طَق.
فتح الدوق الباب، فرأى باليريان يخرج منه، وبدأ ينسج خيوط هذا الوضع المعقد داخل رأسه.
رغم أنه لم يستطع استيعاب ما يجري تمامًا، إلا أنه لم يكن بإمكانه استبعاد أي احتمال فيما يخص مسألة فتح البوابة السفلية.
‘أن تكون القديسة هي القربان، هاه…’
حتى لو بدا الأمر جنونيًا، فإنه لا يخلو من منطق داخلي.
فالدوق الذي قضى سنوات طويلة في قلب السياسة المركزية، أدرك من خلال تجربته أن البشر لا يترددون في تلفيق الأكاذيب للحفاظ على سلطتهم.
لذا، لم يعد تزوير التاريخ أمرًا يثير دهشته.
ومع ذلك، لم يكن ليسمح بإرسال باليريان إلى المملكة المُقدسة بهذه السهولة.
قال بنبرة حازمة:
“إن كنت مصرًّا فعلًا على الذهاب مع إستيلّا، فأجّل الرحلة لبعض الوقت. أو إن شئت، سأرسل مجموعة من الفرسان، بينما تركز أنت على التعافي. اختر ما يناسبك.”
كان الدوق دييغو لودفيغ، أحد القلائل الذين يعرفون وضع باليريان الحقيقي.
كان يدرك تمامًا كيف ضربطت قوى الشمس داخله، وكيف أن سحر الساحرة الذي تغلغل في جسده جعله غير مستقر على الإطلاق.
أن يتوجه بهذه الحالة إلى قلب العدو؟ هذا جنون.
قال الدوق بنبرة مشددة:
“هل تدرك مدى اضطراب قوة الشمس في جسدك حاليًا؟“
“نعم.”
أومأ باليريان رأسه بهدوء، مما جعل الدوق يشعر وكأنه يتحدث إلى جدار.
‘العناد نفسه… تمامًا كوالدته ميلين.’
لم يستطع إلا أن يلاحظ كم يشبهها، وهذا الإدراك أوقعه في دوامة من الإحباط.
لكن باليريان قال بثقة لا يشوبها تردد:
“سأستعيد استقراري قريبًا.”
هزّ الدوق رأسه متجهمًا:
“لم يسبق لأحد أن تعرض مباشرةً لقوة ساحر بهذا الشكل. على أي أساس تقول هذا الكلام؟“
“أنا أعرف حالتي أكثر من أي أحد آخر.”
لكن كلامه لم يكن مطمئنًا على الإطلاق. أطرق الدوق جبينه بقلق:
“لا أحد يعرف متى ستُفتح البوابة بالتحديد. وإن اندفعت إلى المعركة بجسد لم يتعافَ بعد، فقد تُفسد كل شيء.”
عندها قال باليريان بهدوء:
“بعد يومين.”
رفع الدوق حاجبيه.
رغم أن الجملة بلا فاعل صريح، إلا أن المقصود منها كان واضحًا، فلم يحتج إلى تفسير.
تصلبت ملامح الدوق.
“تقصد أن البوابة ستُفتح بعد يومين؟“
“نعم.”
كان الوقت المتبقي قصيرًا للغاية.
نظر إليه الدوق بعينين حادتين، فتابع باليريان:
“تلقينا وحيًا. سيُفتح الباب في الليلة التي يطلع فيها القمر الأحمر.”
“…القمر الأحمر؟ تقصد خسوف القمر؟“
رفع الدوق عينيه نحو السماء.
ليل هادئ، وسكينة مخيّمة، يتلألأ فيها قمر شبه مكتمل.
بعد يومين، حين يكتمل هذا القمر تمامًا… قد ينهار هذا السلام بلا أثر.
* * *
في اليوم التالي.
نهضت إيف من فراشها وبدأت في تجهيز نفسها للرحيل إلى المملكة المُقدسة.
سألها باليريان بقلق:
“هل أنتِ بخير؟“
فأومأت له بحيوية.
لقد استعادت عافيتها بسرعة مدهشة، لدرجة يصعب تصديق أنها كانت على وشك الموت قبل أيام.
هل جسد السحرة يُشفى بهذه السرعة؟ فقد عادت تقريبًا إلى حالتها الطبيعية تمامًا.
سألته بدورها وهي تنظر إليه بعناية:
“وأنت؟ كيف حالك؟“
وضعت يدها على وجهه برفق.
في الواقع، بدا وجهه شاحبًا بعض الشيء.
“ألست بحاجة إلى مزيد من الراحة؟“
ابتسم قائلاً:
“بعد انتهاء هذا كله، سأرتاح كما أشاء.”
ثم أضاف بصوت حنون وكأنه يهمس بوعد لا يُنسى:
“وسنتزوج.”
“……..”
ارتبكت إيف واحمر وجهها، فدفنت رأسها بين أمتعتها بحجة ترتيبها، محاولة إخفاء خجلها.
قال لها بفزع:
“إيف! ستختنقين هكذا!”
أبعدها سريعًا عن الحقائب، فازداد إحراجها من ردّ فعله الحريص المبالغ فيه.
منذ أن كادت تموت على يد الشيطان في السجن، صار يُراقب كل تصرف لها بعين يقِظة مفرطة.
قالت له بنبرة تميل للعتب:
“ريان، بهذه الطريقة… هل ستستطيع خوض المعركة أصلاً؟ لا تقلق عليّ، فقط اعتنِ بنفسك أكثر.”
كانت نبرتها مزيجًا من القلق والانزعاج. لم تنسَ أنه بعد أن تلقى الموجة الكاملة من سحرها بقي غائبًا عن الوعي لمدّة أسبوع كامل.
وكان عليه أن يرتاح أكثر، لكنه استيقظ وخاض معركة مباشرة لإنقاذها.
لم يكن الأمر بسيطًا، وكانت قلقة عليه من أعماقها.
“هل سيرافقنا فرسان آخرون؟“
من الأفضل أن ترافقهم وحدة إضافية لأجل الأمان وتعزيز القوة، بدلًا من أن يذهبا وحدهما.
“لا. إن كثر العدد، زادت فرص الانكشاف وقد يتسلل شيطان بيننا وقد يُفضح موقعنا.”
“…يعني أننا سنذهب وحدنا؟“
“نعم. سنخوض المعركة الأولى بأنفسنا. وإن ساءت الأمور، سنطلق هذه الإشارة، وعندها تتدخل قوات الإمبراطورية التي ستكون في الجوار.”
رفع عصا حمراء صغيرة وهو يشرح.
‘لكن هذا يعني أن المعركة الرئيسية سيخوضها الاثنان فقط.’
أصابها القلق.
‘هل يمكن حقًا إنقاذ العالم بهذا العدد القليل؟‘
كانت تتوقع على الأقل أن يُشكّلوا فرقة استكشافية.
نظرت إلى باليريان، الذي كان يبتسم وكأنه ذاهب في نزهة، فتساءلت إن كان يدرك حجم المهمة.
‘يا أحمق، نحن ذاهبون إلى حرب!’
أرادت أن تصرخ عليه، لكنها لم تستطع كتم ابتسامته… فصمتت.
“هذا جنون.”
كسر الصوت المألوف جوَّ الحميمية المفاجئ.
دخل زافيير الغرفة بذراعين متشابكتين ونظرة غير مصدّقة وهو يحدّق في باليريان.
ثم التفت إلى إيف وقال بحزم:
“لا يمكن أن نترككما تذهبان وحدكما. يا لوغان كلاين، اجمع فرقة ورافقهما.”
“أنا؟“
قال لوغان الذي كان واقفًا جانبًا بنبرة دهشة خفيفة.
نظرت إليه إيف للحظة، لكنه كان لا يزال يُحدّق بها بعينين تحملان الريبة. فأشاحت بنظرها عنه متظاهرة باللامبالاة.
حتى وإن تجاهلت شكوكه تجاهها، لم تنسَ أنه كان قد استدعى الطبيب الملكي متّهمًا إياها بإدعائها للمرض.
قال زافيير بنبرة جادة:
“نحتاج إلى شخص ينقل لنا الأوضاع بموضوعية.”
“آه…”
تفهمت إيف الموقف سريعًا.
إرسال ساحرة ومعها حليفها إيلا وحدهما… أمر يثير الريبة بعض الشيء.
بدا أن الحكم نابع من زافيير الذي عُرف دومًا بتعامله الحذر المدروس مع كل صغيرة وكبيرة.
“…أعتمد عليك، يا قائد لودفيغ.”
تقدم لوغان كلاين نحو باليريان بوجه لا يخلو من الامتعاض، ومد يده لمصافحته في تحية رسمية واضحة.
غير أن باليريان دون أن يلتفت إلى اليد الممدودة، وجه حديثه بكل بساطة إلى إيف.
“إيف، أتشعرين بالجوع؟“
“…هم؟ آه، نعم، أنا جائعة.”
تفاجأت إيف من تجاهله الصريح، لكنها هزت رأسها دون أن تدري.
تجاهل باليريان بدا طبيعيًا لدرجةٍ توحي بأن يده الممدودة لم تُرَ أصلًا.
تجمدت نظرات لوغان، ثم ثبتت على إيف. كانت نظراته صريحة في عداوتها.
‘ولِمَ كل هذه الكراهية نحوي أنا بالذات؟!’
كادت إيف تصرخ في وجهه من الضيق، لكنها ضبطت نفسها متذكرةً أنهم سيكونون في صحبة بعضهم لاحقًا.
–طَرق طَرق.
رن صوت الطرق على الباب، ودخلت عربة طعام تنبعث منها رائحة شهية إلى غرفة العلاج.
‘ما هذا الآن؟‘
نظرت إيف وبقية الموجودين بدهشة إلى عربة الطعام.
وحده باليريان لم يظهر عليه أي ارتباك، بل على العكس، ابتسم بفخر وقال:
“بما أن الرحلة طويلة وشاقة، فعلى إيف أن تملأ معدتها جيدًا قبل المغادرة.”
بدا وكأنه كان يخطط لذلك منذ البداية. وكأن الأمر مألوف لديها على نحو مقلق.
‘هل من المعقول أن نتناول الطعام في مثل هذا التوقيت؟‘
لكن الرائحة الشهية المتصاعدة جعلت لعابها يسيل رغماً عنها.
وسرعان ما بدأ الخدم بترتيب الأطباق على طاولة صغيرة داخل غرفة العلاج.
“لكن… ماذا عن معدتك أنت؟ ألن تأكل؟“
رفعت إيف حاجبيها وسألت باستغراب، فأجابها باليريان وهو يضحك ببساطة:
“لقد أكلت قبل أن آتي. هذا كله لكِ، استمتعي.”
أي أنها مطالَبة الآن بأكل كل ذلك وحدها!
فغرت إيف فمها من الصدمة. فحتى عندما طلب لها وجبة كاملة في المطعم سابقًا، لم يكن هناك هذا الكم الهائل من الطعام. بل بدا أن الكمية تكفي عشرة أشخاص على الأقل!
‘هذا جنون! من سيأكل كل هذا؟!’
حتى زافيير الذي عادةً ما لا يُبدي رأيًا في مثل هذه الأمور، تحدث وهو يعبّر عن قلقه:
“هل تظن أن الآنسة قادرة على تناول هذا وحدها؟ هدر الطعام ليس تصرفًا محمودًا.”
رد باليريان بوجه ممتقع:
“سمعتُ أن وزنها قد انخفض أثناء احتجازها في السجن، فلا بد من تعويض ما فُقد.”
ذكره لأمر السجن علنًا جعل الجو يزداد توترًا. كانت نظرته لزافيير كأنها تقول “أي وقاحة أن تترك آنسة تتضور جوعًا!”، ما جعل زافيير يشعر بالحرج ويدافع عن نفسه قائلًا:
“لقد كان الطعام موزونًا بعناية حسب المعدل الغذائي المتوازن للمرأة في إمبراطورية هيليوس.”
لكن باليريان هز رأسه ساخطًا:
“بالكاد كان يكفي إيف.”
“…ريان…”
همست إيف باسمه بخجل وقد شعرت وكأنها تحوّلت إلى آلة أكل. ومع ذلك، كانت نظرته نحوها مليئة بالحنان والتوقع. فلم تجد إلا أن تشكره بخفوت:
“…شكرًا لاهتمامك.”
قال لوغان وهو يتنهّد بانزعاج:
“بما أننا سنغادر فور انتهائها من الطعام، فسننتظر هنا.”
وجلس على الأريكة الصغيرة في غرفة العلاج، بينما اصطف بعض الفرسان الآخرين إلى جانبه.
‘ما هذا بحق السماء؟!’
هل يُعقل أن تأكل أمام كل هؤلاء الناس؟
كانت إيف على وشك أن تنهار من الإحراج، لكنها فهمت جيدًا أن باليريان لن يتحرك من مكانه إن لم تأكل. فاضطرت إلى أن تمسك السكين والشوكة بعزيمة حزينة.
‘يجب أن أنهي الطعام بسرعة قبل بدء الخسوف.’
رغم أن الشمس كانت ساطعة في الخارج، فإن قلبها كان يركض سباقًا مع الزمن.
“هل الطعام يعجبكِ يا إيف؟“
من بين الجميع، بدا فاليريان الوحيد المستمتع، ومرتاحًا وسعيدًا.
واستمر وقت الطعام المحرج.
وكما توقع باليريان، أنهت إيف جميع الأطباق الموضوعة أمامها. ومع مرور الوقت، ساد جو غريب من الصمت داخل الغرفة.
كانت النظرات مصدومة تمامًا، وكأنهم لم يتخيلوا أن بإمكانها أكل هذا القدر.
‘لم أكن أعلم أن معدتي تملك هذه القدرة!’
دهشت إيف من نفسها، فقد بدا وكأن معدتها كانت تهضم أثناء تناول الطعام!
“يسرّني أنكِ استمتعتِ بالطعام.”
ابتسم باليريان برضًا، ثم أخذ منديلًا ومسح برفق أطراف فمها.
“أنا أملك يدين أيضًا يا ريان…”
همست له بإحراج، خاصةً بوجود الآخرين، لكنه رد ببساطة وبسمة بريئة:
“أردتُ أن أفعلها بنفسي.”
“همم… حسنًا.”
عادةً كانت لتصر على أن تفعل ذلك بنفسها، لكنها باتت الآن ضعيفة أمام اهتمامه هذا.
ربما لأنها تشعر بالذنب تجاهه بعد كل ما مرّ.
‘إن كان هذا يسعد ريان…’
أغلقت فمها واستسلمت.
“علينا أن نغادر قبل غروب الشمس.”
وفي تلك اللحظة، قطع صوت صارم الأجواء اللطيفة.
كان صوت لوغان كلاين.
_______
ترجمه: سـنو
التعليقات لهذا الفصل " 89"