أبالون، الذي شُغِلَ للحظة بنظراته نحو إيف، وقع صريعًا بين يدي باليريان دون أن يتمكن من المقاومة.
نهاية باهتة لا تليق بظهوره المهيب في البداية.
“يبدو أنه كان يثق في أن سيف الظلام قادر على هزيمة إيلا.”
ربما لهذا السبب بدا عليه الارتباك حين تفاجأ بسحرها. ومع ذلك، تسللت إليها مشاعر قلق خفية.
‘لقد وصلت إلى هنا دون الحاجة إلى مساعدة باليريان، وتمكنت من قتل شياطين أقوياء.’
أغلب أولئك الذين واجهتهم حتى الآن كانوا من الشياطين العليا، لكنها نجحت في هزيمتهم بمفردها. أما أبالون، فكان مختلفًا.
لم يكن مجرد شيطان قوي، بل من نخبة الشياطين التابعين لما يُطلق عليه لقب الشيطان العظيم، لذا لم يكن من السهل عليها التغلب عليه وحدها.
فجأة، عادت بذاكرتها إلى الشيطان الذي التقت به في الزنزانة.
‘ذلك الشيطان… من يكون بحق السماء؟‘
الشيطان الذي اتخذ مظهر صبي.
الشيطان الذي امتلأ قلبه بحقد دفين ضد السحرة.
لو لم تكن قد باغتته وقامت بتجميد طاقته السحرية فجأة، لكان من المشكوك أن يتمكن باليريان نفسه من هزيمته.
‘لا يمكن… هل يعقل؟‘
أيمكن أن يكون ذلك الشيطان هو المحرك الأساسي لكل ما جرى من استدعاءات؟
هل ذلك الصبي هو الشيطان العظيم نفسه؟
“مستحيل…”
همست إيف لنفسها محاولة نفي الفكرة، لكنها سرعان ما توقفت.
الاحتمال كان مطروحًا بقوة.
“الشمس توشك على المغيب.”
نظرت إيف ومن معها إلى النافذة، وأدركوا أنهم لا يملكون الكثير من الوقت.
دخلوا غرفة التعليم الديني، وبدأوا في البحث عن أي طريق سري قد يؤدي إلى الأسفل.
وحين لمحَت تمثالًا ما، اقتربت منه ببطء.
‘…لقد رأيته من قبل.’
كان مطابقًا تمامًا لما رأته في سحر الوهم. مدت يدها ودفعته جانبًا بهدوء.
كووونغ—
تحت التمثال، انكشف مقبض خفي.
سحبته بكل قوتها.
كووواااانغ!
عندها، انفتحت غرفة سرية كانت مخفية.
دهش الفرسان حين رأوا الطريق المؤدي إلى الأسفل، وتساءلوا عن كيفية اكتشافها له.
في تلك اللحظة، تحدث باليريان وقد بدا جادًا وهو يحدّق بها:
“سأنزل لأُخرج يوري، وأنتِ ابقي هنا مع الفرسان وانتظريني.”
رفعت إيف رأسها ونظرت إليه باستغراب.
باليريان الذي لم يعترض قط على مرافقتها سابقًا، يقرر فجأة أن يذهب بمفرده؟ لا بد أن هناك شيئًا غريبًا.
حتى الفرسان بدَوا متفاجئين، لكن باليريان لم يقل كلمة أخرى وتوجه فورًا إلى الممر المؤدي إلى الأسفل.
لكن إيف سرعان ما وقفت في طريقه.
“سأذهب معك. النزول وحدك خطر.”
“…إيف، تنحّي عن طريقي.”
قالها بصوت لطيف، لكن إصراره بدا واضحًا في عينيه كجدار لا يمكن اختراقه.
إيف، التي خبرت عناده الشديد من قبل، علمت أنه حين يتخذ هذا التعبير، فإن أي محاولة لإقناعه تكون بلا جدوى.
شعرت بأن الأرض تميد تحت قدميها.
‘لقد بدا متعبًا حتى أثناء استخدامه لقوة إيلا قبل قليل…’
ورغم أنه لم يُظهر ذلك، إلا أن إيف، التي كانت تراقبه عن كثب طوال الوقت، لاحظت أن هناك خللًا ما بدأ يظهر على جسده.
ذلك الإصرار المستمر على مواجهة المخاطر بمفرده… بدأ يضايقها بشدة.
وفي النهاية، لم تستطع كتمان مشاعرها أكثر، فانفجرت بكلمات كانت تحبسها في قلبها.
“أنا أعلم أنك لست في حالة طبيعية الآن! وإن نزلت إلى هناك بهذا الجسد، فستسقط بسهولة! فهل تظن أنني سأسمح لك بالذهاب وحدك وأنت على هذا الحال؟!”
كلما تكلمت، ازداد احمرار عينيها.
لم تعد تشك بأن التغيرات التي طرأت على جسده كانت بسبب امتصاصه لطاقة سحرها.
لقد كانت قلقة في كل مرة تراه يستخدم قوة إيلا، ولهذا غالبًا ما كانت تسبق ذلك بإلقاء سحرها لتخفف الحمل عنه.
الآن، شعرت وكأن حجرًا ثقيلًا عالق في صدرها.
وإن كان يستخدم تلك القوة ليحميها هي من الأذى… فكلما فكرت بذلك، شعرت وكأن ذاك الحجر باتت تنبت له أشواك تنهش قلبها.
ألم تكن هي السبب في وضعه هذا أصلًا؟
“…أرجوك، لا تعاملني كعبء يا ريان.”
حتى لو كانت تلك الكارثة من فعل الشياطين، فإن شعور الذنب كان ينهشها.
ذاك القلق الذي ظنّت أنها تخلّصت منه، عاد يهمس في قلبها من جديد.
“ثم إن العثور على يوري يعني أن علينا إعادتها فورًا. إن حدث لها شيء أثناء عودتنا، فكل شيء سينهار.”
توهجت عيناها الياقوتيتان بعزم لا يتزعزع.
عزمت إيف أن تواصل الإقناع حتى يرضى باصطحابها معه.
تنهد باليريان ببطء، وكأنه استسلم أخيرًا.
“…لكن لا تبتعدي عني لحظة واحدة.”
وما إن نطق بتلك الكلمات، حتى أشرقت وجه إيف بابتسامة عريضة وهزّت رأسها بحماس.
ولما خاف أن تتحرك بعنف وتؤذي عنقها، أوقف حركتها، ثم التفت إلى من تبقى من الفرسان وقال:
“أنتم ابقوا هنا واستعدوا.”
ففي حال حدث أمر طارئ، كان لا بد أن يبقى من يطلق إشارة للجيش الإمبراطوري لبدء الهجوم.
“نعم!”
“حاضر!”
أجاب الفرسان بوجوه صارمة. وبينما كانوا يتهيؤون، نطق أحدهم بصوت واضح:
“…سأنضم إليكم أيضًا.”
كان هو لوغان كلاين.
وبصوته الجاد والمتحفظ، أعلن انضمامه إليهم. عندها نظرت إليه إيف نظرة جانبية وقالت:
“بعد الآن، لا أحد يضمن حياته.”
“الفرسان وُجدوا ليحموا الآخرين، لا ليُحمَوا.”
“ومع ذلك، لا تتردد في طلب المساعدة كلما ضاقت بك الأمور…”
“كحم، كحم.”
ارتبك لوغان من صراحتها، وسعل في خجل.
“كما تشاء.”
أومأت إيف برأسها، وهي تدرك جيدًا ما الذي يدفعه إلى مرافقتهم.
‘يريد التأكد بعينيه بنفسه.’
ما زال الشك يعتريه، وهو لا يثق في فكرة ترك الساحرة وحدها مع إيلا.
هل يمكن اعتباره شخصًا مخلصًا كالصنوبر؟ أم شخصًا عنيدًا بلا مرونة؟ صعب الحكم.
لكن، في الحقيقة، هذا في صالحي.
لو وجدت يوري، فسيكون وجود شاهدٍ محايد خير إثبات على براءتها.
لحسن الحظ، لم يعترض باليريان على مرافقة لوغان. ورغم أن إيف لمحت ذلك بتبلد، إلا أن شعورًا غريبًا انتابها وهي تنظر إلى ملامحه.
‘يبدو وكأن حياته لا تعنيه…’
ألم يكن من الواجب أن يُظهر قليلًا من القلق؟ لكن سرعان ما طردت الفكرة من رأسها وبدأت بالنزول.
الوقت لم يكن في صالحهم.
كان عليهم إنهاء كل شيء قبل أن يطلع القمر.
وحين وصلت إيف إلى أسفل السلالم ورأت المكان، بلعت ريقها بتوتر.
‘لقد رأيت هذا من قبل.’
إنه نفس المكان الذي رأته في سحر الوهم.
ممر طويل كالفنادق، تتوزع على جانبيه الغرف.
لكن مقارنته بفندق كان ضربًا من المبالغة، فالمكان بدا أكثر قدمًا وتدهورًا من سجن السحرة الذي حُبِست فيه سابقًا.
“آخ…”
حتى رائحة كريهة تسربت من مكان ما.
سدّت إيف لوغان أنفيهما معًا. وبينما كانا يتقدمان، تمتم باليريان بصوت منخفض:
“رائحة جثث متعفنة.”
“…!”
تصلبت ملامح إيف ولوغان في لحظة.
فهل يعني هذا أن هناك من مات في هذا المكان؟
‘لكن طقوس التضحية تتطلب أن تكون القديسة حيّة…’
فهل القربان شخص آخر إذًا؟ هدّأت إيف ضربات قلبها المضطربة وتقدّمت بحذر.
لكن كلما خطت خطوة إلى الأمام، ازداد ذلك العفن في الهواء حتى غمر أنفاسهم.
وأثناء مرورهم أمام غرفة باردة لا أثر فيها لحرارة الأجساد، تمتم لوغان بحذر وهو يراقب محيطه بعين يقظة:
“مهلاً لحظة…”
“ماذا هناك؟“
“أرى شيئًا من خلال فرجة الباب.”
فتحت إيف الباب بحذر، لتقع أنظارها على مجموعة من الملابس الغريبة نوعًا ما. كانت عبارة عن رداء كهنوتي كامل.
لكن… أن يكون هذا الرداء كهنوتيًا؟ صعب التصديق.
“إنه مغطّى بالدماء بالكامل.”
كان من المستحيل التعرّف على هوية صاحبه من كثرة ما تلطخ بالدم.
ولما اقتربت منه أكثر، رأت على الرداء تطريزًا دقيقًا بخيوط ذهبية.
تطريزٌ كان أفخم حتى من الرداء الذي ارتداه آبالون سابقًا، رغم كونه كاهنًا رفيع المنصب.
في تلك اللحظة، خيّم الحزن على وجهَي لوغان وباليريان، إذ تعرفا فورًا على من يخصّه هذا الرداء.
وتحوّل وجه لوغان إلى قناع من الصدمة الجامدة.
سألت إيف:
“لِمن هذا الرداء؟“
أجابها باليريان بنبرة ثقيلة:
“إنه رداء البابا.”
“ماذا؟!”
شهقت إيف، عاجزة عن إخفاء ذهولها.
لكن ما الذي يفعله رداء البابا، مضرّجًا بالدم، في هذا المكان تحديدًا؟
“لحظة…”
تذكّرت الشائعات إن البابا كان في فترة نقاهة، وقد قيل إنه لا يستطيع استقبال أحد.
ومع تلك المعلومة، لم يكن صعبًا عليها أن تستنتج الأمر.
‘لو لم يكن البابا من أتباع الشياطين…’
فهذا يعني أنه… قُتل.
“وماذا عن السيّدة أرييل، رئيسة الكهنة؟”
تمتمت إيف بقلق.
كانت أرييل صديقة والدتها منذ الصغر، وقد كانت دومًا امرأة حنونة تراها كقريبة.
وخطر في بالها الآن أنها ربما لم تسلم هي الأخرى.
شعرت إيف بجفاف في فمها، وانقبض قلبها.
قال لوغان أخيرًا بصوت حازم:
“يجب أن نعثر على القديسة فورًا.”
كانت جملة بسيطة، لكنها بدت مؤثرة لأن لوغان، الذي ظلّ يشك في كل شيء حتى الآن، بدأ يؤمن بأن القديسة موجودة بالفعل.
‘بعد كل هذا، إن لم يصدق الآن، فلا يكون عنيدًا فحسب بل أحمق أيضًا.’
ثم واصلوا السير عبر الممرات.
“أشعر بحرارة بشرية تقترب.”
تمتمت إيف.
ارتسم الأمل على وجه لوغان، فقد ظن أن تلك الدفء لا بد أن يكون للقديسة.
“هنا.”
قالت إيف وتوقّفت.
أغلق باليريان عينيه للحظة، ثم فتحهما وهزّ رأسه إيجابًا.
“لا يوجد شيطان داخل الغرفة.”
كان قد استخدم مجددًا قوة إيلا لاستشعار وجود الشياطين، ثم تقدّم وفتح الباب بنفسه.
رأت إيف من في الداخل، وتمتمت بصوت خافت:
“يوري…”
كانت يوري ممدّدة فوق دائرة حمراء، تمامًا كما حدث مع كيم يونغ هي قبل مئة عام.
وكانت فاقدة الوعي، تتنفس ببطء شديد، لا تكاد تُسمع أنفاسها.
حين تحرّك لوغان نحوها لإنقاذها، أوقفته إيف:
“لا تقترب أكثر. هناك تعويذة غريبة على تلك الدائرة.”
تذكّرت كيف فكّ السحرة التعويذة حين رأوها قبل قرن.
لقد كان حاجزًا سحريًا من نوع خاص.
لكن رغم اسمه، لم يكن هدفه الحماية، بل إبقاء القديسة حبيسة ومنعها من العودة إلى عالمها الأصلي.
“إذا لمستها، سينفجر المكان.”
“ما هذا الفخ الهمجي؟!”
شهق لوغان، وقد شحب وجهه.
أعادت إيف تلاوة التعويذة التي رأتها في رؤيتها السابقة، لكنها لم تنجح.
“صيغة التعاويذ مختلفة هذه المرة.”
أدركت أن الشياطين عدّلوا سحرهم منذ آخر مرة.
شرعت فورًا في تحليل الرموز.
منذ مرورها بتجربة سحر الوهم في السجن، حدث تحول كبير داخلها.
كأنها ورثت ذكريات ليا لوسيِيلا، فاكتسبت معرفة سحرية واسعة.
لم يكن مجرد حفظ نظري، بل خبرة فطرية تسرّبت إلى جسدها.
‘قليلًا فقط… لو تمكنت من تحليل هذه النقطة…’
توهّجت عيناها الحمراوان بنور غامض وهي تحدّق في الحاجز.
وفجأة، سُمِع صوت ضعيف:
“آه… هذا الصوت… إيف؟“
تجمدت إيف في مكانها. لم تكن تتوقع وجود أحد آخر هنا.
استدارت بحذر، وإذا بها ترى أرييل مقيّدة عند الجدار، مربوطة بالحبال، ممددة على الأرض.
________
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 93"