لا؟ فقد كانت تلك إهانة صريحة رغم فارق المكانة!
لكنّ إيزكِييل أطلق عليه نظرةً حادّة، جعلته يتراجع شيئًا فشيئًا حتى لم يعد يستطيع التفوّه بكلمة.
“ن… نعم، بالتأكيد!”.
الآن فقط فهمتُ لماذا انتهى هذا المشهد سريعًا في الرواية. لو كنتُ مكانه، لَما استطعتُ قول شيء أمام تلك النظرة أيضًا.
لكن انتظر… أليس هذا المشهد حدث في الرواية بعد بدايتها؟!
ونحن الآن ما زلنا في المراحل الأولى، حيث لم تبدأ قضية دمج الدوقيات أصلًا.
‘آه، لقد انحرفت خطوط الزمن’.
في هذا العالم، وجودُ أشخاصٍ عادوا بالزمن أو تلبّسوا أجسادًا أخرى يُسبّب كثيرًا من الخلل، بل ويُسرّع من أحداث الرواية.
وليس مستغربًا أنْ يكون السبب في ذلك… أنا.
استعدتُ تركيزي، واستدرتُ مع الأمير يدًا بيد.
كانت ثوبي البسيط يبدو أنيقًا بجانبه، وزينة الأزهار البرّية على شعري زادتني براءةً وصفاءً.
كانت صورة رجلٍ وامرأةٍ يرقصان معًا مشهدًا راسخًا في أذهان الحاضرين.
“خطاكِ غير منسجمة”.
رغم أن الناس لا يعلمون بأنّنا نُعاني من سوء تنسيقٍ بسيط.
“لا تُجاهدِي في الرقص. فقط اثبتي مكانكِ، وسأتكفّل بالباقي”.
ومع استمرار الرقصة، بدأ يشيح بوجهه عني، مُظهرًا علامات الانزعاج.
هل هذا لأنني لا أُجيد الرقص؟ يبدو أنّني أخفقت.
‘تبًّا. لقد بذلتُ جهدي’.
شعرتُ ببعض الإحراج، لكنّي تفهّمت خيبة أمله.
فهو زوجي المستقبلي، وسنقضي عمرًا معًا. كنتُ واثقةً وقتها أنّنا سنتبادل النظرات لاحقًا ونُمازح بعضنا بكلّ راحة.
ما كان يجب أنْ أظنّ ذلك.
—
أطلقت زوجة أبي على الحفلة التي جرت بالأمس لقب “الكارثة العظمى”.
في اليوم التالي للحفلة، التي لم تَجلبْ لبعضهم سوى العار، انقلبَ قصر ستاراتشي رأسًا على عقب.
“لقد اقترضتُ المزيد من المال لأُقيم الحفلة، وهذه هي النتيجة؟!”.
وكان الكونت أكثر المتألمين.
“السمكة لا تلتقط الطُعم حيث أضعه، بل تبتلع دودةً طائشة تمامًا!”.
صرخ الكونت بأعلى صوته، وكان يُقلّد البطّة بطريقةٍ مُدهشة.
ثمّ حدّق نحوي، وكأنّي أنا “الدودة” المقصودة.
“ما الذي فعلتِه، لتجذبي اهتمامَ الدوق؟! هل تصرّفتِ كبقيّة الفتيات هذه الأيام وتذرّعتِ بالحبّ لتفرّطي بنفسك؟!”.
وانضمّت كاميلا إليه بالهجوم، وكأنّها وجدت فرصتها:
“الأمر واضح! ليس لديها ما تخسره، لذا تزيّنتْ كالكورتيزان وبدأت تُلاحق الرجال! وقد صادف أنْ التقطها الدوق!”.
تبًّا، لقد بصقتْ عليّ.
عندما عبستُ، ظنّت كاميلا أنّ استفزازها نجح، فازداد غرورها.
“لكن سترين! أنتِ لا تُناسبين سوى ليلةٍ واحدة! أمّا أن تُصبحي دوقة؟ مستحيل! امرأة غبيّة مثلكِ، قد تصعد بالكاد لتكون خليلة، لا أكثر!”.
سئمتُ الحديث، ففتحتُ فمي أخيرًا:
“كلامكِ خاطئ، كاميلا”.
“ماذا؟”.
وضعتُ بطاقة الدعوة على الطاولة. كان الدوق قد أعطاني إيّاها بالأمس، قائلًا إنّه من أعدّها.
“أنا سأتزوّج. من دوق بيترا شخصيًّا”.
ابتسمتُ وأنا أُقلّب عينيّ، ساد صمتٌ قاتلٌ أرجاء غرفة الاستقبال.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 7"